السياسة والاقتصاد وعالم الأغنياء
نبيل الملاح
دفعني لكتابة هذا المقال الاحتجاجات التي اندلعت مؤخراً في فرنسا بسبب تراجع الأوضاع المعيشية لذوي الدخل المحدود وفرض ضرائب عليهم في مقابل إلغاء ضريبة الثروة التي كانت من أهم عوامل العدالة الضريبية.
بداية لابد من التذكير بأن السياسة والاقتصاد مترابطان ترابطاً كاملاً ولا يمكن الفصل بينهما بأي حال من الأحوال، وثبت ذلك من خلال تجارب بعض الدول التي حاولت فصل الاقتصاد عن السياسة ولم تنجح في ذلك.
وأن الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق لم ينجح إلا في الدول الغنية التي لديها تراكمات رأسمالية كبيرة، وإن الاستقرار الذي تعيشه الدول التي انتهجت الاقتصاد الحر سببه الرئيسي السياسات التي اتبعت في مجال تحديد الرواتب والأجور وأنظمة الضمان الاجتماعي والصحي التي حققت شكلاً من أشكال العدالة الاجتماعية في الوقت الذي دعمت فيه هذه الدول وجود نقابات فاعلة تدافع عن حقوق العمال وترعى مصالحهم على اعتبارها واحدة من أهم مؤسسات المجتمع المدني.
إلا أن العولمة التي غزت العالم في أواخر القرن الماضي؛ أدت إلى زرع بذور الخلل وعدم التوازن الاجتماعي والاقتصادي لهذه الدول، وأصبحت هذه الدول مضطرة لتطبيق قوانين العولمة الظالمة للفقراء وذوي الدخل المحدود في العالم كله وللدول الفقيرة.
ومنذ البداية تنبه كثيرون إلى مخاطر العولمة وأهدافها ووصفوها بـ«الرأسمالية المتوحشة».
لقد كان واضحاً لكل من يريد أن يعرف الحقيقة أن ما يطرح عن العولمة ومفرداتها المتعددة يأتي في سياق المشروع العولمي الذي يهدف إلى السيطرة على العالم والتحكم بثرواته الطبيعية وغير الطبيعية، ومدخله إلى ذلك (اقتصاد السوق) هذا السوق الذي لن يستطيع البقاء فيه إلا الأقوياء تاركين لسواد العالم الفتات بشرط التزامهم بالسياسات التي يقررونها، وهنا لابد من الإشارة إلى الدور المحوري الذي تلعبه الصهيونية العالمية في إطار العولمة وملحقاتها على اعتبارها مشروعاً مساعداً لتحقيق المشروع الصهيوني الذي هو في أساسه وحقيقته مشروعاً عولمياً يهدف في النتيجة إلى السيطرة على العالم كله.
وبعد مضي عقدين أو ثلاثة عقود تبينت صحة هذه التوقعات؛ حيث بدأت تظهر بوضوح النتائج الكارثية للعولمة وقوانينها، واهتزت حالة الاستقرار التي كانت تعيشها الدول الغربية (الغنية)، وأعتقد أن الاحتجاجات التي بدأت في فرنسا لن تتوقف وستمتد إلى كل دول أوروبا التي تبنت العولمة وقوانينها.
لقد سرعت العولمة وقوانينها في إيصال العالم كله إلى طريق مسدود في كل المجالات السياسة والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية- ولا أبالغ في ذلك- وأصبح العالم مهدداً بالضياع ما لم يبادر قادة الدول الكبرى إلى الإسراع بإيجاد مخرج يحافظ على استقرار العالم وما تحقق من إنجازات حضارية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وصياغة نظام عالمي جديد يحقق التوازن والعدل والتكامل بعيداً عن مشاريع الهيمنة والسيطرة والاستغلال.
وليدرك الجميع أن الظلم والفساد كانا السبب الأهم لسقوط الدول والإمبراطوريات؛ حيث إن الظلم يعطل العدل، والفساد يؤدي إلى اضمحلال القيم الأخلاقية، ومن دون العدل والأخلاق لا تستقيم الحياة على المستويين العام والخاص.
وليدرك العرب أنهم يتعرضون لحرب شرسة تستهدف هويتهم وثرواتهم، وأنه لا مخرج لهم إلا بتضامنهم وتعاونهم لمواجهة المخطط التآمري، وعلى حكام دول الخليج أن يدركوا أن أميركا والغرب يتعاملون معهم لاستنزاف ثرواتهم مقابل تأمين استمرارهم في الحكم- وهذا لن يدوم طويلاً- ما داموا يستنزفون ثروات بلادهم في دفع الأتاوات التي يفرضها عليهم الرئيس الأميركي ترامب علناً، وذلك على حساب حياة شعوبهم ومعيشتهم.
إن العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد، وواقع الحال، يتطلب إيجاد «توليفة» من المفاهيم الإيديولوجية المختلفة الليبرالية والاشتراكية والقومية تؤدي إلى صياغة إيديولوجيا تناسب بلادنا وتحقق العدل والإنصاف للأفراد والجماعات، وتحافظ على الكيان العربي.
وعلى الأغنياء في العالم كله أفراداً ودولاً، أن يدركوا أنهم لن يكونوا في مأمن هم وثرواتهم؛ إلا إذا تحققت العدالة الاجتماعية وتوزعت ثروات الأوطان بشكل عادل.
الوطن