انفصاليو الشمال وفرنسا والمعركة المؤجلة منذ 70 عاماً!
فراس عزيز ديب
لا تزرَع الشوكَ في حديقتنا، لرُبما أعادكَ الدّهر إلينا حافيَاً، حكمةٌ وكأنها تمثلُ اليوم حالَ كلّ من تورطوا بالحربِ على سورية، ليس من أعدائِها التقليديين الذين خسئوا أن يَدخلوا يوماً حديقتها، لكن لمن دخلوا حديقتها ثم طعنوها في الظهر.
في هذا العالمِ المجنون قد يتحوَّل الأب الروحي لداعش أي الرئيس الأميركي السابق «باراك أوباما» لبابا نويل بريء يزور الأطفال ويفاجئهم وهم على أسرَّةِ المرض في المستشفيات، دون أن يجرأ معجبو العالم المتحضر الذي يمثلهُ على مساءلتهِ عن ملايين الأطفال في العراق وليبيا وسورية واليمن الذين فاجأهم بربيع الدم، فقُتلوا وتيتموا وتشردوا.
قد يستنهض الضمير صحفياً في ديرشبيغل الألمانية ليعترف بدسهِ مئات القصص الكاذبة عما يجري في سورية، فيصفِّق الحمقى لشجاعتهِ تماماً كما صفقوا سابقاً لشجاعةِ المجرم توني بلير عندما اعترف بخطأ غزو العراق، ويتناسون أن كذبة قد تقتل الآلاف، أم نسينا «أنبوب» وزير الدفاع الأميركي الأسبق كولن باول الذي كان سبباً لغزو العراق؟ إنه العالم المتحضر الذي لا يزال يتعرى في كلِّ يومٍ حتى وصلنا إلى المرحلةٍ التي ينطبق عليها المثل الفرنسي: «ماذا إذا لم يبق لديها ما تخلعه»؟ كيف لا والرئيس الأميركي يُعلن باسم العالم المتحضِّر عن سحبِ قواتهِ المحتلة من سورية بعد إتمامها لهزيمةِ داعش!
لم تكَد الأخبار تتوارد عن قرارِ ترامب بالانسحاب، حتى انهالت التحليلات التي تتعاطى بصورةٍ جازمةٍ عن السبب الحقيقي له، فهذا يربطها بالهروب من مواجهة إيران ويتبعها بالحديثِ عن إرسال تلك الدولة لآلاف الجنود باتجاه الحدود العراقية السورية، وفي المقلب الآخر هناك من يجزم أن الانسحاب هو بداية للتحضير لما هو أسوأ بالمستقبل السوري وكأنه ببساطةٍ يعيشُ صراعاً بين الرغبةِ والواقع، وتناسى هؤلاء أن وظيفة الكاتب السياسي هي التعاطي مع الاحتمالات الواردة، فادعاء حصريةَ المعرفة مقتل، لكنهم للأسف يتعاطون بأسلوب اللعب على العواطف لدرجةٍ جعلونا نصل إلى قناعةٍ أن ترامب نفسه غيرَ قادرٍ على إعطائنا جواباً مفيداً عن السبب الحقيقي للانسحاب!
أما إن وضعنا العواطف جانباً، فإن الصمت الرسمي السوري حتى الآن، معطوفاً على كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الأميركيين لم ينسحبوا بعد، هما أفضلَ ردتي فعلٍ تؤكد أن حالة الضبابية التي يكتنفها القرار الترامبي، ولتفكيك هذه الضبابية فإن هذا القرار قد يكون مرتبطاً بأربعِة احتمالاتٍ أساسية:
أولاً: قد يكون السبب مرتبطاً بعقلية دونالد ترامب الذي يقود الولايات المتحدة كرجلِ أعمال لا كسياسي، عندها قد نستطيع أن نربط بين كلام ترامب السابق عن خوض الحروب وتبذير الأموال الأميركية دونما جدوى ورغبته في الحد من تلك الحروب ضماناً للاقتصاد الأميركي، لكن التسليم باحتمال كهذا يجعلنا كمن يصدق أن الولايات المتحدة ببساطة كانت تخوض الحروب بأموالها لا بأموال مشيخات النفط، بل قد يحول الولايات المتحدة عند من يتبنى ذلك الاحتمال لدولةِ الخير التي تحارب من أجل الآخرين ومن خزينتها الخاصة، حتى بما يتعلق في سورية فإن كلفة بقاء الولايات المتحدة لا تُذكر قياساً بتكلفة التشغيل السنوي مثلاً لحاملة الطائرات الأميركية الأضخم «يو إس إس جيرالد فورد»، التي قال عنها ترامب: «إنها رسالة إلى العالم تزن مئة ألف طن»، مع التذكير هنا أن ترامب كان قد صرح علناً بأن من يريد بقاءنا في سورية عليهِ أن يدفعَ التكلفة، فهل نضب الحليب في مزارعٍ البترودولار؟
ثانياً: قد يكون الخليجي عملياً قد تنبهَ لخطورةِ ما يريدهُ التركي من الشمال السوري، فقرر طلبَ الانسحاب من الرئيس ترامب لسحبِ البساط من تحته، وربما قد تكون للزيارة التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير إلى سورية هي بدايةَ لعودةِ التعاون في هذا المجال تحديداً بما يتعلق بلجمِ العدو التركي الذي اتضحت تشظيات أهدافهِ التي تتجاوز سورية، لكن حتى هذا الاحتمال قد يبدو لمن يروج لهُ أشبه بأضغاثِ أحلام، فالخليجي عملياً لا يفكر بإستراتيجياتٍ طويلةِ الأمد ما دام هناك من يُفكر عنه، ولو أنهُ فكر بإستراتيجيات كهذه لعلمَ منذ عقودٍ أن سورية هي خط الدفاع الأول عنهُ ليس من الخطر التركي فحسب بل ومن «الخطر الإيراني» إن وُجِد، والأهم من ذلك أن البشير أساساً يتمتع بعلاقات طيبة مع النظام التركي بلغت حدّ استضافتهِ رجب طيب أردوغان ومنحهُ جزيرة «سواكن» على البحر الأحمر لإعادةِ تأهيلها وإدارتها، ليذكرنا أردوغان يومها بأن الجزيرة كانت مقراً للحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر! فهل هذا الأمر مصادفة أم إنه استفزاز لمصر والسعودية معاً؟
ثالثاً: أن يكونَ هناك اتفاق سري شكلَ الروس أحدَ أعمدتهِ، وما جرى هو قيام ترامب بتنفيذِ تعهداتهِ مقابل التزام الروس بإخراج إيران وحزب اللـه من سورية. هذه الكذبة روجت لها صحيفة «إسرائيل اليوم» أما الأكذبَ منها فهم المسؤولون الأردنيون الذين نسبت لهم الكلام وقالوا إن الاجتماع كان بحضور أردني سعودي إسرائيلي، ولا نعلم حقيقة ما الدور الذي يلعبه ملك الأردن ليبصم على هكذا صفقاتٍ وهو بالكاد يتسول ما يسد رمق الجائعين والمنتفضين في مملكته، والأهم من كل ذلك أن السكرتير الصحفي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف، نفى هذا الكلام نفياً قاطعاً، مع التأكيد هنا أن الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر اللـه كان قد أكد مراراً أن خروجهم من سورية مرتبط بطلب القيادة السورية بالمغادرة، فلماذا الوساطة الروسية؟ أما الوجود الإيراني فالأميركيون يعرفون قبل غيرهم من المروجِين والمطبلين للدور الإيراني «الحاسم» في سورية بينما الوجود الإيراني يكاد لا يذكر.
رابعاً: قد يكون ترامب فعلياً أذكى بكثيرٍ مما نتوقع، وكل ما جرى هو نوعٌ من تصفية الحسابات الداخلية مع خصومهِ في كل الاتجاهات وتحديداً بالمؤسسة العسكرية التي تشكلُ عمادَ الدولةِ العميقة، فأراد من خلال هذا الانسحاب، إن حدث، تسجيل نقاطٍ عدةٍ تحديداً أنه مقبلٌ على عامين سيكون عليهِ خوض صراعاتٍ كبيرة مع مجلس النواب الذي يشحذ الهمم لما هو أبعدَ من فكرةِ إقصائهِ وصولاً لمحاكمتهِ، ربما قد يكون هذا الاحتمال هو الاحتمال الأرجح لأن الجميع بات يعرف حجم الصراع بين ترامب وبين الدولة العميقة والذي تحدثنا عنه في عدةِ مراتٍ كان آخرها في الأسبوع الماضي عندما قُلنا إن البشرية اليوم تدفع ثمن هذا الصراع، وعليه يصبح السؤال المنطقي ماذا بعد الانسحاب؟
بدا النظام التركي عاقلاً من خلالِ إعلانهِ تأجيلَ العمليةِ العسكرية شرق الفرات لأشهرٍ، لكن لا نعلم إن كان ذلك ضمن التفاهمات الروسية التركية التي ستؤدي لدخول قوات الجيش العربي السوري وصولاً للحدود الشمالية، أم إنها بطلبٍ أميركي أوروبي تؤمن خلق واقعٍ جديد في المنطقة يمنع عن ما يسمونه «النظام السوري» استعادةَ كامل الجغرافية السورية فكيف ذلك؟
يوم الجمعة الماضي اجتمع مستشارون للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوفدٍ لممثلين عن «مجلس سورية الديمقراطية – مسد» وهو الجناح السياسي لـميليشيا «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، حتى الآن فإن كل ما رشحَ من العاصمة الفرنسية يؤكد طلب الوفد من الفرنسيين رسمياً الحلول محل الأميركي لضمان حمايتهم، ظاهرياً تبدو الدعوة أشبهَ بحماقةٍ جديدةٍ تضاف للحماقات التي تكررها الميليشيات الانفصالية دون أن تتعظ، أما عملياً فلا يجب التعاطي مع هذه الدعوة بهذا التبسيط تحديداً أن مغريات المجازفة بالقبول عند إيمانويل ماكرون تبدو كثيرة أهمها:
أولاً: الهروب من الوضع الداخلي الفرنسي المتهالِك وسط تصاعدِ الاحتجاجات التي كسرها مؤقتاً هدوء الأعياد لا أكثر، هذا الهروب بفتح معركةٍ خارجية سيكون أشبه بالملاذِ الذي قد يلجأ إليهِ ماكرون لتوحيد الفرنسيين حولهُ.
ثانياً: الضغط الكبير الذي تمارسهُ كبريات الشركات الفرنسية والتي كان لها سابقاً استثماراتٍ في سورية، كـ«لافارج» و«توتال» التي ترى أن الخروج من الساحة السورية صفر اليدين مع بدءِ إعادةِ الإعمار أمر غير مقبولٍ، هؤلاء لا يكترثون لمن سيحكم سورية أو نظامَ حكمها، هم بالنهايةِ يفكرونَ فقط بالقدرة على الضغط العسكري للكسب الاقتصادي، دون أن ننسى أن ماكرون أساساً يمثل تطلعات تلك الإمبراطوريات المالية التي نسميها «الرأسمالية المتوحشة».
ثالثاً: الماضي الاستعماري لفرنسا والرغبة الدائمة باستعادةِ إرث الشرق المفقود الذي تركوا مفاتيحهُ في دمشق، القضية هنا تبدو أبعدَ من ذلك تحديداً إذا ما فكروا بأن حصار روسيا ومواجهتها يجب أن يبدأ من سورية، فماذا ينتظرنا؟
لا يبدو أن المهمة الفرنسية قد تنجح بهذه البساطة، ماذا لو كان ترامب فعلياً نصبَ فخاً للفرنسيين في رمال الصحراء السورية تحديداً بعد أن قدمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فروض الطاعة بإعلانها رفع المساهمة الألمانية في حلف الناتو؟ ثم كيف سيستطيع ماكرون مثلاً أن يبرر الخسائر التي سيتلقاها الجيش الفرنسي في حال إقدامهِ على هكذا مغامرة، تحديداً أن المغامرة هنا لا تبدو ضد داعش، لكنها ستكون هذه المرة ضد الجيش العربي السوري، فهل تكون هي المواجهة المؤجلة بين الجيشين منذ ما يقارب السبعين عاماً! ربما هي كذلك لكننا لا نريد للفرنسي أن يدرك ذلك، من نريدهم أن يدركوا ذلك هم البعض من سوريي الهوية الذين لازالوا يواصلون حماقاتهم ويتوسلون الحماية من هذا الطرف أو ذاك، لأولئك نقول ببساطة: حتى لو زرعتَ الأشواك في حديقتنا، وساقكَ الدهر إلينا حافياً، وسيسوقك، فسنحملك بين ذراعينا كي لا تتألم، باختصار تلك هي أخلاقنا، فاتعظوا.
الوطن