بلا تصوير ولا كهرباء.. «الآمش» طائفة مسيحية ما تزال تعيش حياة القرن 18
منذ 300 عامًا قررت مجموعة من البشر الاحتفاظ بطريقة حياتهم وتوريثها للأبناء والأحفاد، قد يبدو اتخاذ مثل هذا القرار سهلًا لكن استمراره مع تقدم الزمن يبدو صعبًا، لكن هذا ما حدث بالفعل مع طائفة الآمش المسيحية التي تمكنت من البقاء وسط هذا الصخب التكنولوجي والتطور الحياتي السريع، بدون أن تتغير طريقة الحياة التي عاشها أجدادهم من القرن الثامن عشر، حتى الكهرباء لم تُغيرهم بكسر القاعدة ونمط الحياة.
رحلة الآمش.. «التراثية» تنتصر في أمريكا
في ولاية بنسلفانيا الأمريكية وتحديدًا مقاطعة لانكستر تعيش طائفة الآمش في منأى عن العالم الخارجي، يحذون حذو أسلافهم الذين فروا من الاضطهاد الديني في أوروبا في القرن الثامن عشر، وأقاموا أقدم مستوطنة لهم في بنسلفانيا منذ بداية الهجرة إلى أمريكا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصل عددهم نحو 250 ألفًا، يعيشون في العديد من الولايات الأمريكية إضافة إلى كندا، غير أن الأغلبية يعيشون في ولايات بنسلفانيا وأوهايو وإنديانا، أما في أوروبا فلم يعد لهم وجود هناك.
نشأت طائفة الأمش في أوروبا بعد أن انفصلت عن طائفة المينونايت في عام 1692 بسبب تساهل المينونايت في التعاليم الدينية الأصلية؛ فيما رآه جيكوب أمان مؤسس طائفة الآمش انتهاكًا للعقيدة، والآمش: هم مجموعة بروتستانتية تؤمن بتجديد التعميد -طقس مسيحي وسر من أسرار الكنيسة السبعة- بعد سن الرشد، أي أنهم لا يؤمنون بتعميد الطفل رغمًا عنه، بل يجب أن يصبح الطفل بالغًا حتى يقرر أن يكون مسيحيًا ويقرر هذا حين يصل إلى سن 16 عامًا، لذا فإنهم لا يعتبرون أبناءهم على ديانة الآمش حتى يجري تعميدهم، وبالطبع فالتعميد شرط من شروط الزواج الذي لا يسمح إلا داخل الطائفة.
ورغم صعوبة خيار التعميد أو ترك الطائفة بالنسبة للشباب والشابات، إلا أن الآمش تمنح المراهقين رفاهية تجريب المجتمع الحديث بكل ما فيه بشكل مؤقت قبل التعميد، ويطلقون على هذه المرحلة «رومسبرينجا Rumspringa» وتبدأ ما بين سن 14 إلى 16 عامًا، وتصل أحيانا إلى سن 25، ينطلق المراهق في هذا الوقت لتجربة كل شيء في الحياة الحديثة حتى يقرر ديانته.
80%- 90% من مراهقي الآمش، بعد أن يجربوا الحياة العصرية بكل ما فيها من اختيارات، يقررون العودة إلى مجتمعهم البسيط، ويتم تعميدهم في كنيسة الآمش ويكملون حياتهم ضمن طائفة الآمش بكل ما فيها من حياة تقليدية مغلقة، لكن مع كل هذا التسامح الذي يتمتع به الآمش مع المراهقين إلا أنهم صارمون معهم بعد التعميد، إذ يهجرون الأعضاء الذين لا يلتزمون بمبادئهم، فلا يكلمونهم أو يتعاملون معهم بهدف الضغط عليهم لكي يتوبوا، كل هذه «التراثية» انتصرت واستمرت كل هذا الزمن في أمريكا العائمة في التكنولوجيا.
لا كهرباء.. لا عالم خارجي
البساطة هي عقيدة الآمش في الحياة، يقولون إن الحياة بسيطة ولا يجب تعقيدها، ويؤمنون أنه على الفرد أن يكون مرتبطًا بشكل قوي بالجماعة فيساعد جيرانه وأقاربه، ويتخذون من حياة السيد المسيح مثالًا يحتذون به في التفاني وتفضيل الآخرين على النفس، ويطبقون تعاليم الإنجيل حرفيًا، فهم منفصلون عن العالم الخارجي، ويحافظون على نمط حياتهم الطبيعي الخاص الرافض لكل ما هو جديد واصطناعي، فتجد بيوتهم خالية من كل مظاهر الحياة الحديثة بما في ذلك الكهرباء.
في عام 1919 اعتبر قادة الآمش أن الاتصال بخطوط الكهرباء يضر بمصلحة مجتمع الآمش، ولم يكن هذا القرار لاعتقادهم أن الكهرباء شريرة في حد ذاتها، لكن لأن الكهرباء أول طرق الاتصال بالعالم الخارجي وتليها العديد من الإغراءات؛ و بالتالي تدهور حياة الكنيسة والأسرة.
الحياة بدون كهرباء لا تعني الحياة بدون إضاءة، الآمش يلجئون للغاز الطبيعي المعبأ في تشغيل الفوانيس والمصابيح لإضاءة المنازل والحظائر والمحلات التجارية؛ وأيضًا سخانات المياه، والمواقد والثلاجات، غير أن الآمش يسمحون باستخدام البطاريات، نظرًا لأن البطاريات لا تجعلهم مرتبطين بشكل مباشر بالعالم الخارجي، أما الآلات التي يستخدمونها في مزارعهم وكذلك الآلات المنزلية مثل آلة الغسيل وآلة الخياطة، فيعتمدون فيها على استخدام الهواء ومحركات الطاقة الهيدروليكية.
الحياة في ثوب قديم ووجه مبتسم
لا يحمل الآمش أعباء الدنيا علي كاهلهم، فالدنيا عندهم صغيرة فلا يكادون يرون أعباءها، يلقونها خلف ظهورهم ويهتمون بالصلاة، وبوجه مبتسم دائما يواجهون الناس سواء كانوا من الآمش أم غرباء، ويبدو ذلك جليًا في ملابسهم المتواضعة، افالنساء ترتدي الفساتين الطويلة ذات اللون واحد، ولا تحمل أي رسوم أو نقوش، وتضعن منديلا على الرأس لأن تغطية الرأس شرط من شروط صلاة المرأة، وبما أنها تصلي في أنحاء النهار فهي ملزمة بتغطيته دائمًا، الشيء المميز في غطاء الرأس هو اللون الأبيض للمتزوجة والأسود للعزباء، وما يجمعهن أنهن لا ترتدين مجوهرات.
رجال الآمش يرتدون بدلات غامقة اللون، ومعاطف مستقيمة ويضعون قبعات سوداء في الشتاء، وأخرى من القش في الصيف، وليس لستراتهم أزرار لأنها كانت تعد في أوروبا علامة على الفخر والثراء والمنصب الحكومي أو العسكري الذي يرتبط عندهم بالظلم، ليس لديهم شوارب؛ فقط يطلقون اللحى بعد أن يتزوجوا، ويشعر الآمش بأن هذه الملابس المتواضعة تحفزهم أكثر للانفصال عن العالم، فهي ليست زيًا بقدر ما هو إيمان داخلي.
بعربات تجرها الأحصنة يتنقل الآمش من مكان لآخر، عادة لا يخرجون بعيدًا عن بلدتهم، وتتشابه عربات الآمش في كل ولايات أمريكا، فقط اختلافات طفيفة تميز كل مجموعة، فالمجموعة الأكثر تشددًا تركب العربات ذات العجلات البيضاء، وهناك مجموعات تستخدم العربات السوداء بالكامل، وهناك العربات الرمادية، لكن لم تخرج أي من مجموعات الآمش بعيدًا عن هذا النطاق البدائي، ولم يخطُ أحدهم خطوة نحو السيارات الحديثة.
مجتمع صغير «يحب السلام للعالم»
كيف تبدو كنيسة الآمش؟ الحقيقة قد تكون غريبة نوعًا، فهم ليس لهم كنائس بل يقيمون صلوات الأحد في بيوت بعضهم البعض بشكل دوري، وهذا يسمح لهم بلقاء أسر مختلفة والتقارب بينهم، فهم يرون أن الكنيسة ليست في مبناها بل في أبنائها، كما يرون أن تخصيص مبانٍ لدور العبادة مضيعة للمال والأراضي التي قد تستغل في الزراعة.
تنعكس صلاة الآمش في شكلها الأبسط على التزامهم الديني النابع من الإيمان الداخلي، لذا ينتهجون مبدأ عدم المقاومة، يؤمنون بضرورة عدم الرد على أي اعتداء عليهم، أي أنه إذا تعرضوا لعنف فهم لا يستجيبون لرده بل ينتهجون عدم المقاومة، إلى درجة أنه في 2 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2006 دخل رجل من غير الآمش على مدرسة للآمش في مقاطعة لانكستر، وأطلق النار على 10 بنات تتراوح أعمارهن بين ستة سنوات إلى 13 سنة، مما أدى إلى مقتل خمسة منهن قبل أن ينتحر، وكان رد طائفة الآمش آنذاك هو التسامح الفوري والعفو الكامل عن القاتل بل وطلب الهداية له.
حين سأل في وقت لاحق أحد أفراد طائفة الآمش عن شخص يهاجمه ويريد قتله هل يتركه يقتله أم يقاوم، أجاب ببساطة: لا يوجد أي ضمان بأن استخدام القوة من شأنه أن ينقذ حياتي أو حياة عائلتي إذا واجهها مهاجم؛ وإذا كانت النتيجة هي الموت على يد المهاجم، فليكن ذلك؛ الموت لا يهددنا كمسيحيين، نأمل أن يكون المهاجم على الأقل قد يعرف محبة المسيح في استجابتنا للا عنف.
الزواج هنا أبسط مما تتخيل
هنا يمكن أن يكون الزواج أمرًا سهلًا، لا أعباء مالية، لا ضغوطات اجتماعية، يلزم فقط أن يكون الطرفان من طائفة الآمش؛ وبعد ذلك كل شيء سهل يسير، ونظرًا لأنهم يطبقون المدونة الأخلاقية التقليدية فلا جنس خارج إطار الزواج، ولا طلاق إلا في حالات نادرة جدًا، فالزواج عندهم في سن مبكر، فمنذ أن يبلغ الأولاد والبنات سن السادسة عشر يُعمدون ويبدأون في البحث عن شريك لهم في الحياة.
يبوح الشاب بها للفتاة، ولكنه لا يعطيها خاتمًا بالضرورة، بل شيئًا أبسط (ربما ساعة)، ويحتفظان بنيتهما سرًا حتى شهر يوليو (تموز) أو أغسطس (آب)؛ وفي هذا الوقت تخبر الشابة أسرتها عن خططها للزواج، وفي أكتوبر (تشرين الأول) وفي صلاة الأحد يعلن الشماس أسماء كل الشباب الراغبين في الزواج من بعضهم البعض، ثم يعلن الآباء الكهنة عن تاريخ وقت الزفاف، عادة ما ترتدي عرائس الآمش فستانًا ذا لون أزرق داكن، بينما يرتدي العريس البذلة السوداء.
تقتصر تواريخ الزفاف الخاصة بالآمش على شهر نوفمبر (تشرين الثاني) وجزء من شهر ديسمبر (كانون الأول)، عندما يكون الحصاد قد اكتمل ولم يصل الطقس الشتوي القاسي بعد، يبدأ الزفاف عادة في تمام الرابعة عصرًا، ويقام الاحتفال في منزل العريس، يلعب جميع الحاضرين في حفل الزفاف دورًا حيويًا في أحداث اليوم.
تنشد التراتيل ويقدم الأب الكاهن المشورة للعروس والعريس في جزء آخر من المنزل، ثم يعودون إلى غرفة الصلاة لإكمال المراسم، وبعد ذلك يسألهم عن زواجهم، والذي يشبه أخذ عهود الزواج، ثم يبارك الزوجين، وتجلس العروس على يسار العريس، بعد إتمام مراسم الزواج، يقضي الزوجان الليلة الأولى معًا في منزل العروس لأنه يجب عليهما الاستيقاظ مبكرًا في اليوم التالي للمساعدة في تنظيف المنزل، ويقضون شهر العسل في زيارة جميع أقاربهم الجدد والذين يهدونهم هدايا زفافهم.
يتبنى الآمش أدوار الجنسين التقليدية التي تكون فيها الزوجات تابعات لأزواجهن، فالرجال مسؤولون عن الحياة الروحية للأسرة وهم مسؤولون عن توفير القوت، بينما تؤدي النساء المهام المنزلية، وترعى الأطفال، وتؤدي أعمال المزرعة الخفيفة، مثل: تغذية الدجاج وحلب الأبقار.
لا يلتزمون ببعض القوانين العامة
إذا كان الآمش قد تمكنوا مع مرور كل هذه السنين من أن يحافظوا على مجتمعهم بعيدًا عن التطور التكنولوجي وأحاطوا أنفسهم بعيدًا عن العالم الخارجي، إلى درجة أنهم يتحدثون بلغة «بنسلفانيا دوتش» وهي لهجة قديمة منحدرة من اللغة الألمانية والتي حافظوا عليها منذ أن هاجروا من ألمانيا قبل مئات السنين، مع أن معظمهم يتقنون الإنجليزية أيضًا، فمن الصعب أن تغيرهم القوانين العامة للبلاد، لذا حاولوا بقدر ما تمكنوا من الابتعاد عن القوانين التي تتعارض مع تعاليمهم وصلب عقيدتهم.
الآمش لا يفعلون أشياء ضد إيمانهم، ولو بتكليف حكومي، ويقبلون عواقب رفضهم دون جدل، فالآمش (وهم من دعاة السلام) يرفضون بالتأكيد الخدمة العسكرية، هم يحاولون العيش بسلام مع بعضهم البعض ومع الغرباء، لذا لا يؤدون الخدمة العسكرية ويرفضونها، كما أنهم لا يدفعون ضرائب الضمان الاجتماعي، لأنهم يرفضون الحصول على مستحقاتها من الدولة، فهم يتكفلون بأنفسهم وبأفرادهم كليًا، فلا يجمعون أموال البطالة من الحكومة أو حتى يتقدمون للحصول علي التمويل الاجتماعي، مجتمعهم يكتفي بذاته، لكنهم في ذات الوقت يدفعون الضرائب العقارية وضرائب الدخل الفيدرالية، لأن هذا حق الدولة، أما الانتخابات فعادة يذهبون للاقتراع، ولا يرفعون قضايا لأنهم يرون القانون صداميًا.
أطفال الآمش لا يذهبون إلى المدارس العامة بل يلتحقون بمدارس خاصة يكون معلموها من الآمش وتزودهم بمعارف أساسية في القراءة والكتابة والرياضيات وإدارة شؤون المزارع، ويتبعون المنهج الأمريكي في التعليم حتى الصف الثامن، لأنه بعد ذلك يتعارض مع تعاليم الآمش؛ فالآمش يرون أن التعليم بعد الصف الثامن يُركز على المنافسة في بيئة العمل، والرياضة، كما يأخذ أبناءهم بعيدًا عن مجتمع الآمش؛ جسديًا، وعاطفيًا، خلال فترة المراهقة الحاسمة والتكوينية للحياة، لذا يتوقف تعليم الأطفال في سن الرابعة عشر، وبعد ذلك يتعلمون المهارات العلمية التي يحتاجونها في العمل الذي يجيدونه، أما التعليم العالي فهو غير محبذ لديهم لأنه يبعد الأفراد عن حياة البساطة التي تنشدها هذه الجماعة.
«لا ننتظر هبات الرب.. نعمل جميعًا ومرحبًا بالغرباء»
التوكل على الله لا يعني الاتكال؛ نرى كسر هذه القاعدة في بعض الطوائف الدينية الذين يسلمون بمشيئة الله إلى درجة عدم العمل في انتظار الله أن يمنحهم من رزقه، لكن الآمش ليسوا من هذه الطوائف، الجميع يعمل، الزراعة كانت هي المهنة الأساسية للآمش نظرًا لأنهم يعيشون في مجتمعات ريفية، لكن مع الوقت تحولت أكثر من 80% من مجتمعات الآمش إلى العمل في شركات صغيرة أغلبها تعتمد على العمل اليدوي مثل الأثاث الداخلي، والحدائق، حظائر صغيرة، ملابس وسلع جلدية.
ينتج الآمش العديد من احتياجاتهم بأنفسهم، فيربون الحيوانات لإنتاج اللحوم، ويزرعون الذرة للأغذية وإطعام الحيوانات، ويزرعون الخضروات للأغذية وللبيع، وتصنع النساء أغلب الملابس، لكنها ليست مكتفية ذاتيًا تمامًا وتعتمد على المجتمع الخارجي لتلبية المتطلبات الأخرى.
اكتسبت الحرف اليدوية التي ينتجها الآمش سمعة كبيرة في أمريكا نظرًا لجودتها، لكنهم لم يستغلوا هذه السمعة لفتح متاجر كبيرة أو حتى المتاجرة بها عبر أشخاص آخرين، بل يحتفظون بأماكنهم، وعلى الراغب أن يذهب إليهم لشراء تلك المنتجات، فهم لن يكسروا نمط حياتهم من أجل كسب المزيد من المال، ولن يخرجوا للعالم الخارجي مهما بدا ذلك مغريًا.
يتدفق السياح إلى مناطق الآمش كثيرًا وأكثر ما يريدونه أن يشاهدوا كيف تسير الحياة بدون كهرباء وتكنولوجيا، أما الآمش الذين اعتادوا مجيء السياح فهم لا يحافظون على بشاشة وجوههم، ولا يطلقون أحكامًا عليهم، وكل ما يأملون به ألا يزعجهم أحد، فهم مثلًا لا يحبذون أن يلتقط السياح صورًا لهم، (فهم أصلا يحرّمون التصوير ولا يلتقطون صورًا لأنفسهم إذ يعتبرون أنها من دواعي الوثنية كما تؤدي إلى تباهي الإنسان بنفسه)، كما أنهم لا يحبون الحديث عن أنفسهم؛ لأنهم يعتبرون ذلك أيضًا من الكِبر ويتنافى مع التواضع الذي يضعونه في صلب مبادئهم، لذا حين يتحدث السياح إليهم، فهم يتحدثون معهم بالإنجليزية بكلمات قليلة في محاولة منهم أن يحافظوا على معتقداتهم وإيمانهم.
ساسة بوست