تراجع شعبية الأحزاب العريقة في أوروبا.. ما العمل؟
فقدت الأحزاب الشعبية الكبيرة العريقة شعبيتها لدى الناخبين في كل مكان في أوروبا. اليمين الشعبوي هو المستفيد الأول من هذا التراجع. فكيف تتعامل الأحزاب الشعبية مع تراجعها، وأي استراتيجية تعتمدها للنجاح في كسب الناخبين؟
“كما ترون، يمكن أن يكون المرء أوروبياً وليس شعبوياً ويفوز في الانتخابات في أوروبا.” بهذه العبارة وبوجه مبتهج أطل رئيس وزراء لوكسمبورغ كزافي بيتل على الصحفيين، الذين كانوا ينتظرون خلال اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة. كُلف بتيل من الحزب الديمقراطي مرة أخرى بتشكيل الحكومة بعد الانتخابات العامة. وقد احتفل بفوزه في الانتخابات في مطعم في بروكسل ودعا بشكل عفوي الألمانية أنغيلا ميركل والفرنسي إيمانويل ماكرون والبلجيكي تشارلز ميشيل. وقال بيتل في صباح اليوم التالي: “كان رائعاً، لقد تناولنا البطاطا المقلية والبيرة.” في حين كان يجلس القادة المعتدلون للأحزاب المعتدلة هناك باسترخاء.
لكن أمثالهم أصبحوا في موقف دفاعي على مستوى أوروبا: الديمقراطيون المسيحيون الإيطاليون، الذين كانوا رؤساء وزراء لعقود، لم يعد لهم وجود فعلي. الاشتراكيون الفرنسيون، الديمقراطيون الاشتراكيون الهولنديون، الذين قادوا المسيرة السياسية في بلدانهم لفترات طويلة، كادوا أن يُمحو من الوجود في الانتخابات الأخيرة. حتى أن المستشارة الألمانية التي لم تتزعزع منذ فترة طويلة من منصبها، قد حذرت خلال حملة الانتخابات في هيسن من أن الحزب المسيحي الديمقراطي يمكن أن “يفقد مكانته كحزب شعبي”.
الناخب الانتقائي
ورداً على السؤال حول الأسباب الكامنة وراء تراجع الأحزاب الشعبية، يرى الخبير في الشؤون السياسية فلوريان هارتلب أن الأحزاب تعد بمثابة “مرآة للتطورات الاجتماعية”. مؤسسات أخرى تخسر سمعتها، كما يقول. كما أن الاشتراكيين الديمقراطيين قد أهملوا زبنائهم الأساسيين، أي الناخبين، وزعزعوا ثقتهم بهم، بالأخص في ألمانيا “بسبب التدفق الهائل للاجئين”.
زميله فولفغانغ ميركل، يشرح الأمر على هذا النحو: “لقد أصبحت مجتمعاتنا فردية: فنحن كمواطنين لا نريد حزمة كاملة تتضمن جميع نقاط البرنامج السياسي بطريقة غير واضحة للغاية وفي الوقت نفسه تحاول خدمة جميع الطبقات والأوساط الاجتماعية الممكنة معا”. المواطنون أرادوا شيئًا أكثر دقة وحصلوا عليه من الأحزاب الجديدة أيضًا. في ألمانيا، لا يعد الحزب اليميني “حزب البديل من أجل ألمانيا” المستفيد الوحيد من هذا التراجع، وإنما أيضاً حزب الخضر. لكن على مستوى أوروبا فإن الفائزين تقريباً هم اليمينيون الشعبويون. في إيطاليا، يصبح الحزب اليميني الحاكم ليغا وزعيمه وزير الداخلية، ماتيو سالفيني أقوى مع كل تعبير لفظي ضد اللاجئين وضد أوروبا.
“استراتيجية كورتس”
تتعامل الأحزاب الشعبية القديمة بشكل مختلف مع هذا التحدي. فعلى سبيل المثال، أعاد المستشار النمساوي الشاب سيباستيان كورتس تسمية وهيكلة حزب الشعب النمساوي الذي كان يحظى بشعبية طويلة: “دخلت قائمة سيباستيان كورتس – حزب الشعب الجديد (ÖVP)” – بهذا الإسم في انتخابات المجلس الوطني عام 2017 وتمكنت من تحقيق مكاسب كبيرة. وكان التغيير في القمة تحولاً حاداً نحو اليمين. لم يخجل كورتس من الدخول في حكومة ائتلافية مع حزب الحرية اليميني الشعبوي. كورتس نفسه يستطيع أن يكون راضياً بعد مضي عام. ويقول في استطلاعات الرأي النمساوي فولفغانغ باخماير: “إن الحكومة في النمسا تتمتع بسمعة جيدة للغاية”. كما تحظى سياسة الهجرة الصعبة للتحالف بتأييد أغلبية كبيرة من السكان.
“”يمكن أن يكون الوضع أكثر صعوبة للحكومة، إذا لم يعد من الممكن خلط جميع القضايا مع الهجرة” ، كما يعتقد الخبير السياسي بيتر فيلتسماير. لكن فلوريان هارتلب، يرى في الكثير من الظروف السياسية في فيينا أنها “شأن نمساوي”، إلا أنه يخشى في ضوء النقاش حول الهجرة، ويقول: “نحن مهددون في ألمانيا بشيء مماثل”، أي تحول كبير نحو اليمين. غير أنه يرى أن تعاون الأحزاب الشعبية الكبيرة القديمة على المستوى الاتحادي مع حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي، غير وارد، كما أن نموذج الائتلاف الكبير، تحالف المحافظين مع الاشتراكيين، ليس له مستقبل كبير.
“استراتيجية ماكرون”
اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، استراتيجية مختلفة عن استراتيجية كورتس النمساوية. وبدلاً من الاستيلاء على حزب قائم، قام على ما يبدو بتأسيس “حركة” من الصفر وكسب العديد من الأشخاص الغير سياسيين من أجل التعاون معه في إطار الحزب الجديد أو الحركة الجديدة. كان ذلك جديداً وناجحاً جداً في البداية، على الرغم من أن ماكرون وحركته، التي تحولت إلى حزب، قد فقدوا الكثير من بريقهم. ويجد فولفغانغ ميركل استراتيجية ماكرون مشكوكاً فيها لأنها “استبدادية للغاية”. أمر يُساء فهمه في ألمانيا، “إذا كنا نبحث بشكل متشنج عن المنقذ في أوروبا، نبحث عن قوة مبتكرة”. ماكرون “اختار شخصياً المرشحين للانتخابات البرلمانية”. ولم يكن ذلك “وفقًا للقواعد الديمقراطية”، ولكنه لقى صدى جيد.
هل ما زال هناك حزب شعبي حقيقي في أوروبا؟ على هذا السؤال يقدم الخبير السياسي ميركل إجابة مفاجئة: “حزب فيكتور أوربان فيديزتس هو حزب شعبي”. ليس فقط بسبب قوته، هو يخاطب الناس من مختلف الشرائح. “هذا هو الخبر، الذي يمكن أن يرتقي به اليمينيون الشعبويون إلى أحزاب شعبية. ربما يكون حزب أوربان هو آخر أو أحدث حزب شعبي بامتياز في أوروبا”.
ربما ليس كل شيء سيء للغاية
في بعض الأحيان تصور الأحزاب الشعبية القديمة تراجعها على أنه تهديد للديمقراطية. وهو ما يعتبره فلوريان هارتلب أمراً مبالغًا فيه: “أحذر من الهستيريا وإثارة الخوف”. على كل حال الأحزاب اليمينية الشعوبوية ليست في السلطة في معظم البلدان الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأمر لا يتعلق فقط باليمينيين الشعبويين، ولكن أيضاً هناك تصدعات داخل الأحزاب القائمة.
ووفقاُ لهارتلب هناك أيضا تطورات متعارضة في أوروبا مثل صعود الخضر. من جهته يميز فولفغانغ ميركل: على المستوى الفردي للناخب، فإن العرض الأكبر إيجابي. “من وجهة نظر مجتمعنا، الذي يصبح مختلفاً بشكل متزايد، سنحتاج إلى من يبني الجسور وآليات الاندماج بين الأحزاب، وهكذا كانت الأحزاب الشعبية”. ويعتقد ميركل أن الديمقراطية “لا تأتي من دون الأحزاب القوية”.
ونعود لسؤالنا عما إذا كان بإمكان الأحزاب الشعبية الكبيرة والعريقة في أوروبا أن تفعل شيئا لمواجهة انهيارها، عن ذلك يقول فوريان هارتلب: نعم.. ويضيف “على هذه الأحزاب أن تجدد نفسها مع شخصيات سياسية جذابة، فالكثير من الأحزاب الكبيرة القديمة لديها مشكلة كبيرة فيما يخص الشخصيات التي تمثلها نحو الخارج، إلى جانب اختيار المواضيع والشعارات الإيجابية الجاذبة للناخب والملائمة لمصلحتهم”، مثلا في ألمانيا تأخذ ملفات تجديد مصادر الطاقة والرقمنة حيزا واسعا من اهتمام الناخبين.
كريستوف هاسلباخ/ إ. م