الحرب الأقسى قادمة، من سيشعل فتيلها؟.
سمير الفزاع
منذ انسحاب جيش العدو من جنوب لبنان، عمد الكيان الصهيوني إلى إستراتيجية جديدة تستند إلى الدفاع المتحرك بين الجبهات. هذه المقولة تُردُّ لواقع جديد دخله الصراع العربي-الصهيوني أوصل العدو إلى حقيقية وجودية مرعبة:( لم نعد قادرين على إحتلال شبر إضافي من الأرض خارج الكيان، وإذا حصل وسيطرنا على هذا الشبر فسوف ندخل في حرب إستنزاف قاتلة تجعل من ثمن هذا الاحتلال الجديد فوق إحتمال الكيان). لم يكن الانسحاب من جنوب لبنان وغزة إلا “نقلة” يضع فيها جيش العدو عناصر قوته ضمن “إطار أخير” لا يمكن التنازل عنه، وأي خرق له سيكون المؤشر الأبرز على بدء الإنهيار الشامل للكيان بكليته… وإذا ما وصل الكيان إلى هذه النقطة الحرجة سيكون سلاحه غير التقليدي هو الحل الطبيعي لهذا الوضع “غير التقليدي”.
إستناداً إلى هذا التقييم الإستراتيجي لبيئة الأمن القومي لكيان العدو، لجأ العدو إلى إستراتيجية بعدة رؤوس، منها:
1-نسج علاقات سياسية-أمنية-عسكرية مع قوى “الإعتدال العربي” لتحسين واقع الأمن القومي للكيان، ووقف حالة الإنهيار المادي والنفسي والمعنوي لدى المغتصبين؛ فتصبح صورة “وزيرة” في مسجد زايد نصراً باهراً، وعزف “النشيد الوطني” لكيان العدو في الدوحة أمراً يدعو للبكاء فرحاً وتأثراً.
2-تفجير الصراعات الفرعية في محيط الكيان، لاستنزاف طاقات هذا المحيط، وتعطيل أي مسعى جدي لإنهاء هذا الاحتلال، وخلق واقع يولد الأزمات وغير قادر أبداً على إنتاج الحلول وتنفيذها… وما يجري بين حماس وفتح مثال ساطع على هذا المسعى.
3-ضرب مفاتيح القوة في المعسكر المعادي لكيان العدو، وأقصد هنا: الخبراء والفنيين العسكريين، القادة الميدانيين، العلماء باختلاف تخصصاتهم، القادة الأمنيين البارزين، دعاة الوحدة والنهوض وصناع الوعي… .
4-“إقناع” قيادات وشعوب دول عربية بعينها بضرورة وضع نهاية للصراع العربي-الصهيوني، لإنشاء تكتل سياسي-عسكري-أمني-إقتصادي يشكل الرافعة لبناء قوة إقليمية تقودها تل أبيب، وتكون قادرة على فرض إرادتها المطلقة على مجمل الإقليم “سلماً” أو حرباً، ولنتذكر هنا أن بريطانيا احتلت الأراضي العربي التي رزحت تحت نير استعمارها بمليون جندي أقل من مئة ألف منهم كانوا بريطانيين، وأما البقية فكانوا من المسلمين الذين “غطتهم” الفتاوى الدينية، وهذا بعض من أهمية إمساك بريطانيا بدور الفتوى التاريخية أو من يمثلها في مكة والمدينة والقدس والنجف وكربلاء والأزهر… .
5-الإستماتة في محاولة إستعادة رمزية الدور –لا الدور- وجوهر الوظيفة من وراء إنشاء الكيان بوصفه: ثكنة أو مخفر غربيّ في المنطقة، تعيش جبهته الداخلية أقصى درجات الأمن، بينما هو مطلق القدرة في تنفيذ التوسع الناجح وغير القابل للصد، وفرض المعادلات والمشاريع في محيطه… . تظهر إستماتته عبر طرحه مشاريع بديلة مقزمة وهزيلة “تنقذه” معنوياً من حالة انسداد الأفق العسكري-الميداني المستمر منذ العام 1967 تقريباً… مثل المحاولات اليائسة في لفرض “يهودية الدولة” وتحويل القدس عاصمة للكيان، ودعم أدوات الغزو الإرهابي في سورية وسابقاً في جنوب لبنان… .
6-توجيه ضربات ذات طابع تكتيكي قد تنتج تحولاً إستراتيجيّاً أو تمنح الكيان المزيد من الوقت على أقل تقدير، حتى تُنضج الآليات السابقة بعض أو كل أهدافها، مثلاً: الإغارة على مواقع الجيش العربي السوري وضرب بعض منشآته ذات الطابع التقني-العسكري… استغلالاً لحالة الضعف الإستثنائي الذي تعرضت له سورية والجيش العربي السوري، بفعل هجوم هائل نفذته جيوش الجيل الخامس من الحروب عليهما تحت غطاء “الربيع العربي”… فباتت العاصمة محاصرة وتحت القصف ومثلها كل المدن السورية، وكان وسط البلاد مهدد بالشطر عندما سيطرت هذه الجيوش على تدمر ومعظم الصحراء من جهة، ومحافظة إدلب وشمال محافظ حماه من جهة ثانية… في الوقت الذي سقط وحُيّد فيه عدد كبير من المطارات العسكرية، وأُلحق ضرر هائل بمنظومات الدفاع الجوي ومكوناته.
لنعترف، كان الهجوم أكبر من قدرات سورية على الصمود. عندما آثر مئات ألآف من الشباب السوري “السلامة”، تدفق مئات ألآف الإرهابيون عبر الحدود لينقضوا بشكل مستميت على مواقع الجيش العربي السوري فاستشهد منهم عشرات الألآف وهم يدافعون عن مواقعهم فيما يشبه الملحمة الأسطورية… لكنّ الأساطير ولّى زمانها، وعناصر القوة باتت تحسم على الأرض، وتوقفت السماء عن إرسال الصواعق والزلازل والملائكة… بالرغم من الأهميّة القصوى للإيمان بأحقية القضية، وطبيعة نهاية من يموت دونها.
كان تدخل حزب الله ضروريّاً، وانخراط قوى فلسطينية وعراقية… مهمّاً، ومشاركة خبراء من إيران أساسياً، ولكن العدوان كان أكبر من إستطاعة هؤلاء مجتمعين فكان التدخل الروسي الذي وصل عديده في ذروة الهجوم المعاكس إلى 50ألف عسكري تقريباً. تعدّل الميزان العسكري، واستعادة سورية توازنها… لكنّ المشروع لم ينتهي بعد، خصوصاً إذا اقتنعنا بأن الحرب على سورية كانت البوابة الإلزامية للإمساك بالمنطقة وإحكام السيطرة على العالم، وإدامة الخلل بميزان القوى الدولي لصالح واشنطن وأذنابها. أعتقد بأن هذه ما عناه الرئيس بشار حافظ الأسد بكلماته في الغوطة الشرقية، 18/3/2018:(في الصراع العالمي كل رصاصة أطلقتموها لقتل إرهابي كنتم تغيرون بها ميزان العالم، وكل سائق دبابة كان يتقدم مترا للأمام كان يغير الخريطة السياسية للعالم).
إستمرار الغارات الصهيونية، والإحتلال الأمريكي-الغربي لأراض سورية، ومنع عودة اللاجئين والمعابر مع جيران سورية الى وضعها الطبيعي… يؤكد بأن الحرب مستمرة، وقد تأخذ مستوى جديد من التصعيد في أي لحظة، ليس في سورية فقط، وإنما في عدد كبير من الميادين المشتعلة والكامنة، خصوصاً مع الإسقاط المتعمد لطائرة إليوشن-20 الروسية بقرار ودعم سياسي-عسكري أمريكي-بريطاني-فرنسي عبر ذراعهم الإسرائيلية، لإفهام روسيا: بأن بقائها في المنطقة سيبقى مهدداً وتحت الرحمة الغربية، وضمن الحدود التي يسمحوا بها… .
النظام الرأسمالي التقليدي بلغ منتهاه تقريباً، ولم يعد قادراً على توليد “الحلول” لأزماته المتلاحقة عبر أدواته التقليدية، وخصوصاً عبر بوابة شنّ الحروب بفعل توازن الردع النووي. ما الحلّ؟. بعد فشل حروب الجيل الخامس –أدوات الغزو الإرهابي- لم يبقى سوى شنّ حروب إقليمية بأسلحة نووية تكتيكية وتقليدية غاية في القوة، تسمح للمنتصر بتحقيق النتائج المرجوة بأقل قدر من التكاليف. هكذا يمكن للطغمة المجرمة الممسكة بـ80% من ثروات الأرض ومقدراتها من الخروج من أزمتها والحفاظ على مكاسبها، وتحقيق المزيد من الإثراء بالنهب المالي، والبحبوحة الاقتصادية لرشوة شعوبها المضطهدة، والإنتصار في صراعها التاريخي والجيو-سياسي مع روسيا والصين وبقيت الدول الناهضة. لهذا جاءوا إلى منطقتنا تحت مسمى الربيع العربي، ولهذا يعانون اليوم من فشل المشروع بسبب وضعه الكارثي عندما دخل في مواجهة مع سورية وحلفائها. ما يحدث في فرنسا وبلجيكا، وما قد يحدث في أمريكا وغيرهم قريباً جداً، يقدم نموذجاً على عبقريّةً قراءة الوقائع وما قد تفضي إليه مستقبلاً، والإستجابة العملية لتحدياتها. هذه القراءة وغيرها، كانت السبب وراء إعلان الرئيس بوتين شخصيّاً قبل عام تقريباً، عن تشكيلة واسعة من الأسلحة الخارقة، وهي ذاتها كانت وراء تزويد سورية بأحدث منظومات S-300، والتهديد بتسليمها المزيد من الأسلحة لتبريد الرؤوس الحامية… فسورية هي الميدان المشتعل بأكثر بقاع الأرض حساسية، وفيها مكمن الحلّ لابتلاع سلس لحقول النفط والغاز وخيرات بلا حصر… وروسيا هي العدو الأنسب لتغييب وعي الشعوب الغربية؛ بفعل الدعاية السوداء الممتدة منذ عقود خلت ضد موسكو، والذكريات المريرة من الصراع… هذه هي الرؤوس التي تحدث عنها وزير الدفاع الروسي شويغو عشية تزويد سورية بصواريخ S-300، وهذا ما تريده… فهل تمنع أسلحتنا واستعداداتنا العدوان المرتقب على سورية وفلسطين وروسيا وحلفائهم؛ بل هل نجعل من هذا العدوان فرصة لكنس كيان العدو وأمريكا وأدواتها من المنطقة؟!. حربهم مجبرون عليها، وحربنا ننتظرها، فمن سيشعل شرارتها أولاً؟!.