معايير دمشق وميزانها
دخلت المنطقة العربية في مخاض ولادة مرحلة جديدة تنبئ بحدوث متغيرات دراماتيكية في المشهد السياسي الذي كان قائماً وإنتاج مشهد جديد من شأنه بلورة تحالفات جديدة تحكمها لغة المصالح إضافة إلى ضرورات إعادة النظر بالتوازنات القائمة التي أفرزتها أحداث المنطقة بدءاً من المشهد الليبي مروراً بالساحة اليمنية والعراقية وصولاً إلى «الحبكة» الأساسية وهي الساحة السورية التي تختصر عقدة الحل والربط في المنطقة.
ولو فصّلنا المشهد الحالي للساحات العربية لوجدنا أن الساحة الليبية تحولت إلى منطقة صراع نفوذ مفتوح بين أوروبا وأميركا والسعودية والإمارات العربية من جهة وبين محور قطر تركيا من جهة أخرى.
وبالانتقال إلى اليمن فإن الساحة اليمنية تحولت إلى صراع حاد بين أميركا والسعودية والإمارات العربية من جهة وبين نفوذ إيران المتزايد ومحور المقاومة من جهة أخرى.
أما على الساحة العراقية فالصراع قائم بين نفوذ السعودية والإمارات العربية وأميركا من جهة وبين النفوذ الإيراني المتأصل والنفوذ التركي المتجدد في العراق.
أما الساحة السورية فهي قصة مختلفة جداً حيث تكالبت كل تلك القوى الغربية والخليجية المتصارعة للنيل من سورية العروبة، بيد أن سورية بصمودها الأسطوري استطاعت وبكلفة عالية إفشال كل تلك الصراعات والمؤامرات على أرضها ما أرغم مجمل القوى المتآمرة على إعادة حساباتها والبحث عمن يمكنه ملء الفراغ وعودة نوع من التوازن الاستراتيجي بعد حدوث اختلال فاضح في ميزان القوى لمصلحة قوى إقليمية مثل تركيا التي استفادت واستثمرت بنزاعات المنطقة القائمة واستثمرتها بحرفية عالية واستطاعت تجيير نتائجها لمصلحة استعادة الحلم بحكم عثماني جديد للمنطقة.
تركيا استفادت من الأزمة الليبية كما استفادت من حصار دول الخليج لقطر واستفادت من الصراع القائم في العراق ولم تزل تمسك بورقة مهمة في الشمال السوري تناور من خلالها مع روسيا وإيران وتضغط بها على أميركا والغرب.
ومن محاسن المصادفات أن الغباء السعودي أسفر عن ارتكاب جريمة موصوفة بقتل وتقطيع الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في تركيا الأمر الذي أسهم في تقديم هدية ثمينة لأردوغان الذي استطاع من خلالها ابتزاز السعودية والإمارات العربية وأميركا شر ابتزاز وخصوصاً بعد تلقف أردوغان خبر ارتكاب جريمة خاشقجي وجعلها الفرصة الذهبية لمحو آثار جريمته في سورية ما يتيح لأردوغان تحقيق حلمه في فرض نفسه لاعباً إقليمياً مؤثراً الأمر الذي من شأنه إضعاف الدور السعودي الإماراتي الأميركي وحلفائهم في المنطقة لمصلحة الدور التركي القطري كما انه يضعف كل من حاول ويحاول تغطية الجريمة السعودية.
أمام بروز الدور التركي الجديد كُبلت القيادة السعودية وحلفاؤها بسلاسل جريمة خاشقجي بعد مطالبة دولية بالكشف عن هوية المسؤول المباشر كما أصيبت الإدارة الأميركية الحليفة للقيادة السعودية بالإرباك الشديد حيث يحاول الرئيس الأميركي التغطية على الجريمة السعودية من أجل الحفاظ على استمرار تدفق مئات المليارات السعودية ما أدخله في حال نزاع شديد مع الحكومة الأميركية العميقة المتمثلة بجهاز المخابرات والإعلام وجهات الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على قيم أميركا.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضرب بعرض الحائط كل قيم أميركا كما أنه أظهر أميركا على حقيقتها فبدل أن تكون الدولة صاحبة قِيَم الحرية والديمقراطية والدفاع عن المبادئ الإنسانية كشف ترامب عن وجه الكاوبوي الحقيقي الهادف للسيطرة على مقدرات بلادنا العربية وأموالها في ترجمة لنظرية وزير خارجية أميركا الأسبق ريكس تيليرسون حين قال عند مصلحة أميركا لا وجود للمبادئ ولا للقيم وبذلك يكون ترامب قد طبق فعلياً نظرية الكاوبوي «اعطني المال وارتكب ما شئت من الجرائم».
وأمام ارتباك السعودية والإمارات العربية وسعي أميركا إلى لملمة «جثة خاشقجي» وجدت السعودية والإمارات نفساهما أمام واقع جديد مملوء بالضغوطات والمطبات ما أفسح المجال أمام تركيا للتقدم خطوات مهمة باتجاه تحقيق عودة حلم الحكم العثماني للمنطقة وخاصة على الصعيد الإسلامي.
أمام هذا الواقع الجديد اضطرت السعودية والإمارات العربية إلى التراجع في مجمل الساحات ففي اليمن هناك ضغوط لانجاز اتفاق بدأ يطل برأسه مسجلاً تقدماً إيرانياً واضحاً مقابل تراجع سعودي إماراتي جراء فشل تحقيق أي من أهداف عاصفة الحزم.
في قطر وبعد حصار خليجي مطبق اعترف محمد بن سلمان بعدم جدوى الحصار في تحقيق الأهداف المعلنة كما أنه اعترف بأن قطر تنمو بسرعة لافتة، وأنه أي ابن سلمان ينظر إلى إعادة لم الشمل الخليجي.
وفي العراق نستطيع القول: إن السعودية كانت الخاسر الأكبر وخصوصاً بعد نجاح العراق في إزالة العراقيل أمام انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس لمجلس النواب ورئيس لمجلس الوزراء.
أما في سورية فإن الوضع بات واضحاً لجهة حسم الأمور لمصلحة الدولة السورية فلم يعد وزير خارجية السعودية عادل الجبير يعزف سيمفونية رحيل الرئيس بشار الأسد أو تغيير النظام وباتت كل القوى المعارضة تسعى للحصول على موعد للاجتماع بأركان الدولة السورية وانضمامها للاتفاق الذي تم التوصل إليه في أستانا.
على عكس تراجع النفوذ السعودي الخارجي نتيجة التركيز على ترتيب البيت السعودي الداخلي إضافة إلى محاولات طي صفحة خاشقجي، شهدت المنطقة تقدماً واضحاً في الدور التركي مدعوماً من قطر لدرجة انه بات الهاجس الذي يشكل أرقاً دائماً لكل من السعودية والإمارات نتيجة الهوة الحاصلة.
مرة أخرى أردوغان الذي اعتاد ممارسة البراغماتية والابتزاز السياسي فضل اللعب دفعة واحدة وعلى جبهات عدة فبعد ابتزاز السعودية وأميركا، جاء دور روسيا وإيران هذه المرة مفضلاً التنصل من تنفيذ الاتفاق الروسي الإيراني التركي بشأن تحرير مدينة إدلب وريف حلب الشرقي من الإرهابيين.
روسيا لا تستطيع حالياً الضغط على تركيا لان مشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا وما يعرف باسم «السيل التركي» الذي يقدر بمئة مليار دولار قد أنجز بنجاح بانتظار النتائج.
إيران تربطها علاقات إسلامية واقتصادية كبيرة مع تركيا، نستطيع القول إنه جراء المتغيرات الأخيرة في المنطقة استطاعت تركيا امتلاك أوراق ثمينة والأكثر أهمية في المنطقة ما أسهم في اختلال ميزان القوى العربية لمصلحة الميزان التركي.
إن الهجوم الدبلوماسي العربي لإعادة ترتيب العلاقات مع سورية لم يأت من فراغ بل جاء بسبب وجود رغبة عربية لملء الفراغ العربي الحاصل مقابل التقدم التركي، ونظراً للثقل الذي يمثله موقع سورية الجيوسياسي المهم.
سعي الدول العربية لإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية جاء بهدف تفعيل دور الجامعة بوجه تركيا وخصوصاً بعد الشلل الذي أصابها نتيجة تغييب سورية عن الجامعة.
السعي الإماراتي لإعادة فتح السفارة في دمشق جاء بعد التأكد من أنه لم يعد بالإمكان إلا الاعتراف بالدور السوري الفاعل والجامع وأن أي عملية لإعادة التوازن في المنطقة مع تركيا وإيران لا بد لها من الحصول على تأشيرة مسبقة ومشاركة فعلية من دمشق أولاً.
هجوم القنوات الخلفية السعودية على دمشق شرعت أبواب إعادة فتح السفارة السعودية في دمشق في 2019 وهذا إقرار واعتراف سعودي فعلي مثبت بدور سورية الاستراتيجي الذي لا بد منه في أي توازن عربي.
زيارة الوفد البرلماني الأردني إلى دمشق والاجتماع مع الرئيس بشار الأسد تركت أثراً بالغاً من الإيجابية حيث عاد الوفد إلى الأردن هاتفاً سورية العروبة وبقيادة بشار الأسد زعيماً للأمة.
الرئيس بشار الأسد قال: إن المعركة هي معركة وجود ومعركة هوية وانتماء، مضيفاً: إن سورية انتصرت لأننا لا ننظر للخلف فنحن في سورية دائماً ننظر للأمام من أجل تأمين مستقبل أجيالنا القادمة.
لا غلو في القول: إن كل من أراد إعادة ضبط الميزان والتوازن الاستراتيجي في المنطقة فلا بد له من العودة إلى معايير حافظ الأسد وميزان بشار الأسد ولا بد له من المرور بدمشق للحصول على التأشيرة السورية.
رفعت البدوي – النشرة