خبير اقتصادي يكشف عن مفاتيح بوابات التعافي و الخروج من برزخ الحرب
يُعَدُّ مفهوم التعافي من المفاهيم التي يدرج كثيراً استخدامها في الدراسات التي تتصدى لدراسة واقع الدول والمجتمعات التي تخوض حروباً داخلية أو نزاعات مسلحة، أو تواجه عدواناً خارجيّاً أو احتلالاً، سبباً لدمار البنى الاقتصادية والاجتماعية وخرابٍ كبير، وفي الواقع، إن الحالة السورية تشكل من الناحية العملية وضعاً مختلفاً، ينطوي على تعقيد أكبر، لدواعٍ وأسباب مختلفة، منها مفاعيل الجيوبولتيك الإقليمي والدولي الذي يضفي خصوصية معينة، واستحقاقات مختلفة، بالنسبة للمسألة السورية، فضلاً عن دور التماس المباشر والصراع المديد مع “إسرائيل”، من كل ذلك إلى التدخل الخارجي والتوظيف الممنهج بعناية فائقة وتخطيط مدروس لأدوات الإرهاب الداخلي والخارجي، لتخريب الاقتصاد، وتدمير البنى الإنتاجية والمرافق الخدمية بصورة ألحقت بالاقتصاد السوري خسائر فادحة، تقدّر بحسب البيانات الدولية بمئات المليارات من الدولارات، إضافة إلى الأضرار الاجتماعية والثقافية البنيوية العميقة، التي تحتاج معالجتها إلى تكاليف كبيرة، وزمن قد يطول لسنوات عديدة، لأن الأمر يتعلق بمدى توافر الشروط، وامتلاك القدرة لاستعادة مسار، تمكنُ بوساطته إعادةُ بناء القدرات والإمكانات، وتفعيل البنى والمؤسسات، وسط بيئة إقليمية ودولية متحولة، تمتلك نفوذاً وأدواتٍ من أجل المساعدة في التدخل المباشر وغير المباشر، وبالتالي التأثير بقوة في مجرى العمليات البنيوية/الداخلية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية)، بصورة تشكل تحدياً كبيراً لإرادة الدولة السورية التي تسعى بقوة نحو استرداد حضورها ودورها ووظائفها على كامل أراضيها.
ذلك يعني أن عملية الإقلاع والتعافي الاقتصادي في الحالة السورية ليست عملية سهلة وبسيطة، بل بخلاف ذلك، تعد عملية بالغة التعقيد، وتحتاج لموارد اقتصادية كبيرة وفرص استثنائية، يعزز مستوى ندرتها تشابك الخيوط الداخلية والخارجية، ما يتطلب العمل بجهود نوعية وتقنيات عالية المستوى على صعيد العلاقات مع العالم الخارجي، بما يساعد في إعادة صياغة التحالفات الدولية بصورة تمكن من التخلص من حزمة كبيرة من عقوبات اقتصادية جائرة، ألحقت بالشعب السوري واقتصاده خسائر وأضرار بالغة، ستلاحقه من حيث النتائج والتأثيرات لعقود طوال، في الوقت الذي يتعين فيه على الدولة السورية تأمين اعتمادات مالية وموارد اقتصادية، قد لا تتوافر بصورة كافية لتمويل مرحلة التعافي، على نحوٍ يؤمّن شروط ومتطلبات الدافع الذاتي المطلوبة لتسريع وتائر النهوض الاقتصادي والاجتماعي.
إلا أن حدود عملية التعافي الاقتصادي ومتطلباتها، لا يمكن أن تنحصر في حدود ما تقدّم، بل غالباً ما تتجاوز ذلك بكثير، وهذا ما توضحه تجارب معظم الدول التي عاشت حروباً داخلية، أو تعرضت لعدوان خارجي، إذ بمجملها تؤكد، أن مرحلة التعافي الاقتصادي تتطلب العمل المكثف في مستويين اثنين:
المستوى الأول: يجري في هذا المستوى تنفيذ مجموعة كبيرة من الأنشطة الوظيفية والمهام البنائية على مستوى الدولة، تفضي إلى بناء المؤسسات، وإصلاح الهياكل، وإنتاج أو تطوير وظائف وقائية للدولة، للحيلولة دون خلق ظروفٍ تساعد في إنتاج الشروط التي ولّدت دورة العنف، إضافة إلى خلق وتطوير وظائف تأهيلية للأفراد والجماعات.
المستوى الثاني: ويتم في هذا المستوى تنفيذ مجموعة من الأنشطة التي تتعلق بعملية إعادة بناء القيم والمفاهيم الثقافية، وبناء صيغٍ اجتماعيّة تساعد في كسر الجليد الذي أصاب النسيج الاجتماعي، وتذويب الحواجز. وهي استحقاقات وأنشطة تتطلب وقتاً طويلاً وجهوداً استثنائية.
ثانياً- حول منطق المصالح و طبيعة رأس المال
لا يقدم المنطقُ الاقتصاديُّ العقلانيُّ خدمة كبيرة، لأصحاب الإيديولوجيات الحالمة، ولا يسعف الكثير من أصحاب المنطق الرومانسي. حيث تفصل مسافة شاسعة بين حدّي المنطق في كلا الخطابين. ففي الوقت الذي يحاجج الرومانسي والإيديولوجي بالواجب والوازع الداخلي، والضرورة الأخلاقية والقيمية، يقابله خطاب رأس المال بمنطق مختلف ينطلق من الكائن المحموم بالمنافسة على الفرصة والمصالح والحصة والدور وتكلفة الفرصة البديلة وعائد التوظيف، ومعدل التضخم والربح والخسارة… وغير ذلك، إلى ما يتعلق بدور التقدم العلمي والتطور التقني والتكنولوجي وتطبيقاته الاقتصادية التي غيّرت مفاهيم الحاجة والثروة والموارد وطبيعة الأداء؛ بل غيّرت حدود الزمان والمكان وجغرافيا الموارد… وغير ذلك.
ومع ذلك، إنَّ الهوّة أو الفجوة بين الخطابين، قد تضيقُ أو تتسعُ، والفاصل قد يختلف باختلاف السياق الزمني والظروف ومغزى اللحظة التي تشكل سياق التطور التاريخي لمسار الدول والمجتمعات، ما يجعل عملية الفرز والتصنيف من الناحية الموضوعية خارج نطاق الضرورة أو منطق اللحظة التاريخية اللذين يتطلبان الدمج لا التفكيك، والتكامل لا التنافر، والتواصل لا الانفصال، ما يعني ضرورة القراءة بهدوء وواقعية، كمقدمة للمراجعة والتفكير بصيغ مختلفة، لإعادة بناء الكثير من تحالفات الضرورة التاريخية التي تفرضها كاستحقاق متغيرات السياسة ومفاعيل الاقتصاد، بما في ذلك إعادة إنتاج تحالفٍ تاريخي جديد بين رأس المال والعمل، بإشراف فاعل وتوجيه مؤثر للدولة، ككيان سياسي أسمى، وإطار تنظيمي أرقى، ضامن لحقوق ومصالح مختلف المكونات البنيوية التي تشكل الإطار الاجتماعي العام أو الكلي.
وعليه، لطالما تحول دور الدّولة إلى كيان موازن وضامن (بقوة القانون وقيم وتقاليد المؤسسات) لا إلى مرجح أو مثقل، مهمته الإشراف والتوجيه وضبط المسار، فلا ضير ولا خطورة، يمكن أن يترتبا على النزوع الدائم والمكثف لرأس المال، للبحث عن الفرصة أو المصلحة، والتفكير بمنطق تعظيم الربح أو العائد، مع الأخذ بالحسبان أن رأس المال لا يمكن أن يُصنف من الناحية العملية ككتلة صلبة ومتجانسة، فهو ليس من منشأ واحد، ولا من طبيعة واحدة. والتجربة والمعطيات تساعدان في تصنيف رأس المال ضمن ثلاث مجموعات أو ثلاثة أنواع هي:
الأول: انتهازي، يتحين الظروف ويستغل الفرص ونقاط الضعف، يستعد بصورة دائمة للانقضاض والاقتناص ومن ثم الهروب، وهذا يشكل مصدرَ خطرٍ وتهديدٍ مصرفيٍّ واقتصاديٍّ وتنمويٍّ حقيقيٍّ، لابدَّ من التعاطي معه بصورة وقائية.
الثاني: رأسمال تحكمه القواعد والضوابط الطبيعية لرأس المال، يسعى للكسب وتحقيق الربح، لكنه في الوقت ذاته لديه الوازع، ولديه الإحساس بالمسؤولية الوطنية والشعور الكامل بالواجب تجاه مسألة بناء الدولة، وتحقيق الانتعاش الاقتصادي والنمو، وهذا النوع كان له دور كبير في تاريخ تشكل المشهد الاقتصادي في سورية وحتى اللحظة الراهنة.
الثالث: رأسمال ذو مضمون أو محمول سياسي، بمعنى أنَّ دورَه وحضورَه مرتبطان بأجندات سياسية، لذلك لا يدخل ولا يشارك، إلا بشروط سياسية، وقيود صارمة لجهة ما يتعلق بعملية تنفيذ استحقاقات سياسية، تتعلق بتوجيه دفة السياسة والخيارات الاستراتيجية للدولة في الداخل والخارج، وهذا النوع متوافر بقوة في الحالة السورية، إلا أن عملية تقييم دوره وفاعليته تتطلب مقاربة بمدخل وسياق مختلف، كما تتطلب إطاراً أكبر من الإطار الذي تستهدفه الورقة الراهنة.
في ضوء ذلك، يجب أن تتحدّد بصورة واضحة وقويّة معالم استراتيجية الدولة السورية في مرحلة التعافي، ليس فقط بخصوص الصيغ الاقتصادية التاريخية؛ بل وحتى تجاه القطاع الخاص ودوره، من كل ذلك إلى طبيعة رأس المال المطلوب كشريك، يمكن الرهان عليه في طور التعافي، كمدخل لمرحلة إعادة البناء، ما يعني ضرورة الإسراع في عملية صياغة إطار عامٍ/كليٍّ، يتضمن منظوراً أو رؤيةً، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بوضع استراتيجية وقائية تساعد في تحييد واستبعاد النوع الأول من رأس المال، كي لا يتسبب بارتجاجات مالية واقتصادية، يمكن أن تؤثر في نوعية المخرج السياساتي للدولة السورية، أم لجهة ما يتعلق باستراتيجية تحفيز ومكافأة النوع الثاني، ودفعه للانخراط بقوة وفاعلية في عملية إعادة البناء، من كل ما تقدّم إلى المنطلقات والقواعد التي تحكم مسار التفاوض مع النوع الثالث، حول إمكانات المشاركة من عدمها، لتتحدّد بناءً عليه أسس المشاركة وضوابطها، وبالتالي القطاعات والميادين المستهدفة بالنسبة لعملية التمويل.
ثالثاً- مضمون استراتيجية العمل في مرحلة التعافي ومحاورها
إنَّ عملية الإقلاع الاقتصادي والنهوض ليست عملية بسيطة وسهلة؛ ذلك بسبب أنَّ حجم الموارد محدود، وبعضه مشروط، في الوقت الذي يبلغ فيه حجم الخسائر والاستحقاقات نسباً كبيرة، وسقوفاً عالية، ما يعني ضرورة تبني استراتيجية اقتصادية وتمويلية رصينة، بعيدة عن الشعارات والمأمولات، تنطلق من الواقع والضرورات، وبأولويات عمل عقلانية، تستند إلى تقييم خبراء وتكنوقراط وطنيين، لديهم الفهم والدراية والجرأة العلمية، وتدرك بصورة كافية أن ما قبل الحرب ليس كما بعدها، وأن عملية إعادة إنتاج الماضي أو المنظومة يُعدُّ وهماً كبيراً، وأن الرهان على منهج وسياسات الأمس خطير، وينطوي على نتائج ومخرجات كارثية.
فقد يتخيل البعض أن الانفتاح وإعطاء دور أكبر لرأس المال والقطاع الخاص هو المشكلة، وأن الحلّ الأمثل يكمن بدور أكبر وأوسع للدولة، وتمدد أو انتشار لشركات القطاع العام، وبالتالي خلق شركات اقتصادية/إمبراطوريات اقتصادية عامة هو الحلّ. إنَّ القضية ليست كذلك. والواقع لا يحتمل تجاذبات إيديولوجية، ولا استعراضات نظرية، فالمسألة هي مسألة واقعٍ وعُسرٍ اقتصاديٍّ ومالي كبيرين ومتداخلين مع شبكة مصالح محليّة وإقليميّة دوليّة، لا يمكن تجاوزها؛ بل يجب التعاطي معها بواقعية وحصافة، كما يجب أن يكون تقييم دورها وفاعليتها حاضراً بقوة في عمليات التقييم والاستشراف العقلاني والتحليل الموضوعي المطلوبة لتحديد طبيعة المشهد الاقتصادي والسياسي المستقبلي. فالمسألة لا تتعلق بعام أو خاص كما نعتقد، بمقدار ما تتعلق بضرورة إعادة بناء الهياكل والقوى الاقتصادية التي تشكل البنية التحتية للدولة السورية على أسس متينة تقوم على مرتكزات صلبة تتجسد في قوة نفاذ القانون، ووجود أطر تشريعية واضحة، وامتثالٍ وتمثُّلٍ قويين للشفافية ولروح المؤسسات.
وبخلاف ذلك، أي في حال ضعف القانون، وهشاشة المؤسسات وغياب الضوابط والمحاسبة والمعايير، سيتحول القطاعان العام والخاص، حكماً إلى ساحة للممارسات الفاسدة والاستغلال النَّهِم، والتغول المدمر لنسيج المجتمع والاقتصاد، ما يجعل الشّعور أو الإحساس بالنتائج والتداعيات السلبية الناجمة عن الضعف والترهل والفساد واحداً بالنسبة للمواطن، لأن الملكية لا تغير من طبيعتها، ولا من مخلفاتها ولا مفاعيلها السلبية. بل غالباً ما يكون الإحساس بالغبن والظلم أشد وقعاً وألماً، إذا جاءا من القطاع العام، لأنه اندرج في موقع الرهان تاريخيّاً، وتبوأ موقعاً أسمى في مخزون الضمير واللاوعي الفردي والجمعي. بمعنى آخر: لا فرق بين فساد وضررٍ يأتي من مؤسسة عامة أو خاصة، لأن طبيعة الضرر ونتائجه واحدة بالنسبة للمواطن، ما يعني ضرورة الخروج من الجدل الإيديولوجي العقيم، والعمل بقوة لإنتاج رؤية اقتصادية إطارية كلية متكاملة واضحة، ذلك أنَّ معركة الاستحقاقات الاقتصادية ومتطلبات إعادة البناء وتحفيز النمو أصبحت تطل برأسها بقوة في الوقت الراهن.
في ضوء ما تقدّم، وعلى أساس التحليل والاستشراف لما انتهى إليه واقع البنية الاقتصادية السورية، والاستحقاقات المالية والتنموية الكبيرة بعد ثماني سنوات من الحرب والدمار والعقوبات الدولية على سورية، نرى أنه لابد من الانطلاق كمدخل أولي للتعافي الاقتصادي والمالي من استراتيجيات عمل تنطلق من أولويات –لا ينفي تقديمها والدفع نحو العمل بها أهمية قطاعات وأنشطة أخرى– نعرضها عن طريق المحاور الآتية:
المحور الأول: الأولويات والرهانات القطاعية في مرحلة التعافي
تفيد التجارب التي خاضتها دول كثيرة عاشت حروباً داخلية وصراعات محلية، أن مرحلة التعافي تحتاج لمنظور مختلف لجهة ما يتعلق بترتيب الأولويات القطاعية. إذ إنه وفي ضوء محدودية الموارد الاقتصادية والمالية الحكومية وندرتها وارتفاع تكاليفها، يصبح غير عقلانيٍّ أو غير موضوعيٍّ توزيعها على جبهة واسعة من مجالات الاستثمار والتوظيف؛ ذلك لأن الهجوم بموارد قليلة على جبهة واسعة من الاستثمارات سيؤدي في ضوء انخفاض كتلة التوظيف بالمقارنة مع الحاجة، إلى ضعف كفاءة رأس المال، وبالتالي لن يكون لها أي أثر أو دور تنموي واضح النتائج والتأثير، ما يعني ضرورة التوجه نحو خيار توظيفي واستثماري بديل، ينطلق من ضرورة التركيز الحكومي على استثمار وتوظيف الموارد المتاحة (القليلة) في قطاعات وأنشطة ذات طابع أو مضمون استراتيجي بالنسبة للدولة وللمجتمع، مع ضرورة توجه الدولة بقوة في الوقت ذاته نحو تحفيز القطاع الخاص لسد العجز الاستثماري والتمويلي للقطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى. وفي هذا الإطار، نعتقد بأنه يتعين على الدولة السورية إعادة توجيه برامج واعتمادات الإنفاق والتمويل العام عبر الموازنة العامة للدولة نحو:
تطوير قطاع التربية والتعليم: الذي يُعَدُّ شرطاً موضوعيّاً وقطاعاً حيويّاً واستراتيجيّاً؛ ذلك في ضوء الخسائر الكمية والنوعية الكبيرة التي مُني بها هذا القطاع، جراء هجرة أو هروب الكثير من الكوادر والكفاءات البشرية الحقيقية طوال سنوات الحرب، ما يتطلب ضرورة تحفيز هذا القطاع، مع ضرورة المراجعة والتقييم العاجل والسريع لتجربة ودور الجامعات والمعاهد الخاصة، وبقية برامج التعليم في سورية.
تطوير البنية التقنية والتكنولوجية للمؤسسات الحكومية التي باتت بمعظمها مهتلكة وتاريخية، مع تركيز مكثف على مسألة تدريب الكوادر البشرية في المؤسسات الحكومية وتحفيزها، إذ إنّه في ضوء انخفاض الأجور والمرتبات في مؤسسات القطاع العام، بات القسم الأكبر منها يهاجر، أو ينتقل للعمل في مؤسسات وشركات القطاع الخاصّ.
تطوير قطاع الصحة: يُعَدُّ قطاع الصحة من القطاعات الأساسية، التي تمس حياة مختلف شرائح المجتمع السوري، والتي تراجعت القوة الشرائية لمداخيلها ومرتباتها بصورة حادة، وتسببت في ارتفاع نسبة الفقراء والمهددين بالجوع والجائعين والمحتاجين للعلاج والرعاية الصحية التي ارتفعت تكاليفها بصورة تفوق قدرات الناس وإمكاناتهم المادية، ما يتطلب من الدولة الاستمرار في تقديم الرعاية الطبية، ودعم الاستشفاء والعلاج، تحديداً للإمراض المزمنة التي تتطلب تكاليف مادية مرتفعة.
تطوير وتحفيز قطاع الزراعة والصناعات الزراعية: ينطوي قطاع الزراعة في سورية على خصوصية تاريخية، لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها، لجهة ما يتعلق بدور هذا القطاع في توفير شروط ومتطلبات الأمن الغذائي، ما يعني ضرورة استمرار الاهتمام الحكومي بتطوير هذا القطاع وتحفيزه، نظراً لأهميته في توفير شروط ومتطلبات الأمن الغذائي. إلا أن النجاح الحكومي في هذا الإطار لا يمكن أن يتم بالأدوات والسياسات نفسها، ما يعني ضرورة المراجعة والتقييم للخطط والبرامج والسياسات والمؤسسات والحلقات الوسيطة، وآليات الإنفاق والدعم والتسويق، بما يساعد في جعل سياسات الدعم تتم بالقنوات الصحيحة، ووفق الأهداف والجدوى الاقتصادية المرجوة منها، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بتوفير شروط ومتطلبات الأمن الغذائي وتحسين دخل الفلاحين والمزارعين، وبالتالي تحسين نوعية حياتهم، أم لجهة ما يتعلق بالحد من الهجرة من الريف إلى المدينة وتحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي.
أما بالنسبة لبقية القطاعات الاقتصادية (الصناعة والسياحة والتطوير التقني والتكنولوجي والنقل والتجارة الداخلية والخارجية وعمليات الاستيراد والتصدير)، فيُعَدُّ ضروريّاً في مرحلة التعافي الاقتصادي أن تتجه الدولة بقوة نحو تحفيز القطاع الخاص المنظم والمحوكم، وفق الأصول والمعايير الدولية، للاستثمار بقوة في هذه القطاعات وسدّ فجوة العجز المالي والتمويلي الناجم عن محدودية موارد الدولة، على أن ينحصر دور الدولة في البقاء كمشرف، مراقب وضامن لتنفيذ المعايير والنظم عن طريق القوانين والتشريعات.
المحور الثاني: القطاع المالي والتمويل
يُعَدُّ قطاع المال من القطاعات الأكثر أهمية في مرحلة التعافي الاقتصادي، إذ لا يمكن للدولة أن تبدأ عملية البناء، دون أن تتوفر لها مصادر التمويل والموارد المالية بصورة مطلوبة بالحدّ الأدنى لتمويل الإنفاق. وفي ضوء الندرة النسبية للموارد والشح الذي أصاب مصادر التمويل الطبيعية، أصبح من الضروري أن تتبنى الدولة استراتيجية عمل مختلفة على مستوى قطاع المال والتمويل تنطلق من الآتي:
– إعادة هيكلة القطاع المالي والتمويلي بصورة تساعد في تحفيز هذا القطاع وتقويته، وتحويله إلى رافعة حقيقية وذراع قوية للنهوض الاقتصادي والتعافي.
– إعادة النظر في النظام المصرفيّ والقوانين التي تحكم سير العمل فيه، تحديداً المصارف العامة (لجهة ما يتعلق بالبنية التقنية والتكنولوجية ونظام الحوافز والرواتب والتعويضات)، وتحرير هذا القطاع من القوانين التقليدية التي تحكم بقية القطاعات الاقتصادية والخدمية، نظراً لخصوصية العمل في هذا القطاع، وحاجته الماسة للمواكبة الدائمة والمستمرة، والتكيف تنظيميّاً وتكنولوجيّاً وحوكميّاً/مع المعايير الدولية.
– إعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة، تحديداً لجهة ما يتعلق بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، في ضوء إعادة هيكلة واجبة ومطلوبة للاقتصاد والإدارة، تتطلب بدورها تغيراً في الدور المفترض للقطاعين العام والخاص ورهانات الدولة التنموية، وأولويات الإنفاق العام القطاعية، لجهة إعادة توزيع الاعتمادات المالية بصورة تستهدف قطاع التربية والتعليم والصحة والزراعة والصناعات الزراعية.
– تحسين كفاءة مصادر الإيرادات الطبيعية من ضرائب ورسوم وعوائد أملاك الدولة.
– التقليل من درجة ومستوى الاعتماد على مصادر التمويل الاستثنائية، سواء أكان ذلك عن طريق الإصدار النقديّ والاقتراض الداخليّ، أم الاعتماد على عمليات الاستدانة والاقتراض الخارجي.
– صياغة سياسة مالية ونقدية محكمة لجهة ما يتعلق بتوطيد دعائم الاستقرار النقدي والمالي، وضبط معدلات التضخم ضمن حدود استهدافية.
– استرداد المال العام الذي بُدّد واستُبيح طوال سنوات الحرب وقبلها.
– تنحيف الجهاز البيروقراطي للدولة؛ ذلك عن طريق إعادة هيكلة البنى والإدارات والقوى البشرية، بما في ذلك من عمليات دمج وتصفية تستهدف الحلقات البيروقراطية والهياكل الإدارية الوسيطة، التي ترهق الموازنة العامة للدولة، وتتسبب في استنزاف مقدراتها، في الوقت الذي لا تقدم أي خدمة حقيقية أو قيمة مُضافة.
المحور الثالث: المحور الوظيفي وإعادة تعريف دور الدولة ودور القطاعين العام والخاص
تتطلب مرحلة التعافي حسم الخيارات وتجنّب التردد؛ ذلك عن طريق تبني استراتيجية واضحة، لجهة ما يتعلق بتحديد وظائف الدولة ودور القطاع الخاص.
وعليه، و في ضوء واقع العسر المالي في سورية والحاجة الكبيرة للتمويل، وفي ضوء التحولات التي حصلت على مستوى العالم، بما في ذلك على مستوى الدول الحليفة والصديقة، لابد من عملية تقييم جريئة وموضوعية لجهة ما يتعلق بدور الدولة الاقتصادي في سورية، وضرورة انسحابها من متدخل ومنتج لبعض السلع والخدمات التي لم تعد مجدية، إلى مراقبٍ قويٍّ ضابطٍ لإيقاع الاقتصاد السوري، عن طريق تطبيق القانون المباشر والشفاف، وتعزيز بنى المؤسسات، وتطبيق أحكام الدستور، والتنسيق مع القطاع الخاص المنظم والمحوكم، مع ضرورة الحفاظ على مؤسسات القطاع العام الاستراتيجية التي تتطلب بصورة عاجلة إعادة هيكلة وحوكمة طبقاً لمعايير الحوكمة الاقتصادية العالمية.
المحور الرابع: محور السياسات والاستراتيجيات التنموية
تحتاج مرحلة التعافي الاقتصاديّ في سورية تبني سياسات اقتصادية (نقدية ومالية) وتشريعية، تضمن الاستقرار المالي والنقديّ، وتحول دون السماح بارتفاع معدل التضخّم عن حدود استهدافية، تساعد في تنشيط الطلب الفعّال، وتسريع وتائر دورة أو حركة النقد، وكفاءة الاستثمار والتوظيف، كما تحتاج العمل بصورة مكثفة لتوفير شروط ومتطلبات الاستثمار الموضوعية، والتي لا تنحصر في حدود منح الإعفاءات الضريبية، أو تقديم التسهيلات التمويلية والائتمانية، وهي إجراءات وتدابير، كانت قد جُرّبت بمعظمها سابقاً، إن لم يكن بكليتها، والتي لم تكن ناجزة ولا مفيدة، ولم تحفز على الاستثمار، بل فوّتت الكثير من الفرص والموارد، وتسببت في ارتفاع معدل التضخم، جراء ارتفاع موجة المضاربات العقارية. ما يعني أن مسألة الاستثمار تتطلب مقاربةٍ مختلفة، تساعد في خلق فضاء عام، يزرع الإحساس بالاطمئنان والشعور بالثقة، كأهم عنصر أو مكون من مكونات رأس المال في الاقتصادات المعاصرة. في الوقت الذي يتعين فيه على الدولة أن تأخذ بالحسبان مسألة التوازن الإنمائي بين مختلف المناطق السورية والمحافظات، بصورة تساعد في الحدّ من مظاهر الاختلال وعدم التوازن التنموي، نظراً لما قد يترتب عليه من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، لا يمكن احتواء مفاعيلها.
مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” – د. مدين علي
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73