زمن ’الأفول الأمريكي’ بين السياسة والإقتصاد: القصة الكاملة
محمد علي جعفر
بعد توليه الرئاسة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابه من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. وهو ما اعتبره الكثيرون حينها خطأً استراتيجياً لما يعنيه ذلك من فسح المجال أمام الصين لتمكينها من تعزيز موقعها التنافسي كمرجعية في مسائل تتعلق بالإقتصاد العالمي وترتبط بالسياسسة الدولية. لم يخرج ترامب عن التوجهات الأمريكية المعهودة بل مارس تكتيكاً مُختلفاً وأخذ خطوة مُتمايزة عن الرؤساء السلف. فالولايات المتحدة كانت دائماً تنطلق من عقلية “حاجة العالم لها” وهو ما يزال يمارسه ترامب لكن بشكل أوضح وفي ظل ظروف دولية مُعقدة وتناقضات أكبر. فكيف يمكن وصف واقع القوة الأمريكي وتحولها نحو الأفول؟ ومن أين بدأت القصة؟ وما هو المتوقع؟
يُخطئ من يتعاطى مع الغرب كطرفٍ واحد. ساهمت ممارسات لعبة الإعلام والسياسة خلال السنين الماضية في ترسيخ فكرة أن الغرب (أوروبا الغربية وأمريكا)، هو طرفٌ واحدٌ يمتلك نفس التوجهات والإستراتيجيات. كان الهدف إظهار الغرب كـ “نموذج” أمام الشرق “المُستهدف”. لكن القراءة الدقيقة والعودة الى التاريخ والتعلم من دروسه “الحقيقية” كما يُشير بريجنسكي، هي أولى خطوات التخطيط الواقعي.
لم يكن الغرب يوماً طرفاً واحداً. منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وواشنطن) على دول المحور (المانيا وايطاليا واليابان)، سعت واشنطن لكسر قوة أوروبا وجعلها أداة لتأمين سيطرتها على الشرق. هذه المحاور تُظهر تاريخية العلاقة بين أمريكا وكل من بريطانيا وفرنسا من جهة، والعلاقة الندية بين كل من ألمانيا وأمريكا من جهة أخرى.
مارست أمريكا أبشع سياسات الإرضاخ مع الزعماء الغربيين قبل الشرقيين. ولعل البعض ينظر لقيام واشنطن بدعم تأسيس الإتحاد الأوروبي، على أنه دعم أمريكي للحليف الأوروبي. في الحقيقة جاء تأسيسه بعد اربع سنوات من انهيار الإتحاد السوفياتي. سعت واشنطن لبناء تكتل أوروبي يهدف الى: أولاً، بناء قوة اقتصادية مواجهة ومنافسة للصين، ثانياً، خلق جغرافيا سياسية وعسكرية محاذية ومُهددة لروسيا، وثالثاً، فتح أبواب الشرق من خلال استثمار السياسات الأوروبية وخبرة الغرب الأوروبي في الآليات الإستعمارية لشعوب المنطقة.
اليوم يسود العالم حالة من التحوَّل لكن ليس لصالح الطرف الأمريكي. أمَّنت واشنطن القدرة على الإستمرار من خلال سياساتٍ حكمت فيها العالم بالغطرسة ومنطق”الحاجة لها”. تؤمِّن واشنطن الدعم لحلفائها تحديداً المالي والعسكري مقابل التماهي معها بالسياسات. وصلت الأمور في أوروبا الى واقعٍ سياسي واقتصادي انتفضت عليه شعوب هذه الدول ضد أنظمتها. ساهم ذلك في تشكيل قوى شعبية داخلية مُهددة للأنظمة الأوروبية ما فرض على الزعماء الأوروبيين ضرورة الإلتفات الى واقعهم الداخلي الهش. واقعٌ بنته نظريات الرأسمالية الإقتصادية التي برَّرت اشكالية الحروب، وعليها بُنيت كل مرتكزات السياسة الدولية الحالية.
لكن الواقع اليوم يُشير لما هو أبعد من ذلك فيما يخص العلاقة الأوروبية الأمريكية. أيقنت الدول الأوروبية خطر الإبتزاز الأمريكي الذي يُمارسه دونالد ترامب. دعوة ترامب دول أوروبا الى تمويل الحلف الأطلسي هو أهم ما صرح به الرئيس الأمريكي تجاه أوروبا منذ انتخابه. لا يبتعد ذلك عن التوجه الأميركي في الحرب الإقتصادية ضد الصين. فأوروبا مرهونة لواشنطن، بينما الصين تُشكل تهديداً يجب التركيز عليه. انسحبت هذه العقلية الأمريكية على خروج واشنطن من اتفاقيات المناخ والتجارة وبالتالي فك الإلتزام الأمريكي. جاء الخروج من الإتفاق النووي أيضاً معارضاً للمصلحة الأوروبية.
الواقع الحالي يعني أن أمريكا تُريد تجريد الجميع من نقاط القوة. لكن ذلك يدل على فقدانها للقوة وشعورها بالضعف وحاجتها لإعادة ترتيب أولوياتها. لا تمارس واشنطن سياساتها من منطلق القوة بل من منطلق المحافظة على ما تحقق، وابقاء حاجة الآخرين لها. هذا ما يُفسر مساعي الدول الأوروبية للبقاء على اتصال مع روسيا وإيران وشرق آسيا. ردة فعل طبيعية أمام ممارسات واشنطن الخارجة عن الإلتزامات والعهود والمبنية على سياسات الإبتزاز. اليوم تسعى أمريكا لرفع مستوى سياساتها التي تعني أمنها القومي وعلى الصعيدين السياسي والإقتصادي.
لذلك رفعت الرسوم الجمركية على البضائع (الأوروبية والصينية) المنافسة للسلع الأمريكية في محاولة لضرب هذه السلع. كما تسعى اليوم لفك ارتباطها السياسي بالدول الأوروبية واحتكارها الحلول الدولية في الملفات الإقليمية السياسية. من جهة أخرى غاب الرئيس الأميركي عن قمة آسيان التي عُقدت في سنغافوة هذا الأسبوع. كما سيتغيب عن منتدى التعاون الإقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ “أبيك” والذي تستضيفه غينيا الجديدة يومي السبت والأحد من هذا الأسبوع. ما يعني وضوح الإختلاف الأمريكي الأوروبي في مقاربة التوجهات الإقتصادية المستقبلية.
عدم الحضور الأمريكي يعني بروز الطرف الصيني. هي حقيقة باتت تعرفها واشنطن واستسلمت لها. لكن ممارسة السياسة الدولية من مُنطلق “حاجة الآخرين لها”، سيُفقدها دورها المرجعي المستقبلي. وهو ما عناه البعض ببداية زمن “الأفول الأمريكي”. أفولٌ قد لا تتقبله واشنطن حالياً لإرتكازها على عقلية الغطرسة في مُقاربة الأمور. هي نفسها العقلية التي جعلتها تصطدم بواقع القدرات الأوروبية والصينية المنافسة لها. وهي نفسها العقلية التي ستُنهيها سياسياً واقتصادياً، عما قريب.
العهد