نارام سرجون:تفجير العقل العاجز .. ومحنة ايمانويل كانط في الشرق
نارام سرجون
الكلام المنطوق او المكتوب في النهاية هو وسيلة عقلية فريدة يستعملها الدماغ البشري لتجاوز عجزه عن الوصول الى خارج الذات .. والعقل عاجز عن ادراك الحقائق من دون الحواس الخمس التي يتسلح بها الجسد كما تقول فلسفة “ايمانويل كانط” في كتابه الشهير “نقد العقل الخالص” .. الذي أقر فيها بعجز العقل البشري عن الوصول الى الحقيقة المارورائية لان حواسه محدودة القدرات ..
ولكن الكلام كمنتج من منتجات العقل ووسيلته للخروج من حدوده المغلقة والمسورة بالجمجمة والحواس لايستطيع ان يحيط أحيانا بالحقيقة لأنها أكبر من حدود العقل وحدود اللغة والحرف .. ويجب ان نكتب عن محدودية العقل في ايصال الحقيقة التي يدركها الى خارجه باستعماله اللغة المحدودة التي يملكها الانسان .. ونعيد كتابة نقد العقل الخالص في منحى معاكس لمنحى كانط نعبر فيه عن عجز العقل عن التعبير عما يجول فيه وربما نعترف بعجز الحرف عن ايصال مايحسه العقل امام بعض الحقائق التي تصدمه فنكتب كتابا جديدا بعنوان (نقد الحرف الخالص أو المحض) ..
وطالما تلقيت خلال السنوات الماضية رسائل تطلب مني ان أخفف من قسوتي على العرب وقسوتي على الخونة والعملاء والسفلة وتطلب مني ان أتمهل في الحكم عليهم وتطالبني أحيانا بأن لاأمرر سكين اللغة على أعناق الاسلاميين وأن اكون عادلا في محاكمتهم في محاكم صفحاتي .. فانني كنت أرد على هؤلاء بالقول أنني أحس بالقهر والعجز الذي أحسه من قرأ ايمانويل كانط وهو لايقدر ان يتوصل الى ماوراء الحقيقة الازلية باستعمال العقل الخالص .. لانني في الحقيقة مقصر في التعبير عما يجول في خاطري وضميري وأنا عاجز عن ايجاد لغة جديدة أشد قسوة قادرة على ان تحمل ماظهر في خاطري وفي داخلي من احتقار لهؤلاء الخونة وهؤلاء السفلة الذين كانوا يريدون بيعنا في أسواق السياسة وطاردونا كالعبيد الذين يطلقهم سادتهم للامساك بالاحرار ليوثقوهم ويقدموهم مقيدين في حضرة سيدهم كما يمسك العبيد العبيد لصالح السيد الابيض .. وفي نفس الوقت لاأقدر ان احدد مقدار الاحتقار الذي احمله تجاه اولئك الغربيين الذين ينافقون ويكذبون علينا وعلى شعوبهم ويقلبون الحقائق وهم متشدقون بالحضارة والديمقراطية ويستعملون دمنا وألمنا من أجل اعادة عصر الاستعمار ..
لم أتوقف عن حالة الدهشة والرغبة وأنا اتابع السياسة والسياسيين ولكني اعترف ان الحرب على سورية هي التي جعلتني أحس انني عاجز لغويا وان الواقع صار هو الماوراء الذي لايقدر عقلي ان يصل اليه باية حاسة واية وسيلة لغوية .. وأن الكلام مجرد هواء وحبر يشبه ظلال الجبال لاوزن له ولايحمل ذرة من غبار الجبل ..
مانراه في عالم العرب اليوم شيء منقطع النظير من حيث تناقضاته .. ثوار العرب واسلاميوهم يرون في تركيا وقطر ملاذا لفلسطين ولأحلامهم واسلامهم .. ويرون الخليج على انه ليس بحيرة نفط لايمكن السباحة فيها خشية ان نتلوث .. بل بحيرة مقدسة نتعمد فيها كما تعمد السيد المسبح في مياه نهر الاردن .. الخليج المقدس رغم انه محتل .. ولايملك أهله من امرهم شيئا .. ولايقدر اي حاكم فيه ان يحاكم اي جندي او جاسوس اوروبي .. بل ان قضاءه يسقط وينهار امام رسالة من سفير اوروبي .. فمنذ ايام مثلا اصدرت محكمة اماراتية حكما يالسجن المؤبد على اكاديمي بريطاني متهم بالتجسس ولكن قرار المحكمة والقضاء كله يسقط خلال اقل من اسبوع ويمضي السجين سبعة ايام في السجن من الحكم المؤبد قبل ان يعود الى بلاده لكتابة مذكراته في رحلة التجسس الاكاديمية .. وهذا حال ينسحب على الجميع في قطر والسعودية والكويت وعمان وتركيا التي أفرجت عن جاسوس امريكي كانت تتوعد الدنيا انه لن يخرج الا بقرار قضائي تركي .. فاذا به يخرج في ايام ويبول على القضاء التركي واهله وسلاطينه .. وكلنا نذكر كيف ان توني بلير سافر الى السعودية وانتزع ممرضتين بريطانيتين مدانتين بجريمة قتل زميلتهن .. انتزعهما من بين ايدي القضاء السعودي الذي لايعرف الرحمة ولاالتوبة امام الضعفاء والمعارضين والفقراء ويقطع رؤوسهم دون أن تأخذه في الله لومة لائم .. ومع هذا فالسعودية وقطر والامارات تعج بالثوار وطلاب الحرية وتتلقى التهاني على ثوريتها من طلاب الاستئلال والحئيئة اللبنانيين .. مسلمين ومسيحيين ..
ولعل العقل يتفجر عندما ينظر الى ما كتب بعض المثقفين العرب من رسائل اعتراض على زيارة بن سلمان لبلدانهم فوجدنا ان بيانات بعضهم ليس فيها الا ضحية واحدة يتكرر اسمها من أول البيان الى آخره .. هي الخاشقجي .. ولم يقدر بعضهم على امتلاك شجاعة ذكر الضحايا اليمنيين والسوريين والعراقيين ووووو .. فقط بيان عنيف من أجل رجل واحد عميل قتله عملاء ويستغل قضيته الاتراك .. ولعله يتفجر أكثر عندما يرى أن وزيرة اسرائيلية وصفت أذان المساجد بأنه نباح الكلاب ولكنها تدخل معززة مكرمة الى مسجد زايد الاماراتي .. وكانت محاطة بالكلاب التي تهز أذيالها فرحا بضيفتها .. وسيتفجر العقل أكثر عندما يرى كم تفننت قطر في توبيخ السعويين والاماراتيين والعمانيين على حفلات التطبيع والاستقبال الحار رغم ان قطر هي المنتجع المفضل لكل الاسرائيليين ولكل ضباط الموساد ولاتزال صور الحمدين القطريين لم تتبخر بعد من ذاكرتنا وهما يصافحان بيريز وليفني وكل الوزراء الاسرائيليين في قطر .. أم الثوار العرب .. وحضن الاخوان المسلمين الدافئ ..
مافعله العرب بأنفسهم وببلدانهم وبمدنهم وماقالوه من تطاول على زعماء الحرية والاستقلال الوطني لديهم مثل عبد الناصر وحافظ الاسد وغيرهما شيء لايقدر العقل على ابتكار وسيلة لغوية لتوصيفه .. ويبقى واقعهم هو الماوراء بالنسبة للعقل .. ولايقدر كانط ولاغيره ان يساعدهم لكتابة نقد للعقل العربي الخالص .. هذا العقل الذي لايزال يظن ان اردوغان يريدون بهم خيرا وأنه لايستعملهم كأحذية يخوض بها حروبه من أجل مشروعه العثماني بل انه كان شريكا في صناعة داعش ولولاه لما ظهرت داعش ولما تمددت .. داعش التي ذبحت وسبت وطغت وبغت وسرقت ونهبت وتوحشت كانت تمر قربه كما يمر الجندي المطيع امام جنراله .. ولايزال اردوغان يقول انهم مجرد مجموعات مبعثرة لامشروع لها .. وبالطبع قال ذلك بعد أن حول الجيش السوري والحشد الشعبي العراقي جيش أردوغان الداعشي المتوحش الى مجموعات مبعثرة ومحطمة وهائمة على وجهها في الصحراء ..
ولكن دعوني أعترف أن هذه السنوات التي ملأتني دهشة وذهولا مما رأته عيناي وسمعته اذناي .. وجعلتني لاأدري متى أخرج من حالة الدهشة والذهول وانا أنتقل من احتقار الى احتقار أدنى لكل السفلة والخونة والأغبياء .. فانها ملأتني بدهشة أكبر واعجاب ممزوج بالخيال .. اذ انني مدين لأولئك الأبطال في المعارك الذين استوقفوا عيوني وكل حواسي وكل الكلام الذي كنت أصنعه وأركبه وأخلطه بالوجع والحب .. هؤلاء الذين عالجوا ألمي ونزقي وغضبي .. فأنا في نفس الوقت كنت أحس انني عاجز بنفس القدر عن التعبير عما يجول في خاطري من اعجاب ودهشة بحجم البطولات الخارقة التي كنت أراها وأسمعها عن بعض الجنود السوريين والضباط والآباء السوريين والأمهات السوريات .. وكنت اردد دوما أنني احتاج لتمزيق كتاب كانط لأنني بحاجة الى كتاب جديد ينتقد فيها اللغة والحرف وعجز العقل عن التعبير عن مشاعره وركوب صهوة اي لغة للخروج الى العالم بكلام لايشبه الكلام .. كلام لايستحقه الا من سحق مهانات العرب وخيانات العرب وداس على رايات تركيا وبني عثمان وحدّ من طموحات شعب الله المختار عند الفرات .. واغرق في البحر أساطيل اوباما .. لأن الاساطيل التي لاتفرض ديبلوماسيتها على الشعوب لافرق بينها وبين الاساطيل التي تغرقها الشعوب في البحر ..
ان محنة ايمانويل كانط لم تعد في نقده للعقل العاجز عن ادراك الحقيقة بوسائله الحسية البسيطة .. بل ظلم الحقيقة التي عجز العقل عن الاعتذار لها في عالم اليوم .. وعن التعبير عنها باللغة التي هي وسيلته الوحيدة للسيطرة على كل مافي الوجود والخروج الى عالم الحواس كي تدركه الحواس على أنه موجود خلف الحجب