عبد الباري عطوان: إيران على صفيح ساخن !
عبد الباري عطوان
تُعتَبر الحُزمة الثانية، والأهَم، مِن العُقوبات الأمريكيّة على إيران التي تَدخُل مَرحَلة التَّنفيذ مساء غَدٍ الأحد وتَشمَل قِطاعيّ الطَّاقة (النِّفط والغاز) والمَصارِف، أكبَرَ اختبارٍ لقُوَّة الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب كرَئيسٍ للوِلايات المتحدة، وتُشير مُعظَم المُؤشِّرات أنّ احتمالات الفَشَل أكبَر مِن احتمالات النَّجاح.
عِندما تُعلِن الإدارة الأمريكيّة أنّها ستُعفِي ثَمانِي دُوَلٍ مِن الرُّضوخ لهَذهِ العُقوبات، فإنّ هذا يعني أن تهديدات الرئيس ترامب بـ”صِفر صادِرات نِفطيّة إيرانيّة” كانَت مُجرَّد “قنابِل صوتيّة”، وأنّ صادِرات النِّفط الإيرانيّة ستَستمر ليسَ بالصُّورةِ التي كانت عَليها قَبلَ بِدءْ الحَظر، وإنّما بكَمِّياتٍ أقَل في المُستَقبل المَنظور على الأقَل، وهَذهِ مُقدِّمة أوّليّة للهَزيمة.
نَشْرح أكثر ونقول أنّ أبرز الدُّوَل الثَّمانية التي مِن المُحتَمل أن تَحْظَى بالإعفاء وتستمر في استيراد النفط الإيرانيّ هِي تلك التي هدَّدت بعَدمِ الالتزامِ بالعُقوبات الأمريكيّة مِثل الصين (تستورد 800 ألف برميل يَوميًّا) والهند (500 ألف برميل) وتركيا (300 ألف برميل) والاتِّحاد الأُوروبيّ (2450 ألف برميل تذهب مُعظَمُها لليونان وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا)، ويبدو أنّ معركته خاسِرَةٌ مَعَها، ويَخشَى مِن نَتائِج تَهديداتِها.
***
العُقوبات الأمريكيّة التي تَناسَلت مِثل الفِئران مُنذ جاءَ الرئيس ترامب إلى الحُكم بَدأت تَفقِد قيمتها وتأثيرها بشَكلٍ مُتسارعٍ، والمَثل يقول (الزائد أخو الناقص)، لأنّها دَفَعَت العَديد مِن الدُّوَل العُظمَى الدوليّة والإقليميّة، مِثل روسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي وتركيا وغيرها، للتَّكَتُّل ضِد هيمَنة الدولار على اقتصاديّات العالم، واستخدام نِظام المُقايَضة، والتبادل التجاري بالعُملات المحليّة، مِثل الروبل الروسي، واليوان الصيني، واليورو الأُوروبي، والين الياباني، وكانَ لافتًا أنّ روسيا اتَّخَذَت قرارًا استراتيجيًّا ببيع جميع إنتاجِها مِن السِّلاح بالروبل، وآخِر الصَّفقات كانت بيع صواريخ “إس 400” إلى الهند، وقبلها إلى تركيا، أمّا الصين فباتَت تعتمد عُمُلاتٍ أُخرَى غير الدُّولار في مُعظَم تَعامُلاتِها وخاصَّةً في مجال الطَّاقة، وخاصَّةً “البترو يوان” كخُطوةٍ أُولى، أمّا الاتحاد الأوروبي فقَرَّر إقامَة مؤسسة ماليّة جديدة تَعمَل على أساس نِظام المُقايَضة، واعتماد اليورو لحِمايَة التبادل التجاري مع إيران الذي يَبلُغ 20 مِليار دولار سَنويًّا تَقريبًا (صادِرات إيران النِّفطيّة 9 مِليار دولار ووارِداتِها الأُوروبيّة 10 مِليار دولار).
أمريكا بفَرضِ هَذهِ العُقوبات تُلحِق الضَّرر بحُلفائِها، وتَخلِق حالةً مِن الفَوضى الاقتصاديّة على مُستَوى العالم، ففرض حَظر على صادِرات النِّفط الإيرانيّة سيُؤدِّي إلى ارتفاعِ أسعارِه في أسواقِ العالم، الأمر الذي سيَنْعَكِس سَلبًا على اقتصاديّات الدُّوَل المُستَهلِكة، وفي أُوروبا تحديدًا، التي تُواجِه شِتاءً قارِسًا حاليًّا، وتَزيدُ وارِداتُها النِّفطيّة بالتَّالي.
صَحيح أنّ إدارة الرئيس ترامب تُراهِن على تعاونٍ سُعوديٍّ روسيٍّ لتَعويض أيِّ فَراغٍ في السُّوق يَنْتُج عن غِياب الصَّادِرات الإيرانيّة بسبَب الحَظر، أو ما يُعادِل مِليون برميل تقريبًا، ولكن هذا الرِّهان قَد لا يكون في مَحَلِّه، لأنّ السعوديّة بالذَّات لا تَستَطيع تِقَنيًّا التَّعاون الفَوريّ وزِيادَة صادِراتِها، والحال نفسه يُقال عَن روسيا التي تتراجَع مُعدَّلات إنتاجها مِن آبار سيبيريا بحَواليّ 500 ألف برميل في الأَشهُر الأربَعةِ المُقبِلة بسبب الصَّقيع، وحتّى لو رَغِبَت روسيا في التَّعاون في هذا المَجال، فإنَّه لن يَكون تَعاونًا مجَّانِيًّا، وستَطلُب تَنازلاتٍ أمريكيّة أبرزها رَفعُ العُقوبات الأمريكيّة المَفروضة عليها بسبب أوكرانيا والسَّيطرةِ على شِبه جزيرة القرم، جُزئيًّا أو كُلِّيًّا.
مَن يُلقِي نَظرةً سَريعةً على مَوقِع وِزارَة الخارجيّة الأمريكيّة على “التويتر” و”الفيسبوك” وغَيرِها، والشُّروط الـ12 التي تتضمَّن مَطالِبها مِن إيران وتَشتَرِط تطبيقها كامِلةً لرَفعِ العُقوبات، يَخْرُج بانطِباعٍ راسِخٍ بأنّ مَن وضعها هو بنيامين نِتنياهو وليس مايك بومبيو، وزير الخارجيّة، أو رئيسه ترامب.
أبرز هَذهِ المطالب إغلاق معمل “آراك” للماء الثَّقيل، ووقف كُل أعمال التَّخصيب نِهائيًّا، وتقديم تَوضيحٍ بكُل الأنشِطَة النوويّة العَسكريّة السَّابِقَة، أي قبل الاتِّفاق، لوكالة الطاقة الذريّة، وعدم نشر أيِّ صَواريخٍ باليستيّة، وأُخرَى يُمكِن أن تَحمِل رؤوسًا نَوويّةً، ووَقفِ كُل الدَّعم المُقدَّم للجماعات “الإرهابيّة” على رأسِها “حزب الله” والجِهاد الإسلاميّ، ونَزعِ أسلحة “الميليشيات” الشيعيّة في العِراق، وقَطعِ كُل دعم لحَركة أنصار الله الحوثيّة في اليمن، وسَحبِ جميع القُوّات الإيرانيّة من سورية، وحَلِّ فَيْلَق القُدس، وإنهاء التَّهديد الصَّاروخيّ لإسرائيل.
هَذهِ الشُّروطُ تَعجيزيّةٌ، الهَدفُ مِنها إذلالُ إيران وتَركيعِها، وهِي مُقدِّمةٌ مِن أجلِ أن تُقابَل بالرَّفض وليسَ القُبول، وخَلقِ الذَّرائِع لأمريكا وإسرائيل لشَنِّ عُدوانٍ لتَدميرِ إيران، وتَغييرِ النِّظام فيها، تَمامًا على غِرار ما جَرى في العِراق وليبيا، وما حاولوا، ويُحاوَلون، فِعله في سورية حاليًّا.
***
إيران عاشَت 40 عامًا تَحتَ الحِصار، واستطاعَت أن تُوظِّفُهُ بدَهاءٍ لمَصلَحتِها، أي الاعتماد على النَّفس، إنشاء صِناعَة عسكريّة مُتطوِّرة جِدًّا، وتحقيق الاكتفاء الذاتيّ، والتَّحوُّل إلى دَولةٍ إقليميّةٍ عُظمَى، وخَلق أذرُع مُقاوَمة مُسلَّحة في مَناطِقٍ عَديدةٍ في الشرق الأوسط، خاصَّةً في لبنان والعِراق وفِلسطين واليمن، وسورية أكثر قُوَّةً مِن الجُيوش الرسميّة نَفْسِها.
هَذهِ العُقوبات الأمريكيّة لن تُعطِي ثِمارَها، وستَوظِّفها إيران لمَصلَحتِها، وستَخلِق المَزيد مِن الأعداء لأمريكا في الشرق الأوسط والعالم، وتَحالُف الناتو العربي الذي قد تَتزعَّمُه إسرائيل، وسَيكون رأسُ حِربَةٍ في أيِّ عُدوانٍ مُحتَملٍ على إيران، سيَتِم الرَّد عليه بدَمارِ الدُّوَل المُشاركةِ فيه على رأسِها إسرائيل، فالحَرب القادِمَة هِي آخِر الحُروب في المِنطَقة.
في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1964، أقدَمَ شاه إيران محمد رضا بهلوي، شُرطي أمريكا في الشرق الأوسط في حِينِها على نَفيِ الإمام الخميني إلى تركيا، ثُمَّ ذَهَبَ إلى العِراق الذي أبعَدَته حُكومَته (صدام حسين) إلى فرنسا، وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، تَبْدَأ الحُزمَة الثانية مِن العُقوبات الأمريكيّة على إيران في التَّاريخ نَفسِه.. إنّها مُصادَفةٌ تَنطَوي على الكَثيرِ مِن المَعاني.
إبعادُ الإمام الخميني أدَّى إلى عَودَتِه مُنتَصِرًا إلى طِهران وهُروب الشاه، الذي لم يَجِد حتّى المَلجأ في أمريكا التي خَدَمها لعُقود، وفَرض العُقوبات غَدًا وفي التَّاريخ نَفسِه يَعنِي دُخول أمريكا وحُلفائِها في نَفَقٍ مُظلمٍ قد يَخرُجون مِنه مُثَخَّني الجِراح، فاشِلين، مُنكَسِرين، ومعهم إسرائيل وحُلفاؤها العَرب، القُدامى والجُدد، الذين فَرَشوا، وسيَفرِشون السَّجّاد الأحمَر لنِتنياهو.. نَكتَفِي بهذا القَدر ونقول.. الأيّام بَيْنَنَا.
رأي اليوم