مفاهيم جديدة للتفكير في “غرفة الإدارة والتحكم” بالاقتصاد السوري..وسنوات التضحية ولّت
لسنوات طويلة، غلّبت سوريا مصالح غيرها الاقتصادية على مصالحها، إما لأهداف وحسابات سياسية أو ولاءً لمبادئ قومية. لكن دروس الحرب كانت قاسية، فكل من كانت تخسر سوريا لأجلهم اقتصادياً تحالفوا ضدها، فكيف ستكون إدارة الملف الاقتصادي بعد الحرب؟ وما علاقته بالقرار السياسي؟
دمشق | ما بعد الحرب ليس كما قبلها. هكذا يأمل السوريون أن تكون مقاربة دولتهم لجميع الملفات الداخلية والخارجية، وإن كانت المؤشرات المرحلية لا تشير إلى إمكانية حدوث ذلك «الانقلاب» بالسرعة المرغوبة شعبياً، بالنظر إلى وجود عوائق كثيرة. لكن ثمة ملفات رئيسية لا تقبل برأي الشارع أي جدل، من قبيل طريقة إدارة الشأن الداخلي، ومستقبل العلاقة مع الدول العربية والإقليمية التي أسهمت في تدمير البلاد، وأولوية المصالح الوطنية والاقتصادية التي لطالما تراجعت سابقاً لحساب بعض المبادئ والحسابات السياسية. وأوضح مثال على ذلك العلاقة مع تركيا قبل الحرب، فضلاً عن «سطوة» التوجهات القومية على العلاقات الاقتصادية مع جميع الدول العربية
فكيف ستدير سوريا علاقاتها الاقتصادية الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب؟ هل سيحدث ذلك بالتناغم مع المصالح والعلاقات السياسية، حتى لو ترتب على ذلك أحياناً بعض الخسائر الاقتصادية؟ أم أن إدارة تلك العلاقات ستحظى باستقلاليتها الكاملة لتكون مصلحة الدولة الاقتصادية هي العليا؟
بلا حدود
حتى هذه اللحظة، ليس هناك ما يمكن وصفه بالنهج الواضح في إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية للبلاد، فما يطبق مع هذه الدولة ليس بالضرورة أن يطبق مع دولة أخرى لاعتبارات هي في معظمها سياسية، فالقطيعة الشهيرة بين سوريا والعراق والتي استمرت لنحو عقدين من الزمن أنهاها تدريجياً التطبيع الاقتصادي بين البلدين أواخر تسعينيات القرن الماضي، في حين أن العلاقات السياسية المتينة بين دمشق وطهران لم تواكبها طوال العقود السابقة علاقات اقتصادية بالمستوى نفسه. أما العلاقة مع تركيا قبل سنوات الحرب، فقد مثّلت نموذجاً واضحاً لهيمنة المشاريع السياسية على حساب المصالح الاقتصادية الوطنية، وهو الأمر ذاته بالنسبة إلى العلاقة مع لبنان قبل عام 2005.
ولم تخرج سنوات الحرب عن هذا المسار، ففي الوقت الذي كانت فيه البلاد تسعى نحو توسيع أفق علاقاتها الاقتصادية مع الدول الحليفة والصديقة لها، ومنحها الأفضلية المطلقة في الاستثمارات المحلية، كانت مبادلاتها التجارية الخارجية تعكس حالة «منعزلة» ومختلفة تماماً عن المشهد السياسي والتحالفات الإقليمية التي أفرزتها الحرب السورية، حيث حضرت مثلاً كل من تركيا والسعودية بقوة على خريطة الصادرات والمستوردات السورية، إذ وفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية فإن تركيا شكّلت الوجهة الثانية للصادرات السورية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، وبقيمة تصل إلى نحو 43 مليون يورو، بينما مثّلت السعودية الوجهة الثالثة باستقبالها نحو 42 مليون يورو من قيمة الصادرات السورية، في حين أن الدولتين الحليفتين للبلاد، إيران وروسيا، لم يكن لهما وجود ضمن قائمة أهم 20 شريكاً تجارياً للصادرات السورية خلال الفترة المذكورة سابقاً، فإيران جاءت في المرتبة 23 وروسيا في المرتبة 32، وبقِيم صادرات صادمة.
شكّلت تركيا الوجهة الثانية للصادرات السورية، والسعودية الثالثة، أما إيران في المرتبة 23 وروسيا في المرتبة 32
وهذا أيضاً ما تؤكده بيانات المكتب المركزي للإحصاء الخاصة بالتجارة الخارجية لعام 2016، والتي تشير إلى استحواذ السعودية على 14.7% من المستوردات السورية القادمة من الدول العربية، وعلى نحو 15.8% من الصادرات السورية المتجهة إلى الدول العربية. أما تركيا فقد بلغت نسبة صادراتها إلى سوريا نحو 8.7% من إجمالي الصادرات الآسيوية لسوريا، وارتفعت حصتها من إجمالي الصادرات السورية المتجهة إلى البلدان الآسيوية لنحو 58.5%.
في المقابل، فإن العلاقة التجارية مع الدول الحليفة تميزت بغلبة المستوردات بشكل واضح على الصادرات، وهذا يبدو طبيعياً في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية التي فرضت على سوريا منذ عام 2011، وسعي البلاد لتأمين احتياجاتها من الدول الحليفة والصديقة، إذ إن حصة إيران من السلع الآسيوية المتجهة نحو الأسواق السورية وصلت في عام 2016 لنحو 10.7% مقابل نحو 1.9% هي نسبة ما استقبلته طهران من الصادرات السورية المتجهة نحو البلدان الآسيوية. ومع أن المستوردات من روسيا كانت الأعلى، حيث وصلت إلى أكثر من 156 مليار ليرة، إلا أن قيمة الصادرات السورية إلى موسكو لم تتجاوز ملياري ليرة.
يعلق مصدر حكومي على هذه البيانات بالتأكيد أن «ظروف الحرب والحصار الاقتصادي أثّرت بشكل مباشر على تركيبة التجارة الخارجية السورية، ومع زوال تلك المسببات فإن الأولوية ستكون لأسواق الدول الصديقة، وتلك التي لم تتخذ مواقف عدائية ضد البلاد، وهناك جهود كثيرة تبذل في هذا السياق».
الحلفاء… أولاً
إذا ما صحت التصريحات الواردة على لسان أكثر من مسؤول حكومي، فإن بوصلة العلاقات الاقتصادية السورية خلال الفترة المقبلة ستنطلق من متلازمتين أساسيتين، الأولى أفضلية التعاون مع الدول «الحليفة والصديقة» تحت مظلة إعادة إحياء شعار «التوجه شرقاً»، والثانية أولوية المصلحة الاقتصادية الوطنية. بمعنى أن العلاقة السياسية المتميزة مع الحلفاء لن تكون بأي حال من الأحوال على حساب المصلحة الاقتصادية الوطنية، كما كان يجري سابقاً، أو هكذا يفترض. وهذا ما يذهب إليه وزير الاتصالات السابق الدكتور عمرو سالم الذي يؤكد أنه «يجب التوجه إلى الدول الحليفة على أساس المنفعة المتبادلة، وليس على حساب أحد». واعتبر في حديثه إلى «الأخبار» أن «القرار الأخير في اتجاه السياسة الاقتصادية سيكون قراراً سياسيّاً سياديّاً، إلا أن المقدمات لا بدّ من أن تؤثّر في النتائج. ولعل أخطر المقدمات الحاليّة هي أن السياسات الاقتصاديّة المتبعة، هي سياسات إطفاء حرائق وحلول آنيّة لا تحتوي على متطلبات الاستدامة».
لكن حتى، وإن قبلت السياسة بإمكانية حدوث تطبيع اقتصادي هنا أو هناك، فإن المزاج الشعبي سيبقى رافضاً لأي تطبيع مهما كانت إيجابياته. وبحسب ما ترى وزيرة الاقتصاد السابقة الدكتورة لمياء عاصي، فإن «الاعتماد على شركات من دول غير معادية لسوريا يعتبر هو العامل الأهم، وإن كانت شركات الدول الحليفة لها الأولوية، بالرغم من وجود نظرية تقول إن خلق مصالح اقتصادية لدول معينة، ولو كانت معادية حالياً، من شأنه أن يقوم بدور إيجابي مستقبلاً، انطلاقاً من أنه لا توجد ثوابت في السياسة». وتضيف لـ«الأخبار» إن «هذه النظرية مرفوضة شعبياً برغم أساسها النظري واعتباراتها، بسبب أن مجموع الدول الحليفة والصديقة أو المحايدة كاف وكبير، ويمكن لهذه الشركات المنافسة في الكفاءة والكلفة وطريقة التمويل، وبما أنها حجر الزاوية لأي مشروع، فهي ستكون إما من إيرادات تلك المشاريع أو من الثروات الباطنية للدولة أو عن طريق التشاركية في بعض المشاريع، ولا سيما في حالة عدم الاقتراض، لأنه عادة ما يؤدي إلى فرض شروط قاسية اقتصادياً، وتنال من استقلال قرار الدولة».
من تحت الطاولة
إذا كانت سوريا سياسياً وشعبياً غير مستعدة لتطبيع اقتصادي مع دول ناصبتها العداء، أو التخلي عن مصالحها الاقتصادية تحت أي ظرف، ومع أي دولة، فإن ذلك لا يلغي المخاوف من إمكانية حدوث انحرافات هنا أو هناك، أو كما تقول عاصي: «إن مصدر خوف السوريين يتأتى من تنفيذ بعض مشاريع إعادة الإعمار من قبل شركات تتبع لدول قامت بالتمويل أو منح التسهيلات اللوجستية للميليشيات الإرهابية». وتشير إلى أنه «رغم مواقف بعض الدول العدائية، فإن الخوف أن تتمكن شركاتها من الدخول الى السوق السورية بشكل غير مباشر أو الالتفاف على جنسية الشركات بطرق شتى، وذلك بالتعاون مع شركاء محليين، وخصوصاً أن القرارات الاقتصادية غير استراتيجية وتفتقر إلى الوضوح، فتأتي التفسيرات مختلفة، ما يسمح بإساءة استخدامها لمصالح شخصية، ولو تحت مبررات مختلفة».
وفي سياق الحديث عن المخاوف من التطبيع المستتر، يذهب وزير الاتصالات السابق إلى أبعد من ذلك، فيرى أن عدم تطوير بيئة العمل الاقتصادي والاستثماري في سوريا من شأنه أن يجعل «اقتصادنا مغتصباً بالكامل من اقتصاداتٍ قد لا نريد التعامل معها أصلاً، سواء كان استيراداً أو منافسةً أو تهريباً
الأخبار اللبنانية – زياد غصن