“الماريشال” السوري على طريقتنا وليس على طريقتهم..من يعيد إعمار سورية فعلاً؟
يبدو ثقيلاً فعلاً هاجس إعادة الإعمار، فللوهلة الأولى تمرّ العبارة بسلاسة في سياق التداولات الاستشرافية المتفائلة لأفق ما بعد الحرب على بلدنا، إلّا أن فاتورة التكلفة المنتظرة من شأنها قطع سلسلة الاسترخاء والتأمل، وإدخالنا في دوامة عصف ذهني موجعة ومرهقة بكل معنى العبارة، فنحن أمام استحقاق غير تقليدي أبداً، إن كانت حدوده الدنيا تقف عند مبلغ 300 مليار دولار، فربما لن تكون عتبته العليا مقتصرة على الـ 400 مليار دولار.
المقلق أكثر أننا- ونحن داخل المساحة الافتراضية لـ “سورية ما بعد الحرب” – مازلنا نتعاطى مع هذا الملفّ الحسّاس بعيداً عن حقيقة الأرقام الصادمة، وبذات النبرة والمفردات الباردة التي كنّا نقاربه بها خلال أعوام ذروة الحرب مع الإرهاب، أي حين كان مهمة مؤجّلة إلى حين الحسم بالانتصار!؟.
ولعلّه من الحكمة التسليم بأن إقرار ضخ التمويلات الترميميّة البسيطة لهذه المنطقة المحرّرة أو تلك خلال اجتماعات رسميّة ليس حلّاً على الإطلاق، لأن هذا ما بحوزة الحكومة وخزائنها، ولا نظن أن من الحكمة مطالبتها بأكثر من ذلك، فما بحوزتنا كدولة ليس إلّا “ملليم” قليلة من حجم الاستحقاق المالي الكلّي، وهنا علينا أن نهدأ قليلاً ونخفف من ضجيج الاحتفاء بالفكرة وتطبيقاتها، لنسأل أنفسنا عن أية مفاجآت يمكن أن ننتظرها لإسعافنا في إعمار بلدنا.. حقاً أي مفاجآت ونحن بالتأكيد ندرك تماماً أن السماء لا تمطر دولاراً ولا ذهباً؟.
نتساءل وفي أذهاننا قناعات واقعية مفادها، أن مفهوم الصداقة والتحالفات في زمن الحرب يختلف عنه في أوقات السلم، لأن المعيار مختلف.. هذه طبيعة الأشياء وعلينا ألّا نباغت أنفسنا بإدراك متأخر لما بات مسلّمات في أدبيات عالم اليوم. هذا عن الأصدقاء.. أما الأطراف الأخرى فلها حساباتها – إن لم تكن حساباتنا – ولا نظن أن ثمة انعطافات واضحة في المواقف ستتبلور قبل سنتين أو أربع من الآن، وعلى العموم لهذا الشأن ترتيبات أبعد من داخليّة لا يجوز التعويل عليها أبداً، فما الذي تبقى أمامنا من خيارات إذاً؟.
الواقع أننا نقف وجاهياً أمام خيار رئيس يبقى باتجاه واحد مهما أوجدنا له من تفرعات، يبدو داخلي الرؤية والإستراتيجية والتطبيق، حتى بأدواته وربما بخبراته والأهم بتمويله، وعند هذا العنصر الأخير تكمن حساسيّة الاستحقاق الصعب التي من شأنها خلق المحفزات الحقيقية للاقتصاد السوري، ولا بأس أن تكون تحت وطأة الحاجة بما أن “الحاجة أم الاختراع”.
نحن من سيبدأ الإعمار وربما سنكمل المشروع لوحدنا، وإن طال المدى الزمني لهذه الرحلة المضنية التي بالتأكيد لن تكون أصعب من الحرب التي خضناها وصمدنا وانتصرنا، ولعلّنا لن نكون حالمين إن زعمنا أننا قادرون على خلق “مولدات” ومطارح إنتاج معظم الأموال اللازمة للإعمار محلياً، أي نحن من سيؤمّن تمويل الفاتورة مباشرةً، بما أننا المعنيون بها أولاً وأخيراً سواء اقترضنا أو طلبنا مساعدة صديق، فالكلفة النهائية ستكون استحقاقاً علينا مهما “تعاطف” وتسامح معنا الشركاء، إن عوّلنا على شركاء.
واسمحوا لنا أن نعود بالذاكرة إلى تجربة حصارنا و”خنقنا” اقتصادياً في ثمانينيات القرن الماضي، رغم الفارق الكبير في وقائع الدمار والآثار الكارثيّة للحرب “المركّبة” التي شُنّت وتُشنّ علينا اليوم، إلّا أننا شهدنا نهضة صناعيّة وزراعية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، كحصيلة لجهود الاستدراك المبنيّة على دروس تلك الأزمة.
في أزمة الثمانينيات لم يكن لدينا مصانع كبرى، اليوم لدينا آلاف المصانع وكثير منها عاود العمل مجدداً، ولم يكن لدينا كوادر وخبرات كما لدينا اليوم من حيث النوع وحتى الكم رغم الهجرة، ولم يكن لدينا صادرات بشكل شبه مطلق، أما اليوم فنصدّر إلى حوالي 100 بلد، والمنتجات السورية تقدّم نفسها في أسواق كرنفالية جوالة في عواصم عربية وأجنبية رغم الحرب.
المهم الآن، أن نبلور رؤية عامة وشاملة لتأمين التمويل اللازم للإعمار.. تقوم على إعادة نشر المشروعات الإنتاجية – الإنتاجية حصراً- على نطاق واسع جداً، وتعزيز مكنة التصدير بكل الوسائل المتاحة والمجرّبة لدى من جرّبوا، وإعادة ضبط المستوردات وعرقلة التدفقات السلعيّة من الخارج، والاستفادة المدروسة من إمكانات حوالي 6 ملايين مغترب سوري قادر على الدعم والإسناد المالي والاستثمار في الإعمار.
لا بدّ أن نبدأ فوراً بصياغة مثل هذه الرؤية وبلورتها بمشاركة كافة الفعاليات الرسمية والأهلية، لتكون بديل لسلسلة الرؤى “الماريشالية” التي تُصاغ بشأننا في الخارج، وعندها سيكون لكل حادث حديث.
الخبير السوري