صراع الاستخبارات الأميركية مع ترامب
حرب اليمن التي تقودها السعودية والإمارات وحصار البلدين لقطر “حليف أميركا الأساس” في الخليج، شكلا فرصة سانحة لتحميلهما المسؤولية “في تدهور الأوضاع الإنسانية” دون المساس بمكانة ومركزية القرار الأميركي في الحرب على اليمن بشكل خاص.
“سيطرة محمد بن سلمان على السلطة أضحت محفوفة بالمخاطر ومكانته الإقليمية اهتزت كثيراً على خلفية مقتل جمال خاشقجي”. هكذا مهدت وكالة الاستخبارات المركزية، عبر أركان المؤسسات الإعلامية، المشهد السياسي الأميركي وإعادة صياغة مستقبل العلاقة المقبلة، باستثنائها عامل النفط واذا “ما زالت السعودية أهلاً لتلعب دوراً في الاستراتيجية الكونية” للولايات المتحدة؛ بل “هل من الحكمة أن تقرن واشنطن ثقلها إلى جانب ابن سلمان، في الوقت الذي يطالب فيه المجتمع الدولي تقديم (المجرمين) إلى العدالة”.
حرب اليمن التي تقودها السعودية والإمارات وحصار البلدين لقطر “حليف أميركا الأساس” في الخليج، شكلا فرصة سانحة لتحميلهما المسؤولية “في تدهور الأوضاع الإنسانية” دون المساس بمكانة ومركزية القرار الأميركي في الحرب على اليمن بشكل خاص. وجرى توظيفها، من قبل الوكالة المركزية وأركان المؤسسة الحاكمة، لتحميل الرئيس ترامب مسؤولية التدهور “نظراً لفهم وإدراك قاصر في إدارته لماهية المصالح الأميركية في الإقليم.. والتي باتت صنواً لعلاقة شخصية تربط ابن سلمان مع صهر الرئيس جاريد كوشنر”. تلك هي من الفرص النادرة التي تسلط فيها المؤسسة الحاكمة سهام انتقاداتها على الدائرة العائلية الضيقة حول الرئيس ترامب، على الأقل في توجيه الجدل السياسي لهذا المنحى من النقاش.
جال رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق، جون برينان، على وسائل الإعلام المقروءة والمرئية للترويج ضد “تعويم” محمد بن سلمان واصفاً الأخير بأنه “سرطان” يهدد العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة “وينبغي علينا استنباط سبل للقضاء على السرطان والمضي قدماً (بتعزيز) العلاقة مع الرياض التي تعد بالغة الدقة للاستقرار الإقليمي ومصالحنا القومية”.
برينان، قبل تسلمه منصب مدير الوكالة شغل منصب مدير محطة السعودية في وكالة الاستخبارات المركزية ويتمتع بعلاقات وثيقة مع معظم “شريحة الأمراء النافذين” في العائلة الحاكمة السعودية.
وزادت الوكالة المركزية بأن ابن سلمان “اضحى عبئاً على مستقبل العلاقات الأميركية السعودية”، نظراً لسلوكياته المتهورة “واندفاعه الجنوني” لتحقيق مآربه، معززاً مخاوف الأجهزة الأمنية الأميركية من كونه مصدر قلق لمغامراته المتعددة وعدم الثقة بأهليته وما قد يشكله من “تهديد على المصالح الأميركية في المنطقة”.
“الانقلاب” على العرش السعودي تجذر داخل المؤسسة الأميركية بكافة تشعباتها وامتداداتها، وبات للوكالة المركزية حضوراً ثابتاً ومرئياً في المؤسسات الإعلامية، لا سيما مؤسستي واشنطن بوست ونيويورك تايمز وشبكة سي ان ان للتلفزة بشكل مكثف، عنواناً للصراع الداخلي بين الرئيس ترامب ومؤيديه من ناحية، وبين أركان المؤسسة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية ونفوذها الإعلامي، لتقليص العلاقة “الشخصية” التي نسجها ترامب وصهره جاريد كوشنر مع ابن سلمان بالتوازي أو بالرغم من القنوات الرسمية القائمة؛ ولرغبة المؤسسة الجامحة التحكم بمفاصل الصراع في اليمن، ليس رغبة في انهاء المأساة الانسانية، كما يقال، بل لضمان عدم خروجها عن الحد الذي قد يقوض الصراع الأوسع لأميركا في آسيا.
اصطفاف بعض أبرز قادة الكونغرس من الحزبين، لا سيما في الحزب الجمهوري، لنداءات “الإجماع الأميركي” بمعاقبة ابن سلمان يأتي في ذات السياق لخشية المؤسسة الحاكمة من توريط الرئيس ترامب بلاده في أزمة تتدحرج في ابعادها لتصرف الأنظار عن الملاحقة القانونية للرئيس وأعوانه.
يستنتج من مجمل التوجهات في مجلسي الكونغرس أن المؤسسة الحاكمة “نجحت” في استدراج المؤسسة التشريعية للعب دور مؤيد لها في الصراع الداخلي، تحت عنوان مضلل وهو مستقبل السعودية. وبرزت تساؤلات عالية الوتيرة مؤخراً متسائلة عن “دور الكونغرس في صون المصالح الأمنية للبلاد في حال احجم أو فشل الرئيس ترامب عن لعب دور محوري واستراتيجي في تحجيم نزعة محمد بن سلمان المتعطشة لتركيز مصادر القوة بين يديه، وعدوانيته تجاه جيرانه” العرب وتراجع الزخم السياسي والعسكري لاقصاء ايران نتيجة لذلك.
على الطرف المقابل من الجدل داخل أجنحة المؤسسة الحاكمة، تصدر معهد نايت (الفرسان) التابع لجامعة كولومبيا العريقة، مساعي مقاضاة المؤسسات الاستخباراتية بتقديمه دعوى تطالب فيها القضاء للتدخل ضد “وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي ووزارة الخارجية ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية” للافراج عن سجلاتها ووثائقها الخاصة بما يتعلق بالخاشقجي استناداً لمعلومات توفرت لدها حول “احجام” تلك المؤسسات عن إبلاغ خاشقجي بالخطر الذي تهدده أن وطيء بناء القنصلية السعودية في اسطنبول.
وانضمت مؤسسات حقوقية أميركية موازية، لجنة حماية الصحافيين، تطالب تلك المؤسسات بالإفراج عما لديها من معلومات خاصة بهذا الشأن.
وعليه، يمكننا القول أن بعض التيارات “الليبرالية” داخل المؤسسة الحاكمة تحمل الأجهزة الاستخباراتية الأميركية “جزءاً” من المسؤولية وتتهمها بالتواطوء في عملية اغتيال “الصحفي” جمال خاشقجي، كما تصفه دوما واشنطن بوست واقرانها؛ بينما تخوض تلك المؤسسات جولة صراع مع المؤسسة الرئاسية.
الميادين