على وقع التحوُّلات الكبرى: ’تل أبيب’ تكافح من أجل البقاء!
محمد علي جعفر
على وقع التحوُّلات التي تشهدها المنطقة، يعيش الواقع الإسرائيلي بكافة أبعاده مرحلة من التحوُّل دون أن يكون المسار واضحاً بالنسبة لمراكز التخطيط المعنية بمقاربة الواقع الحالي وتقدير المواقف ووضع السيناريوهات المستقبلية. هنا لا يجب إغفال ما يتصف به الكيان الإسرائيلي من هشاشةٍ على الصعيد البنيوي كدولةٍ (مزعومة) مرهونة لقوة الجيش الإسرائيلي والقدرة على فرض المعادلات. لذلك فإن مراقبة السياق الحالي لمجريات الأحداث في المنطقة والعالم، ومساراتها الممكنة، يجعلنا نستنتج حتمية الإنتقال الإسرائيلي من التفكير بأولوية التعاظم ككيان الى أولوية المحافظة على الوجود الحالي. وهنا فلا نقاش بإشكالية أن هذا الكيان ما يزال ومنذ النشأة يعيش صراع الوجود. لكن واقعه الحالي يُظهر أنه يمر بفترةٍ هي الأشد قسوة، والتي ستكون نتائجها مغايرة.
منذ العام 2011 ومع دخول المنطقة موجة ما سُمي بالربيع العربي، عاش الكيان الإسرائيلي مرحلة من التحوُّل في الأولويات نحو كيفية تجيير الأحداث ونتائجها (مع ما لعبه من دور في تأجيجها) لصالح دور ومكانة الكيان الإسرائيلي في الإقليم. العين الإسرائيلية كانت على كلٍ من الأركان الأساسية لمحور المقاومة (مع اختلاف الأحجام وبالتالي الأدور): ايران، سوريا، حزب الله والمقاومة الفلسطينية. سريعاً ومع بدء الأحداث في سوريا، رفعت “تل أبيب” سقف رهاناتها. أخطأ المُخطط الإسرائيلي عندما قامر بالسقف العالي لتوقعاته من مسار الحرب في سوريا. لم يكن أمام القيادة العسكرية والأمنية أي خيارات أخرى. بل كانت من ضمن من هندس هذه الأحداث.
ظنَّ القيمون على سياسات الأمن القومي الإسرائيلي أن الصراع السوري وما لحقه من أحداث في كل من اليمن والعراق خصوصاً والمنطقة عموماً، سيُضعف حتماً أطراف ما يُسمى اليوم محور المقاومة. جاءت النتائج عكسية تماماً. أدارت الأطراف المعادية لمحور المقاومة الصراع، بنفس معادلات الردع الإسرائيلية. الرهان على معادلات القوة العسكرية الكلاسيكية. على الصعيد المحلي الفلسطيني، سعت “تل أبيب” لإستغلال الإنقاسم الفلسطيني، بين محاولات البعض استثمار مجريات الربيع العربي، وآخرين وقفوا موقف المترقِّب، فيما استمرت فصائل بخيارها المقاوم. كانت المؤشرات الخارجية والداخلية بالنسبة للكيان الإسرائيلي مؤشرات تُنذر بمسارٍ إيجابي.
مع تطور الأحداث ووضوح صورة المشهد، لا سيما بعد صناعة حزب الله لمعادلات الميدان السوري، خرجت الشبكة التي بناها محور المقاومة الى العلن، وبدأت “تل أبيب” ومن خلفها حلفاؤها الغربيون والعرب، يشعرون بالقلق. المعادلات الدولية تغيرت. روسيا باتت العرَّابة في المنطقة، والدول الأوروبية في مرحلة طلاق سياسي وعسكري مع الولايات المتحدة. عزَّز هذا التوجه وصول دونالد ترامب للسلطة. على الصعيد الإقليمي، حلفاء واشنطن في حالة من الضياع، مع تراجع الدور السعودي والخلافات مع قطر وفشل الحرب على اليمن. صنعت اليمن معادلات جديدة لصالح محور المقاومة. خرج العراق بعدة انتصارات ليس فقط على الإرهاب بل حصَّن من موقعه ودوره الإقليمي في ظل غياب القدرة الأمريكية على التأثير. الى جانب كل ذلك، تعاظم الدور الإيراني في ظل تناغمٌ استراتيجي في المصالح استطاعت أن تُديره العقلية الباردة لكلٍ من موسكو وطهران. بالنتيجة حصل تبدُّل جوهري في الموازين، فالنتائج جاءت عكسية والرهانات فشلت كافة.
اليوم تقف “تل أبيب” أمام واقعٍ جديد يصح فيه القول أن أي حربٍ تخوضها ستكون كالطلقة الأخيرة، أو عليها انتظار مصيرها المشؤوم. أثرت نتائج الواقع الجديد في المنطقة على الواقع الفلسطيني، فعادت حركات المقاومة لتنشط، وينشط تنسيقها الميداني وبرزت من جديد معادلات المقاومة الفلسطينية ضمن إطار محور المقاومة لا سيما بعد أحداث الأسبوع المنصرم في غزة. على الصعيد الخارجي بالنسبة للكيان، ولَّدت السياسة الأمريكية المُتشددة أزمات عديدة أثرت بالنتيجة على الكيان الإسرائيلي الحليف الإستراتيجي والأولوية الأولى لواشنطن في المنطقة. صفقة القرن ضربت الورقة الفلسطينية الخاصة بالسلطة من خلال تحييدها. ارتفاع نبرة الرئيس الأمريكي قادت “تل أبيب” الى مغامرات عدة في سوريا كانت آخرها مع روسيا. افتعلت “تل أبيب” لنفسها مشكلة مباشرة مع الطرف الروسي، جعلها تخسر قدرتها على المناورة العسكرية ضد محور المقاومة في سوريا، والتي قد تمتد بآثارها الإيجابية على لبنان. الى جانب الوضع الأمني والعسكري المُعقد تعيش “تل أبيب” وضعاً سياسياً مغايراً. فكما أظهرت السنوات الحالية التخبُّط الداخلي الأمريكي بين الأطراف، يبدو أن صراع السلطة يعيش اليوم أبهى صوره في الكيان الإسرائيلي. الجميع باتوا صقور، والواقع الفلسطيني بات بحد ذاته مادة للتجاذب والإختلاف.
بالخلاصة يمكن القول أن الواقع الحالي للكيان الإسرائيلي هو كمن يُنازع للبقاء ليس أكثر. بات البقاء مشروطاً بخيارات الآخرين ليس فقط الحلفاء بل الأعداء أيضاً. روسيا تنافس الغرب في الأدوار في كل مكان. محورالمقاومة الذي تتزعمه إيران، بات أكثر فعالية ونفوذ، وأثبت قدرته على حياكة المعادلات وبناء التناغم لا سيما مع روسيا التي لمست هذه القدرات وفوائدها. فعلى الرغم من أن روسيا كانت تتعاطي مع الكيان الإسرائيلي بشكل من التفهُّم، باتت اليوم العلاقة بينها وبين محور المقاومة أقوى بكثير. هو ما أعرب عنه نتنياهو منذ أيام، حول عدم قدرة “تل أبيب” الوثوق بالطرف الروسي. من جهة ٍ أخرى، تقوم أوروبا اليوم بإعادة النظر بعلاقتها مع أمريكا والبديل الروسي والصيني، في ظل التناقض الإستراتيجي والتعارض البنيوي في المصالح الأوروبية الأمريكية، ما يعني فك الإرتباط الأمريكي الأوروبي وبالتالي تراجع قدرة أمريكا. على الصعيد العربي لم تستفد تل أبيب من علاقتها بالدول العربية إلا في المجال الإقتصادي. تراجُع دور الدول العربية والخلافات الكبيرة بينها ودخولها مرحلة من الأزمات، أفشلت المساعي الإسرائيلية في استثمار العلاقة العربية الإسرائليلية أمنيا أو عسكريا بل حتى سياسياً. وبين كل هذه الأطراف تعيش “تل أبيب” كابوساً من نوعٍ آخر. هو الكابوس الذي ساهم بشكلٍ مباشر في صناعة مسارات التعاظم الخاصة بمحور المقاومة. منذ دخوله في الحرب السورية، ساهم في صناعة التحوُّلات. اليوم هو نفسه يُشكل مصدر قلق فيما يخص الجغرافيا العسكرية والأمنية للكيان الإسرائيلي. تحتار قيادات الأمن القومي في التعاطي مع حزب الله، في ظل كل هذه التطورات الدولية والإقليمية والمحلية الفلسطينية. بين قرار التسليم بالتعاظم وبين المبادرة لإفتعال المواجهة معه، لم يستطع العقل الإسرائيلي أن يُقرر حتى الآن.
في ظل كل هذه النتائج يُخطئ الكثيرون في التقدير والحسابات. حتى أن المراقب يحتار من مقاربة البعض في لبنان والمنطقة للملفات. بات يُشكل حزب الله اليوم نقطة قوة محلية وإقليمية. قد يدخل البعض في لعبة الضغط الحاصلة على محور المقاومة والتي تُشكل آخر أوراق الحرب الكونية ضده. لكن الأكيد أن هذا يُعتبر تقديراً خاطئاً ينم عن سوء إطلاع. ففي وقتٍ ينتظر فيه الجميع المستقبل، على الجميع أن يُدرك أن حزب الله بات بحد ذاته “معادلة الأمن القومي اللبناني”، في مقابل الكيان الإسرائيلي الذي يُكافح من أجل البقاء. هذا المستقبل هو فقط ما سيذكره التاريخ.
العهد