ذكريات الغد، لهذه الأسباب الحرب قادمة.
سمير الفزاع
في اجتماع لزعماء قبائل الهنود الحمر العام 1855، لمناقشة عرض حكومة الرئيس الأمريكي الرابع عشر “فرانكلين بيرس” ببيع أراضيهم، خطب الزعيم الهندي “سيليث” قائلاً:(كيف يمكن شراء السماء أو بيعها أو شراء وبيع دفء الأرض، لا نستطيع تصور أمر كهذا، فإذا كنّا لا نملك نقاء الهواء وتألق المياه فكيف يمكنكم شرائهما منّا؟!. نحن جزء من الأرض وهي جزء منّا، الزهور العطرة إخوتنا، الأيل والحصان والنسر إخوتنا، لو هلكت الحيوانات لهلك الإنسان من وحشة الروح… الأشياء كلها تترابط فيما بينها، ما يلمّ بالأرض يلمُّ بأبناء الأرض أيضاً). لم تنفع بلاغة هذا الزعيم الهندي ولا منطقه الإنساني الراقي في إقناع الحكومة الأمريكية التي تؤمن بأن لكل شيء ثمناً، ومن لم يقنعه الثمن المدفوع سيقنعه حتماً الثمن الذي سيدفعه بالرصاص والقذائف… كيف لا وقد نشأت هذه “الدولة” وفق منطق وفلسفة القراصنة والمغامرون وعشرات الألآف من السجناء الذين حملتهم السفن مباشرة من سجون بريطانيا وفرنسا واسبانيا والبرتغال… ليُقيموا دولتهم على جثث الملايين من هؤلاء الهنود.
هذا هو المنطق الأمريكي في صياغة وحفظ مصالحها ونفوذها حتى يومنا هذا. هذه النشأة “الملتبسة” لأمريكا حفرت عميقاً في هويتها وشخصيتها بوضوح تام: فلا نسق أخلاقي في السياسات الأمريكية؛ بل المنفعة أولاً وأخيراً، ولا مكان لمفهوم الحق والحقيقة؛ بل المصالح، ولا اعتبار للهوية والتاريخ؛ بل هي عدو لهاذين المفهومين لأن فيهما نقطة ضعف أمريكا… بدلالة الانصراف الهستيري للحاضر والمستقبل نهباً وإثراءً وتوسعاً… يتصرفون كما اللص، لا وقت يُضيعه بالحديث عن الحق والأمس والآخر؛ بل حَمل كل ما يستطيع نهبه كونه الغريب عن المكان، والطارئ على التاريخ، والمنسلخ عن الهوية… ليعود بغزوة جديدة لذات المكان ليُفرغ ما تبقى من محتوياته أو لموقع آخر لمعة في عينية ثرواته.
اليوم، وبعد إنهيار القطب الشيوعي وانكشاف خديعة محاربة الإرهاب، ودخول أمريكا طور انكماش الإنتشار الإمبراطوري الذي “تمتعت” به لعقود، وتعثرها في منافسة اقتصادية-عسكرية-حضارية لم تعهدها أبداً؛ مع موسكو المسيحية، وبكين التي لم تعُد “حمراء” فاقعة، وعدد متزايد للدول الساعية لاستعادة سيادتها الوطنية كما في أوروبا وأمريكا اللاتينية والمشرق العربي… تعود أمريكا إلى خطابها الأول الفجّ والبذور المبكرة لسياساتها الداخلية والدولية: منطق البيع والشراء والدفع، التنصل من الإتفاقيات والمعاهدات حتى مع أقرب حلفائها مثل كندا واستراليا وأوروبا، رفض آليات عمل المؤسسات الدولية القائمة على منطق حق تقرير المصير واستقلال الشعوب والشرعية الدولية… .
أعتقد بإمكانية تفسير هذه الحالة المركبة كما يلي: الملاط الذي قام عليه الكيان الأمريكي هو تحقيق المنفعة المباشرة، لإدامة تماسكه الداخلي، والهروب من عقدة النشأة بإثبات تفوق نموذجه لينشره في طول العالم وعرضه ولو بالقوة… وكلما توسعت أمريكا زاد نهبها، ولكن استهلاكها كان دوماً أكبر من هذا التوسع وهذا النهب… بلغ نفوذها أوجه تقريباً، وطغى نموذجها على معظم المعمورة. ولكنّ عقدة النهب وآفة الإستهلاك المتعاظم بقيت تُهدد الكيان الأمريكي فدخل طوراً جديداً من التوسع والنهب، ولكن هذه المرة صوب حلفائه وشركائه في العالم أولاً، وصوب أعداء وخصوم الأمس أو ما تبقى منهم ثانيا… وصار الوقت شحيحاً لإقناع الآخرين بما هي مُقدمة عليه، فبات سيد البيت الأبيض يدير حكومته وعالم حلفائه عبر “تويتر” لا عبر قمم وهياكل تجمعه بهم.
هذا المسعى تعارضه بشدة دول ومجموعات مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي… وسوف تزداد هذه المعارضة مع الوقت. هذا سبب أساسي في انصراف واشنطن نحو نهب “دول” لا تملك القدرة على معارضة أوامرها كالسعودية والإمارات وقطر والكويت والمكسيك وكندا… باسلوب علني وبدائي ورخيص: إدفعوا، عليكم أن تدفعوا، لن تصمدوا لاسبوعين دون حمايتنا… مع تصعيد الضغط على “الحلفاء” الأكثر قوة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والدول الأعضاء بحلف النيتو… بالتزامن مع محاولات مستميتة لإخضاع وحصار خصومها وأعدائها إقتصادياً وسياسياً وعسكريّاً… مثل الصين وروسيا وإيران وسورية… وهذا المسعى سيأخذ طابعاً أكثر حدّة مع الوقت، وسيصل إلى نقطة استعمال القوة حتماً في لحظة معينة، فالبديل هو تآكل أمريكا داخلياً، وانهيار إمبراطوريتها خارجياً. ويمكن إعتبار موافقة المحكمة الفدرالية الأمريكية على استفتاء الولاية الأغنى، كاليفورنيا على الاستقلال في العام 2020 مؤشراً أساسياً على هذا المصير المرتقب… ما قد يُشجع ولايات أخرى على إتباع هذا النهج مع النضوب المتوقع لمدخولات النهب الأمريكي للعالم وشعوبه… ما من خيارات كثيرة أمام واشنطن: إمّا التسليم بتآكل إمبراطوريتها والقبول بتحولها لدولة عظمى يرتبط مصيرها بما تنتجه، وما يمكن أن يُقدمه حلفاء صغار مثل السعودية، مع محاولة إقناع الولايات الأمريكية بالبقاء ضمن الكيان الأمريكي، كما فعلت بريطانيا مع اسكتلندا الغنية بالنفط… وهذا يفسر المحاولات الأمريكية بالسماح لاستخراج النفط والغاز من الجرف الصخري والرمال الأمريكية بعد طول امتناع، وإحياء الصناعات الأمريكية والزراعة والتكنولوجيا والميزانيات العسكرية الضخمة –باعتبار الصناعات العسكرية أحد أهم أعمدة الاقتصاد الأميركي… بالإضافة لضرورة إدخال تعديلات جوهريّة على الحُلم أو النموذج الأمريكي ليكون أكثر تواضعاً وإنسانية وإنتاجاً، وأقل استهلاكا وتبذيراً وعدوانية… وهنا يظهر السؤال الإشكالي: هل تملك أمريكا تاريخاً وإرثا حضاريّاً يُمكِنُها من التفكير بهذا الخيار عدا عن القبول به؟! هل لدى واشنطن إستراتيجية للانسحاب من “مستعمراتها” كما كان لديها للسيطرة عليها؟!. في العام 1956، وبعد الإنذار النووي السوفيتي-الأمريكي، تراجعت باريس ولندن وتل أبيب عن عدوانهم الثلاثي على مصر، وفي العام التالي 1957، وقعت واشنطن ولندن اتفاقية برمودا التي نقلت بموجبها بريطانيا معظم مستعمراتها للنفوذ الأمريكي حسب أهميتها ووفق جدول زمني محدد، مقابل 400 مليون دولار… هل تستطيع أمريكا القيام بهذه الخطوة، حتى وإن كان هناك من سيدفع لها ثمن أفولها؟!. نظرياً، كلا الاحتمالين وارد، ولكن تاريخيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وحضاريّاً، لن تذهب واشنطن إلى خيار التسليم بانهيار إمبراطوريتها إلا بإجبارها على ذلك، سواء بحرب أو سلسلة حروب إقليمية أو التلويح بها، أو عبر إسقاط الدولار كعملة عالمية وتحرير الاقتصاد العالمي من نظام التحويلات الذي تفرضه أمريكا على العالم… وأمّا الذهاب لحرب عالمية فهو الخيار الأبشع الذي قد ينهي الحياة على هذا الكوكب.
إستعدت روسيا والصين وحلفائهم لهذه الخيارات مجتمعة، حيث تمّ إنشاء مجموعة “بريكس” لتكون المنظومة الاقتصادية-الاجتماعية-المالية-السياسية التي ستضم الدول الراغبة بالخروج من الفلك الأمريكي، ومنظومة “شنغهاي” لتكوّن إطار أمنياً-عسكرياً يحمي أعضاء مجموعة بريكس، و”بنك بريكس” برأسمال 100 مليار دولار للنهوض باقتصاديات دول المنظومتين والدول المتحالفة والمرشحة للتحالف مع هاتين المنظومتين… ونفذت مشاريع ضخمة بمئات مليارات الدولارات لتنمية هذا الفضاء الدولي الجديد بعيداً عن نفوذ واشنطن ونهبها المرضيّ، مثل مشاريع الطاقة العملاقة، وطريق الحرير، ومشاريع الربط البري والبحري، ومشاريع الغاز والنفط المنتظرة في سورية والإقليم… ولكنَّ هذه المشاريع والإستراتيجيات تبقى مهددة وفي مهب الريح دون تحصينها بالقوة العسكرية الحديثة والمقتدرة.
ختاماً، يمكن القول بأن الأسلحة الفائقة التي أعلنت عنها موسكو، واستعدادها لاستخدام هذه الأسلحة ومن ضمنها النووية لحماية حلفائها، وتسليح سورية بصواريخ S-300 PMU3، الإسم الأولي لصواريخ S-400، ونشر جزء من هذه المنظومات في مطار T-4، ودير الزور ومصياف بمواجهة القواعد الأمريكية في قبرص والتنف والعراق والأردن وتركيا والكيان الصهيوني وصولاً للخليج العربي… عقّد الموقف الأمريكي، ودفعه للإفصاح عن نواياه. وفي “لعبة” نسج التحالفات وصراع المحاور، فضّل الأمريكيون “ترك” أدواتهم الكردية على قارعة الطريق لتمتين تحالفهم مع تركيا، الأساسيّة في حلف النيتو وفي البنية الجيوسياسية للمنطقة والعالم… فقرروا انسحابا سريعاً من سورية، وتوريد منظومات باتريوت-3، وتسليم محتمل لفتح الله غولن… لضمان انتقال تركيا إلى جانبهم في الصراع الكبير المنتظر… وتشريع أبواب اقتتال سوري-سوري في حال قرّر الإنفصاليون الأكراد المكابرة والتعامي عن حقائق الصراع الدولي-الإقليمي، وتحميل روسيا وإيران مواجهة تركيا وهذا الاقتتال المحتمل.
ما زال الحديث عن انسحاب أمريكي من المنطقة مبكرا جداً لأن هذا الإنسحاب يساوي أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية، وتداعي مستعمراتها في الكيان الصهيوني وغيره، وانهيار عروش محمياتها، وخسارة موقع وثروات ومكانة لا يمكن تعويضها… ربما هو تجرع لخسارة قاسية عوض تجرع الخسارة الأقسى، وعودة للخلف لإقامة نيتو الشرق الأوسط، وتصفية القضية الفلسطينية… للحفاظ على يمكن الحفاظ عليه، بانتظار شروط أفضل للمواجهة القادمة حتماً.