«مسبّعو الكارات»: من أين يستمدون «فهمهم في كل شيء»؟
يقول المثل الشامي «مسبّع الكارات قليل البارات» في إشارة لمن يدّعي الفهم في كل المهن والنقاشات والقضايا، هم يشبهون الإوزّة التي تستطيع السباحة ولكن ليس بمهارة السمك، وتستطيع الركض إنما ليس بسرعة الحجل، وتستطيع الطيران ولكن ليس برشاقة النسر، لا بل تستطيع الغناء ولكن ليس كما ينشد الحسون، إنّها تستطيع أن تفعل كل شيء ولكن ليس كما يجب، كذلك «مسبّع الكارات».
موجودون في كل مكان!
ليس عليك سوى المبادرة بفتح حديث بأي أمر اختصاصي حتى يبادر معظم من يجالسك بالإدلاء بمعلومات و»معارف» عادةً ما تتبعها عبارة «لست واثقاً تماماً من الأمر»، وأحياناً يتعدّاها إلى المناقشة والجدال على أسس علمية خاطئة في أمور أكثر ما يلزمها الدقة والدراسة، أما على مواقع التواصل الاجتماعي فالأمر وصل في كثير من الحالات إلى الوصول لنتائج من خلال التعليقات على منشورات تطرح النقاش في أمور يلزمها اختصاصيون للبت فيها .
ولا يقف الأمر فقط عند المشكلة بطبيعة بعض السوريين الذين يتدخلون بأمور ليست من اختصاصهم، بل إلى المتابعين أو المستمِعين الذين يتأثرون بما يدور من أحاديث وما يتضمنها من معلومات مغلوطة أو غير مبنية على أسس علمية، لتتكون لديهم دائرة معرفية خاطئة تماماً حول موضوع ما، خاصةً عند حديث أحدهم بثقة في موضوع ما لا يفهم فيه.
آراء بلا أسس علمية
وصل الأمر بين مهندس زراعي وأحد المزارعين إلى مشادة كلامية بعد أن قصد الأخير مبنى الوحدة الإرشادية في القرية للسؤال عن كمية السماد التي سيضيفها إلى أرضه، المهندس أعطى معلوماته بأنه لا يجب إضافة أي نوع من السماد الآزوتي، ليرد المزارع بأن الجميع يضيف منها، وأن هذا أمر معروف لدى الجميع، المهندس أوضح الأمر للمزارع بأن إضافة أي نوع من هذه الأسمدة قد يؤدي إلى دمار المحصول بالكامل وخسارة عائداته المادية، موضحاً أنّه يوجد في كلية الهندسة الزراعية اختصاصات عديدة، حتى أن المهندسين الخريجين لا يختصون جميعاً بالقسم ذاته، فهناك التربة والمياه والحراج والإنتاج الحيواني والبساتين وغيرها، يمضي فيها الطالب خمس سنوات ليتعلم ويختص في إحداها ليكون ملمَّاً فيها، في حين أن المزارع وحده يدّعي اضطلاعه فيها مجتمعةً، مؤكداً أنه في كثير من الحالات خسر المزارعون قسما كبيرا من إنتاجية محاصيلهم بسبب ادّعائهم المعرفة باستخدام الأسمدة وغيرها.
التهميش .. سبباً ..
ما هو الجذر التاريخي لهذه الظاهرة المتفشية (ادعاء المعرفة بكل شيء)، وكيف أضحى السوريون شعباً يفهم في كل ما يُطرح أمامهم ؟
يجيب الكاتب والصحفي والنائب في مجلس الشعب السوري نبيل صالح على السؤال بالقول «إن المواطن السوري يسعى منذ ما قبل الاستقلال لتحقيق حضوره وتحقيق ذاته في المجتمع من خلال الحديث في كل الأمور التي تُتاح له، من السياسة إلى الرياضة، ومن الاقتصاد إلى الفن والطب وغيرها، وهو نوع من التوازن النفسي وجزء أساسي لتحقيق نوع من الاستقرار في حياته، فمعظم السلطات التي مرت على البلاد – بحسب صالح – كانت متعسفة، والمواطن بدوره ورث تلك الصفات على الرغم من أننا اكتسبنا مفاهيم عصرية كالجمهورية والمواطنة، إلا أن مفهوم المواطنة بقي حبراً على ورق.
الصحافة.. أمر آخر
لا يدافع نبيل صالح عن أنّه من واجب الصحفي أن يتاح له الحديث في كلّ شيء من باب كونه صحفي سابق، إلا أنّه يوضِّح أنه عندما كان صحفياً كان يعمل بالنقد الأدبي والتحقيقات الصحفية وقضايا المواطنين والتحليلات السياسية، بسبب عدم وجود اختصاص قبل 25 عاما، أي أن الصحفيين كانوا ذوي ثقافة واسعة بأغلب الأمور التي تخص المواطن والبلاد، أما اليوم فيوجد صحفيون مختصون بنوع محدد فقط، كالخبر والمقال والتحقيقات وغيرها في مجالات محددة كالاقتصاد والسياسة والرياضة، مشيراً إلى أنّ الأمر هنا ينعكس بشكل سلبي كونه لا يجد «صيادي أخبار» بارعين جداً بسبب غياب الثقافة الكافية في معظم القضايا لفهم المجال الذي يعمل به، ومثال ذلك صحفي الحوادث غير المطلع على علم الجريمة، أو الصحفي الذي يكتب في الشأن الاقتصادي دون أن يكون على معرفة كافية بالاقتصاد كعلم وقوانين وتطورات.
متطلبات حياة
(سامر- ح) شاب يطلق عليه أصدقاؤه لقب «مسبَّع الكارات» بسبب كثرة الأعمال التي يقوم بها، فهو موظف في المرفأ صباحاً وسائق تكسي في فترة بعد الظهر، أما مساءً فيمارس مهنته في تدريس مادتي الجغرافية والتاريخ لطلاب الشهادة الإعدادية مساءً، في حين يخصص يوم الجمعة لحضور مباريات كرة القدم وتحليلها مع أصدقائه، إضافة لاصطياد السمك وبيعه.
يقول سامر بأنّه سعيد بما يقوم به على الرغم من حجم التعب الذي يشعر به يومياً، فالحياة باتت صعبة وتفرض عليه أن يقوم بأعمال متعددة ليغطي نفقات العائلة المكونة من زوجته وخمسة أطفال، ولا يستبعد سامر أن يعمل آخر الليل في حانة مشروبات روحية، فهو يتقن أيضاً خلط المشروبات الكحولية مع بعضها، كما يؤكد أنّه يعرف الكثيرين ممن يستحقون لقب «مسبّع الكارات». إلا أنّ سامر لا يتحدث ويملي على أحد أو يدّعي فهمه في أمور لا يعمل فيها، مشيراً في حديثه مع «الأيام» إلى أن هناك فرق كبير بين أن يعمل الإنسان عدة أعمال ليؤمن لقمة عيش أطفاله في هذه الظروف التي تفرض على كثيرين القيام بذلك، وبين تنطّحه بالفهم في أمور كثيرة لا جدوى من النقاش فيها.
السوري طبيب نفسه .. ولكن !
وعن معرفة السوريين بأمور الطب وعلاج الأمراض يوضح نبيل صالح أننا كمجتمعات شرقية معروف عنها امتهانها الطب الشعبي، فهو مجرب لديها من منطلق أن الإنسان طبيب نفسه، وفي بعض الأحيان يزور المريض أطباء دون جدوى ليقوم هو نفسه بتشخيص مرضه ووصف علاج ما لحالته، إلا أن الطبيب الاختصاصي في الجراحة العظمية أحمد شعبان وعلى سبيل المثال يشكو من ظاهرة باتت مؤرقة في عمله، حيث يستغرق وقتاً لمناقشة المريض أكثر من الوقت الذي يستغرقه في المعاينة وتشخيص الحالة كما يقول، فـ»المريض لديه تصور مسبق ومقدرة على المناقشة في مسببات الألم وكيفية علاجه وطرق الوقاية منه» ليسأل الطبيب أحمد المريض عن سبب مجيئه إذا كان يعلم كيف سيعالج الأمر، فيرد المريض بأنّه من باب الفضول والمناقشة!.
ويذكر الطبيب مثالاً عن إحدى الحالات التي أجرى لها عملية جراحية في المفصل، وعند ارتفاع حرارة المريض بعد إخراجه من المشفى بيومين وصفت له والدته مضادات التهاب ومسكنات ألم، الأمر الذي تسبب بمضاعفات لدى المريض بسبب تحسّس جسمه جراء التأثيرات الجانبية، الأمر الذي كاد أن يسبب خطراً حقيقياً على حياته.
تعويم ..
يقول الاستشاري في منظمة الصحة العالمية ، الطبيب النفسي تيسير حسون في دراسة له إن البعض يرفع من شأن بعض «المثقفين» باعتبارهم مرجعية يُركن إلى رأيها في حل المشكلات أو تحليل أوضاع اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، وذلك تبعاً لثقافة المجتمع المحلي الذي ينتمي إليه هذا «المثقف».
وفي الأزمة السورية، بات يُسمع رأيه حتى في الشؤون العسكرية ــ الأمنية والجيوستراتيجية، كما أن الإعلام أدى دوراً حاسماً في تغيير وظيفة المثقف ومنحه وظائف وأدواراً لا علاقة له بها، في تواطؤ مريب بين المؤسسة الإعلامية و»المثقف» الذي قبل بدوره كل ذلك. هذه المؤسسة – بحسب حسون – استطاعت تعويم وجوه «ثقافية» انتشلتها من «قاع الوسط الثقافي السوري» لتعمل فيها تلميعاً بالمعنى الحرفي للكلمة.
وبناءً على هذا التوصيف، يعرف جميعنا شخصاً أو أشخاصاً مثقفين وأذكياء، لكنهم يتنطحون للحديث في كل الاختصاصات، وربما كانت الأزمة السورية منجماً خصباً لدراسة هذه الحالات التي أضحت ظاهرة اجتماعية نفسية ثقافية. وتصف الدراسة، المشكلة مع هؤلاء «المثقفين» بأنهم متعطشون لأن يكونوا دوماً على صواب وأحياناً يدافعون عن أفكارهم حدّ الاستماتة، على أن يعترفوا بأنهم على خطأ، ويغدو البحث عن الحقيقة آخر همهم. وهذا أمر خطير وفي غاية السوء، وخاصةً إذا أخذتهم العزة بالإثم وهم صغار (لنقل لأنهم كانوا مميزين) حيث إنهم ربما بنوا أناهم على افتراض أنهم على صواب، وبالتالي سيدافعون عن سجلهم الكامل من صوابيتهم المختَلَقة حتى الموت. ويتابع حسون «يقع هؤلاء «المثقفون» في فخ تفضيلهم أن يكونوا على صواب، حتى وإن أقاموا بنيان هذا «الصواب» على الوهم، أو حتى لو نَجَم عن ذلك بؤس المقربين منهم».
يبقى الأمر كذلك حتى عندما يبرز لهم شخص عنيد وصلب بما يكفي ليعمل على تشريح منطقهم، ولديه من المرونة ما يؤهله لتحمل تعسفهم الفكري المُقَنّع بقناع ناعم يطرحونه أثناء النقاش (مثل: أنت لا تعتقد حقاً بذلك؟ حسناً، لو أنك مُطّلع على تاريخ كذا وقوانين الصراع كذا، لما تلفظت بمثل ما تقول)؛ فإنهم لن يُجبَروا أبداً على مساءلة قدرتهم في الدفاع عن أفكارهم الفاسدة. والفرص في إجبارهم على ذلك نادرة: مدير أو زميل جديد أو زوجة جديدة. بيد أنّه إذا كانت وسواسيتهم في أن يكونوا على صواب شديدة، فإنهم سيضربون بهم عرض الحائط وينبذونهم قبل أن يسألوهم عن تحيزاتهم وألاعيبهم. وقد يكون من السهل على من يدافعون عن أفكار فاسدة أن يغيروا وظائفهم وشريكاتهم وأماكن سكنهم، أكثر من الآخرين بسبب ذلك بحسب ما تقول دراسة الدكتور حسون.
للوزراء : ابقوا في اختصاصكم يرحمكم الله
يخرج وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك وسط التساؤلات عن ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل كبير دون أي تفسير، ليعلن أن وراء ارتفاع الدولار «لعبة خطيرة وضغوطات كبيرة».
الغربي لا يخرج في كلامه هذا عما يمكن أن يقوله آخرون من مدّعي الفهم بكل شيء، حتى لو كانوا آخر من يعلم!، علماً أن توضيح مثل هذا الأمر يجب أن يكون من مهمة مصرف سوريا المركزي، الموضوع الذي اعتبره النائب صالح مرفوض تماماً، فليس من مهمة الوزير الإدلاء بتصريحات ورميها في كل حدبٍ وصوب، لافتاً إلى أنه لا يهم إن كان الوزير صاحب خبرة في وزارته، يكفي أن يكون شخصا يمتلك حسّ القيادة ومتقناً لبنية خطاب المؤسسات بشكل جيد، وبالتالي قيادة المؤسسة بالشكل الأمثل لخدمة المواطن، لكن دون التدخل في اختصاصات وزارات أخرى، كما أشار صالح إلى أن منصب معاوني الوزراء بات منصبا لتهميش الموظفين المميزين، مستشهداً بنفسه عندما تقرّر تسريحه من صحيفة تشرين، حيث تمت مناقشة اقتراِح بتسليمه منصب مستشار وزير الإعلام، إلا أنّه رفض المنصب كونه منصباً إداريا بحتا لا يقدم ولا يؤخر سوى الجلوس خلف مكتب، وأيضاً السفراء، الذين كانوا سابقاً من الأشخاص المرموقين، أما اليوم فأي شخص فاشل ممكن أن يستلم منصب سفير، كوزير إعلام سابق فشل في وزارته أو رئيس تحرير فاسد !
الظاهرة منتشرة
إن ظاهرة اعتقاد شعوب بعض المناطق أنهم يفهمون في كل شيء هي ظاهرة منتشرة، ولا تقتصر على الشعب السوري، فالمصريون مثلاً لديهم كذلك نفس الاعتقاد، وبالنسبة للسوريين يؤكد الاستشاري في منظمة الصحة العالمية والطبيب النفسي جميل الركاب أن هذه الظاهرة ترتبط بعدة أمور تبدأ من الانفتاح الذي عاشه إنسان هذه المنطقة منذ فجر التاريخ، والتنوع الثقافي والحضاري الذي عبر من هنا، بحكم الدور الكبير الذي لعبته سورية منذ 2000 سنة على الأقل، فكل الأنبياء والرسل كانوا في هذه المنطقة وكذلك الحضارات والممالك التي حكمت جزءاً كبيراً من العالم، من زنوبيا الى الدولة الأموية، وشعور السوريين أنهم ورثة ذلك التاريخ الشرعيين . كل ذلك عمَّق وعيا حقيقيا عند إنسان هذه المنطقة بأنه هو أو أسلافه من منَحوا العالم معظم معارفه من لغة ونوتة موسيقية وأوابد معمارية تاريخية، وبالتالي هيأ الأرضية اللا واعية التي بنى عليها السوري الحالي اعتقاده بالتسيّد والمعرفة.. ويقول الركاب إنه رغم التطور على مستوى التعليم في عشرات السنين الماضية إلا أنه لم يُعمم التفكير العلمي والتخصصي بين السوريين بدرجة كافية على مستوى المجتمع، لعدم وجود تعليم مهني واحترافي مساير.
ويضيف «يعتقد السوري أنه هو الذي قام بمغامرة العقل الأولى وسكن أول منزل (كهف) على سطح الكرة الأرضية، وأطلق اللغة الأولى والكتابة الأولى والنوتة الموسيقية الأولى، قدم للعالم الأنبياء جميعهم، وقدم الملاحم كلها… عاشر هشام بن عبد الملك وهولاكو والمتنبي وجنكيز خان وزنوبيا وأبو العلاء المعري وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، وبالتالي فقد عبر محن الأرض كلها حتى وصل لهذه اللحظة» وحتى هذه اللحظة «.
أخيراً..
لا بد من القول إن هذه الظاهرة هي إحدى أكثر الأمراض التي يعاني منها السوريون، ليس في الوقت الحالي فقط، بل منذ أمد طويل ، وهو مرض ناتج عن عقدة نقص تسببت بها تراكمات تاريخية وسياسية فعلت فعلها في نفوس وعقول الكثير من السوريين الذي كان تهميشهم سبباً في انتشار هذا المرض فيما بينهم كنوع من التعويض وبحثاً عن قبول اجتماعي مشتهى.
ولعلّ القول المأثور بأنه « لو تحدّث الناس فيما يعرفونه فقط، لساد الهدوء أماكن كثيرة» يعكس حالة الفوضى التي نعيشها اليوم.
رمّاح زوان