الخيارات الصعبة لمستقبل القارة العجوز
سركيس ابو زيد
تقف اليوم، القارة العجوز اوروبا أمام خيارات وتحديات صعبة تهدد أمنها واستقرارها ووجودها. منذ الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي”بريكست” يوم 23 حزيران/ يونيو 2016، تنخرط الحكومة البريطانية وسلطات الاتحاد الأوروبي في بروكسل في مفاوضات مستمرة . اتفقا حتى الآن على ثلاث قضايا عالقة:
الأولى: “فاتورة الطلاق”، أي الالتزامات المالية البريطانية التي وافقت لندن مسبقاً على تسديدها.
الثانية: ضمان حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي والأوروبيين المقيمين في بريطانيا.
والثالثة: فترة انتقالية تتيح لبريطانيا البقاء في السوق الموحّدة حتى كانون الأول 2020.
وفي حال فشلت المفاوضات الأوروبية ـ البريطانية خلال الأشهر المقبلة، فإن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق في آذار/ مارس 2019، أي أنها ستغادر السوق المشتركة وتوقف الاعتراف والعمل بالقوانين الأوروبية، بينما ستعامل الهيئات الأوروبية في بروكسل بريطانيا كأي دولة ثالثة لا تجمعها بها أي اتفاقيات من أي نوع.
وفي هذه الحالة لن تكون بريطانيا الخاسر الوحيد من “بريكست دون اتفاق”. ذلك أن خروج لندن يهدد فرص تسديدها مستحقاتها المالية المتبقية، التي تُقدّر بـ 39 مليار جنيه.
سيتسبب ذلك في نقص حاد في الميزانية الأوروبية، بينما ستستخدم بريطانيا هذا المبلغ لدعم نظام الصحة، أو لدعم أكثر المتضررين من “بريكست”، مثل المزارعين.
في الجهة المقابلة لبريطانيا، دخل رئيس الجمهورية الإيطالية سرجيو ماتاريلا للمرة الأولى على خط السجال المتصاعد نحو المواجهة المفتوحة حول الموازنة العامة التي أعلنتها الحكومة الائتلافية، متجاهلة قواعد النظام المالي في الاتحاد الأوروبي وتحذيرات المفوّضية الأوروبية، وذلك عندما ذكّر بأن الدستور يقضي بأن الموازنة العامة للدولة يجب أن تضبط الدين العام وتحافظ على توازن الإنفاق، من أجل حماية مدّخرات المواطنين وموارد الأسر والمؤسسات ومنظومة الخدمات الاجتماعية.
أما في ألمانيا، فعندما تنحى المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر في العام 2004، عن زعامة حزبه، ولكنه بقي في منصبه في المستشارية وعلى رأس الحكومة، قالت أنجيلا ميركل آنذاك، وكانت تقود المعارضة:”إن شرودر خسر سلطته على حزبه، وإن نهايته قد بدأت…”.
اليوم تقرر ميركل التنحي عن زعامة حزبها “الاتحاد الديمقراطي المسيحي”، وأنها لن ترشح نفسها لقيادته في الانتخابات مطلع كانون الأول المقبل، ولكنها تؤكد بقاءها في منصبها لقيادة الحكومة حتى نهاية ولايتها في عام 2021، ولكن يبدو أن ما قالته عن شرودر ينطبق عليها، وأن نهايتها قد بدأت مع خسارة سلطتها على حزبها.
بدأت ميركل تواجه المتاعب والتراجع في شعبيتها والتصاعد في الضغوط السياسية عليها منذ العام 2015، عندما اتخذت قرار فتح حدود ألمانيا أمام أكثر من مليون مهاجر وطالب لجوء قادمين بشكل أساسي من سوريا ومن بلدان أخرى، فقامت معارضة داخلية ضد هذه السياسة، واتقن اليمين المتطرف استغلال المخاوف التي يثيرها المهاجرون لدى الرأي العام، وحقق نجاحات متتالية، وبرز حزب “البديل لألمانيا” اليميني المتطرف الذي دخل الى البرلمان الفدرالي بعد انتخابات أيلول 2017.
أصداء استقالة ميركل من زعامة حزبها وصلت الى بروكسل الذي عبّرت عن مخاوفها من تأثير عدم الاستقرار السياسي في ألمانيا على عمل الاتحاد الأوروبي.
وسط أوروبا وشرقها عرضة لصعود تيارات قومية بالتوازي مع صعود اليمين المتطرف في الدنمارك وهولندا والنمسا.
بناء على كل ذلك تلبس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصية المنقذ القادر على إعادة الحياة إلى المشروع الأوروبي عبر الدفع نحو مزيد من الاندماج. واللافت عند ماكرون هو التركيز على حاجة أوروبا إلى ضمان أمنها بنفسها . وليس سراً أن باريس من أشد الدعاة لقيام جيش أوروبي حقيقي يتولى حماية المصالح الأوروبية. لكن تبيّن أن مشروعا كهذا لا يمكن أن يرى النور سريعا بسب فتور بعض الأوروبيين ومعارضة البعض الآخر.
عندما قرر دونالد ترامب تمزيق الاتفاق النووي مع طهران المبرم صيف عام 2015، وفرض عقوبات عابرة للحدود على دفعتين، على الشركات التي تتجاهل العقوبات، وتستمر في التعامل مع إيران،خرج الأوروبيون على الوصاية الأميركية الاقتصادية والمالية، لأنهم يرفضون أن تكون واشنطن “شرطي العالم الاقتصادي”. ولتأكيد الإستقلالية الاقتصادية والإلتفاف على العقوبات الأميركية، قرر الاتحاد الأوروبي إيجاد آلية يمكن تسميتها بالعربية “صندوق العمليات الخاصة”. ويريد الأوروبيون الذين يسعون لتلافي استخدام العملة الأميركية في تعاطيهم مع إيران من أجل تجنب العقوبات، توفير قناة مستقلة تكون بمثابة “غرفة مقاصة” توضع فيها عائدات النفط الإيراني، وتُسحب منها قيمة السلع أو الخدمات التي ستقدمها شركات أوروبية أو غير أوروبية إلى إيران، ما يعيد العملية إلى عهد “المقايضة” البدائي.
من الواضح، أن دعوة ماكرون تبدو أشبه بصرخة في واد، خصوصا ما يتعلق منها بالسيادة العسكرية، أي بقدرة الاتحاد الأوروبي على أن يتمتع بقدرات ذاتية تمكّنه من الاستغناء عن المظلة الأطلسية – الأميركية، وهو الأمر الذي أثار حنق الرئيس دونالد ترامب وعبّر عنه بمجموعة من التغريدات الحامية التي جاءت لتبين لمكرون أن ترامب لا يتردد في أن يدوس على العلاقات الشخصية، وأنه ليس من النوع الذي يسهل ترويضه أو إغراؤه.
هذه هي صورة المشهد الأوروبي، المعقد، والذي يعاني كثيراً من المشكلات التي تبدو انها لن تنتهي في الوقت القريب، خصوصا مع وجود رئيس للولايات المتحدة يمارس الانعزالية، ولا يؤمن بأهمية الحلف الأطلسي، ولا ينفك عن مطالبة شركائه الأوروبيين بأن يرفعوا مساهماتهم المالية. فهل ترى القارة العجوز بصيص نور أم سترزح أكثر فأكثر تحت وطئة دعواتها الانفصالية والشعبوية المتطرفة، والأخطر أزماتها الاقتصادية والخروج البريطاني، ووضعها الأمني المجهول، ربما؟!
العهد