سيدي الوزير : الرئيس الأسـد مشغول ..!!
انتهى الاجتماع و سافر الفريق الأمريكي إلى إسرائيل,بعد أن تمّ التخطيط لعقد اجتماع آخر في 22 نيسان. غير أن ما حصل هو وصول كريستوفر, من دون إعلام سابق, إلى العاصمة السورية في 21 نيسان,
و طلبه مقابلة الأسد. كانت بنيظير بوتو, رئيسة وزراء باكستان, في دمشق, و كان الرئيس الأسد قد سبق و خطط لاجتماع طويل بها. كما كان وزير الخارجية الفرنسية, إرف دو شاريت, و نظيره الروسي, و وزير الخارجية الإيراني علي أكبر ولايتي, جميعهم في دمشق, إضافة إلى وزير الخارجية الأمريكي و رئيسة الوزراء الباكستانية. أكثر ما أذكره عن ذلك اليوم أنه كان طويلاً جداً و مليئاً بالاجتماعات المتتالية مع الرئيس, التي قمت خلالها بكامل الترجمة له.
أثناء جلسة الأسد مع بوتو, و هي إمرأة كان يكنُّ لها الكثير من الاحترام و الإعجاب, دخل رئيس التشريفات عليه مرتين, و في كل مرة يحمل رسالة قصيرة تقول إن وارن كريستوفر موجود في السفارة الأمريكية في دمشق, ” و يطلب مقابلة الرئيس الأسد على الفور “. نظر الرئيس إليّ بدهشة, و قد أزعجه أن تكون لدى كريستوفر الجرأة أن يأتينا من دون موعد, و يتوقع مع ذلك مقابلة الرئيس فوراً. بدا ذلك مثل تصرف كان يمكن أن يصدر عن المفوض السامي في دمشق في الثلاثينيات من القرن عشرين, لكنه بدا غريباً من دبلوماسي محنك مثل كريستوفر, الذي كان يعرف أكثر من معظم الأمريكيين انه تصرف يضرب على عصب حساس في سورية.
تمتم الرئيس قائلاً: ” لا يمكنني مقابلته اليوم, فلديّ أيضاً حفل عشاء رسمي لرئيسة الوزراء بوتو”. ثم عاد بنظره إلى ضيفته الباكستانية و ابتسم, معتذراً عن المقاطعة.
ورد خبر جديد على ورقة صفراء آخرى, جاء فيها: ” وارن كريستوفر غاضب أشد الغضب”, و ” قد يغادر الآن, و لا ينتظر حتى الغد”.
لم يرمش للرئيس الأسد جفن: ” فليغادر إذاً, الأمر متروك له!”, و استطعت أن أعرف من نظرة عينيه أنه لو كان قد فكر في إمكان اختصار اجتماعه مع بوتو كي يستقبل كريستوفر, فإن أسلوب ليّ الذراع الي لجأ إليه الوزير الأمريكي قتل تلك الفكرة. و أرسل رئيس التشريفات رسالة إلى كريستوفر تقول إن الرئيس الأسد ” لديه جدول مليء “, و لن يتمكّن من استقبال رئيس الدبلوماسية الأمريكية اليوم. و بدا أن الرئيس لم يكن يركز آنئذٍ على كريستوفر, بل على آصف زرداري, زوج بوتو, الذي كان يجلس إلى جانبي. فمن أجل أن تبدأ المحادثات الرسمية, كان على زرداري ( الذي شغل لاحقاً منصب رئيس باكستان من 9 أيلول 2008 و حتى نهاية 8 أيلول 2013 ) أن يغادر الغرفة, إذ لم يكن لديه سبب رسمي لحضور اجتماع القمة بين زوجته و الرئيس الأسد. لكن يبدو أن زرداري لم يفهم الرسالة, و لذلك تابع الرئيس الاجتماع في حضوره.
كان وارن كريستوفر في مكان ما في الجانب الآخر من المدينة – ربما في فندق الشيراتون, حيث كان ينزل أثناء وجوده في دمشق – و كان يشعر بالغضب بالغ بسبب ” معاملته بازدراء “و ” زجلاه ” ( كما كانت الصحافة الأمريكية تقول ) من قبل الرئيس السوري. و انتهى الأمر بوزير الخارجية الأمريكي إلى أن تنازل عم كبريائه, و أمضى الليلة في دمشق لكي يجتمع بالرئيس الأسد في الحادية عشر و النصف من صباح يوم 22 نيسان. وصل كريستوفر و هو يحمل حقيبته البنية اللون المليئة بالأوراق و الملاحظات. و من الواضح أنه كان متوتراً, و كان وجهه منتفخاً و شديد الإحمرار, إذ إنه لم يهدأ منذ اليوم السابق.
بعد المجاملات الصباحية, طلب إجتماعاً منفرداً بارئيس الأسد.هزّ الأسد رأسه بالموافقة, و انتقلنا نحن الثلاثة إلى غرفة قريبة فيها أريكة كبيرة و بضعة كراسٍ. أشار إليه الرئيس الأسد أن يجلس. كانت يدا كريستوفر و شفتاه لا تزال ترتجفان و هو يحيط حقيبته بيديه, و قال:
” سيدي الرئيس, أودّ أن أعرف السبب في تعمّدك إهانتي و إهانة دولتي, الولايات المتحدة الأمريكية, أمس؟ “.
حافظ الرئيس الأسد على هدوئه, و حدّق في عيني كريستوفر قبل أن يقول :” و بأي طريقة قمتُ بذلك يا سيد كريستوفر؟”.
انفجر كريستوفر عندئذٍ, و لكن بلباقة: ” منذ الأمس, و أن أطلب مقابلتكم طوال الوقت ( إلى أن حلّ لقاؤنا الآن ), و كنتم ترفضون طلبي. و قد فكرت أكثر من مرة في أن أغادر “.
مرة أخرى تكلم الأسد بهدوء شديد و شرح السبب في تعذّر مقابلته كريستوفر: ” لم نكن حدّدنا وقتاً لاجتماعنا. أنت ببساطة وصلت و أردت لقائي على الفور, في الوقت الذي كنت أقابل رئيسة وزراء دولة آخرى, كنا قد حددنا موعد زيارتها و خططنا لها من قبل. هل أردت مني أن أتركها و أقابلك؟ لِمَ فسرتَ تعذّر لقائك إهانة, بدلاً من إعتبار ذلك تصرفاً طبيعياً في عالم الدبلوماسية؟ أكانت الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية أم أية دولة آخرى في العالم, كبيرة أم صغيرة, قوية أم ضعيفة, فإن الدول جميعها متساوية في ما يتعلق بكبريائها. و ينبغي, يا سيد كريستوفر, أن يشعر الناس كافة بالكرامة الإنسانية نفسها. و قد تصرفتُ وفق قواعد البروتوكول و السلوك الدبلوماسي, و ليس لك الحق في أن تشعر بالإهانة أو الغضب”.
أجاب كريستوفر, و قد طمأنته كلمات الرئيس بعض الشيء: ” الجميع يقولون إنك جعلتني أنتظر و رفضت أن تراني!”.
ابتسم الأسد لضيفه الأمريكي بشيء من المودّة, و تكلم أقرب إلى لهجة أب يخاطب ابنه المراهق الذي انتهى لتوّه من نوبة عصبية: ” أياً كان ما يقولونه, أنا واثق أنك تعرف أنني على حق. فلننضم الآن إلى الآخرين لعقد الاجتماع!”.
الغريب في الأمر أن وارن كريستوفر لم يذكر هذه الحادثة مع الرئيس الأسد في مذكراته, و مثله الرئيس كلينتون أيضاً, علماً أنها احتلت الصفحات الأولى من كلّ الصحف المحلية و الدولية يومها .
من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990- 2000/ ص 213