«عندما ترتعش يد الدولة»: فرنسا حرة حرة.. ماكرون اطلع برا
فراس عزيز ديب
«يدُ الدولة لن ترتعش أبداً»، عبارةٌ قالها قبل أشهر سكرتير الدولة لشؤون البيئة الفرنسي سباستيان لاكورنو، كلام لاكورنو جاءَ تعليقاً على قضيةِ لجوءِ السلطات الفرنسية للحوامات والمصفحات لفكِّ اعتصامٍ قامَت بهِ مجموعة أطلقت على نفسها اسم «زاد»، تحصنت ضمن أراضٍ زراعيةٍ مملوكةٍ للدولة لمنعِها من إنشاء مطارٍ جديد في مقاطعة «نوتردام- دي- لاند»، فيما اتهمت الدولة يومها هذه الجماعة بأنها تحتل أرضاً ليست من حقها لفرضِ أمر واقع مستقبلاً، لكن لعل أهم ما تم اتهام هذه الجماعةَ بهِ يومها أنهم يمثلون «اليسار المتطرف».
«يدُ الدولة لن ترتعش أبداً»، أصبحت اليوم أكثر من مجردِ عبارةٍ تحفّز السلطة على عدمِ التهاونِ في مسائلِ الأمن، بل إن تسارع الأحداث وصولاً للسبت الرابع على التوالي من الدعوات التي تُطلقها جماعة «السترات الصفراء» والتصاعد في عدد الملبين للدعوة فإننا نبدو أمام عبارةٍ جديدة:
يدُ الدولة يجب ألا ترتعشَ أبداً إذا كانت فعلياً تريد المحافظة على النظام القائم في فرنسا، أو ما نسميهِ اصطلاحاً عهدَ الجمهورية الخامسة التي تم إقرارها مع إقرار دستور عام 1958.
لا يمكن للحظ أن يكونَ معك على الدوام، لا يمكن للحظ أن يقف إلى جانبك دائماً فيحولك من مجردِ موظفٍ في بنك إلى وزيرٍ فرئيسِ جمهوريةٍ بحجم فرنسا، لا يمكن لك أن تراوغ طويلاً بإلغاء ضريبةٍ لتفرضَ مكانها ضرائبَ أقسى فتحول البلاد إلى مؤسسةٍ اقتصادية، فالمراوغة من مبتدئ في العمل السياسي لا تنجح مع شعبٍ عُرف عنه ميزةَ «التمرد»، لابدَ لجرسِ الحقيقة أن يُقرع ولابد لجبل الجليد أن يذوب مع ارتفاع حرارة المشهدين الشعبي والسياسي والنتيجة ماثلةٌ أمامنا، فرنسا دخلت عملياً ما هو أبعدَ من وصف «الأزمة».
لكن في المقابل لا يمكن تحميلَ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وزرَ كل ما يجري، القضية هنا ليست في البحث عن كبشِ فداء، فالانحدار السياسي في فرنسا بدأ منذ انتهاء عهد فرانسوا ميتران وبقاءَ جاك شيراك لفترتي حكمٍ متتاليتين أنهتا عصر الرعيل الأول من الشخصياتِ السياسية التي عاصرت شارل ديغول وتأثرت بهِ،
إن المسؤول الأول اليوم عن الانحدار السياسي الذي وصلت إليه فرنسا هو الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ليأتي في الدرجة الثانية الرئيس السابق فرانسوا هولاند وصولاً لايمانويل ماكرون، كل واحدٍ من هؤلاء استفاد عملياً من ثغرةٍ في اللعبةِ الديمقراطية فأصبح رئيساً، ساركوزي مثلاً استفاد من فرضيةِ وجودِ خصمٍ في مواجهته هي سيغولين رويال، يومها بدا واضحاً أن المجتمع الفرنسي ليسَ جاهزاً بعد لتقبلِ فرضيةِ أن تحكمهُ امرأة، تماماً كما هو الحال بفرضيةِ وصولِ رجلٍ أسود إلى الإليزيه، هذا نوع من الجمرِ المختفي تحت الرماد، لكن على الأقل فإن ساركوزي أكملَ ولايتهُ وترشحَ للانتخابات التالية وخسرَ في الدورِ الفاصل أمام فرانسوا هولاند.
أما هولاند فهو بالنهاية استفاد كثيراً من أخطاء ساركوزي بتحويلِ باريس تحديداً إلى عاصمةٍ للاستثمارات القطرية، نجح كثيراً باللعب على هذا الوتر لإقناع الناخبين بحقيقةِ تخوفاته من العلاقة مع أنظمةٍ كان يسميها «أنظمة العصور الوسطى»، لكن الانحدار السياسي الذي وصل إليه فرانسوا هولاند جعلهُ ينقل أنبوب المال من الحقل القطري إلى الحقل السعودي، تماماً كما هو حال «مصر السيسي» اليوم، لينتهي بهِ كذبهُ ومراوغتهِ باسم «الاشتراكية» أنه اعتذر حتى عن الترشحِ لولايةٍ جديدة لأنه كان يعلم حجمَ الخيبة التي سيتلقاها مع حزبهِ فحاول الخروج بأقل الأضرار لنصل اليوم مع ايمانويل ماكرون إلى أقصى المنحدر.
في الواقع فإن ماكرون لم يكذب، وكل ما يقوم بهِ الآن قالهُ في الدعايةِ الانتخابية خاصتهُ، لكن يومها كان تفكير الفرنسيين محصوراً بكابوسِ وصول منافستهِ اليمينية المتطرفة مارين لوبين للسلطة وسطَ ضياع السياسي الأجدر فرانسوا فيون في عالم الفضائح التي تم نشرها عنهُ قبيل الانتخابات لتهتز صورته، وتشويهَ صورةِ اليساري العتيد، جان لوك ميلانشون، بتخويفِ الشارع الفرنسي منه حتى وصلَ الأمر لدرجة وصفهِ بـ«بوتين فرنسا».
هذا الانحدار المتسلسِل كان واضحاً للمتابعين عن قرب للشأن الفرنسي، ليصل بنا الحال اليوم للحديثِ عن رئيسٍ قد لا يكمِل ولايته، لكن ما هو واضح أكثر أن تصاعدَ الاحتجاجات هي نتيجة منطقية لتصاعد الانحدار وبمعنى آخر: ليس صحيحاً كل ما يُقال في الإعلام والتحليل السياسي البدائي العربي والذي لا يستطيع الخروج من عقدة «وهم الماسونية» وربط كل أحداث العالم ومن بينها ما يجري في فرنسا بها، كالاتهامات الموجهة للسترات الصفراء مثلاً بأنهم تحركوا بإيعازٍ أميركي بعد أن أعلن إيمانويل ماكرون أن على أوروبا أن تشكلَ جيشاً لحمايةِ نفسها وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة، هذا انتقاصٌ من حق الثائرين وتسخيفٌ لما يجري، بل إن ماكرون نفسهِ لو أراد أن يبحث عن مخرجٍ يحفظ ماءَ وجههِ لمَا وجدَ أفضل من هذهِ الذريعة التي يكررها بسذاجةٍ من يندرجونَ تحت مسمى «الإعلام المقاوم»، إضافة لذلك فإن هذه الذريعة تاريخياً مكررة إذ سبق أن استخدمها شارل ديغول عند بدءِ الاحتجاجات الطلابية في عام 1968، يومها كان هناك من حاول تخليص ديغول من ورطتهِ بالحديثِ عن أصابع أميركية في ما يجري كتصفيةِ حساباتٍ معه لأنه خرج من بيت الطاعة الأميركي برفضه طلباً أميركياً بعدم الذهاب للصين وتوقيعَ اتفاق تبادل دبلوماسي معها لأنها بالنسبة للولايات المتحدة عدو ومنافس نووي.
لكن حتى هذه البروباغندا يومها لم تنقذ شارل ديغول، فكيف سيتوقع البعض قدرتها على إنقاذ ايمانويل ماكرون مع أخذ العلم أنه لا مجال للمقارنة أساساً بين شعبية الرجلين، إذ لا يمكن لنا أن نصفَ طالبَ المرحلة الثانوية الذي انتفض ضد قرارات ماكرون والذي بات يرى الدخول للجامعة حلماً مع إعادة ربط القبولات الجامعية بحاجة سوق العمل بأنهُ يتحرك بإيعازٍ أميركي، كما أن هذه الإصلاحات ساهمت لحدٍّ بعيد بإلغاء آلاف فرص العمل المتعلقة بالبحث العلمي ودكاترة الجامعات أو من في حكمهم، والذريعة الدائمة «ضبط النفقات» ليصبح السؤال المنطقي كيف تريدون ضبط النفقات وفرنسا شاركت في السنوات العشر الماضية بخمس حروب ودعمت تهديم وتخريب خمس دول؟
ربما أن كرة الثلج بدأت تتدحرج والشتاء الفرنسي اليوم يبدو قاسياً إذ لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال تجاهل المطالب الشعبية، وخيارات ماكرون التي قد تضمن له الاحتفال بعيد الميلاد في الاليزيه محدودة، هو لا يملك خيار لويس الرابع عشر بالقول «الدولة أنا وأنا الدولة»، وإن كان يمتلك خيارَ حل البرلمان والدعوة لانتخاباتٍ مبكرة تأتي بحكومةٍ جديدة، فإن هذا السلاح يُستخدم عادةً عند حدوث أزمة سياسية بين التكتل الحاكم أو بين الرئيس ورئيس حكومته، لكن المشكلة هنا أن المتظاهرين يرون مشكلتهم مع ماكرون نفسهِ والمطالبة برحيلهِ باتت من الأساسيات، هذا الأمر لا حلَّ لهُ إلا بالاستقالة والدعوة لانتخاباتٍ رئاسية جديدة، مع التأكيد أن الدستور لا يفرض على الرئيس تقديم استقالتهِ لأي سبب، فإلى أي حد سيستطيع ماكرون الصمود في قصر الإليزيه؟ ربما الجواب متعلق بقدرة النظام السياسي الذي تكرّس منذ بداية الجمهورية الخامسة على الصمود، فماذا ينتظرنا؟
قبل سنواتٍ كان هناك محاضرة لأحدِ أساتذة القانون الدولي في جامعة فرانسوا رابليه تتحدث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في اندلاع ثورات الربيع العربي، يومها توجهت لهُ بسؤالٍ بسيط قصدتُ من خلاله السخرية من استسلامهم للتضليل الإعلامي وفرضيةِ أن هناك ثورات، وأن هناك ربيعاً عربياً قادماً وقلت: ماذا لو استيقظنا غداً ووجدنا على الفيسبوك صفحة بعنوان «معاً نحو الجمهورية السادسة»؟ في إشارة لانتهاء حقبة الجمهورية الخامسة، يومها لا أنكر أن السؤال أثار سخرية الحاضرين لكنهُ في الوقت ذاته تم الرد عليه بجواب عاطفي: إذا قصدتَ خروج الفرنسيين بتظاهراتٍ، فلماذا سيخرج الفرنسيون؟
ربما لسنا بحاجةٍ الآن للإجابة، فالجواب يتكرر أمامنا من الساحاتِ والشوارع الفرنسية، إذ إنه بات واضحاً أن الشعب عندما يريد أن يخرج ولديهِ مطالب محقة سيخرج، مع فرقٍ بسيط أن هناكَ دولاً لا تحترم نفسها تريد استغلال أحداث كهذه لاستعادةِ ماضيها الاستعماري القميء ولو على حساب المتاجرة بدماء الأبرياء، كما هو حال فرنسا وتركيا وألمانيا والولايات المتحدة مع كل ما جرى في سورية ومصر واليمن والعراق وليبيا وتونس، وهناك دول تحترم نفسها ولا تريدُ أن تصبّ الزيت على النار لأنها تعلم بالنهاية أن الضحية هم الأبرياء.
«فرنسا حرة حرة.. ماكرون اطلع برا»، قلتها سابقاً عشية سقوط نيكولا ساركوزي في انتخابات 2012 وكان يومها عنوان المقال «فرنسا حرة حرة.. ساركوزي اطلع برا»، ليصبح لص ليبية على هامش التاريخ، يبدو أن التاريخ سيعيد نفسهُ لكن هذه المرة عليهم أن يجسدوا فعلياً نظرية «فرنسا الحرة»، إلا إذا كانوا -ربما- بانتظار سقوط القتيل الأول على يدِ الشرطة وقوات الأمن أو كل مستفيدٍ من تعميمِ الخراب، لنقول وقتها فعلياً: وداعاً للجمهورية الخامسة وليس وداعاً ايمانويل ماكرون فحسب.
واهمٌ من لا يرى يدَ الدولة وهي ترتعش.
الوطن