أردوغان يغرق في الفرات.. لا تلوموا النحّات على كثرة الغبار
فراس عزيز ديب
لم يفسد فرحة السوريين بقرار الانسحاب الأميركي، أو دخول قوات الجيش العربي السوري إلى منبج إلا إعلان مشيخات النفط بدء عودة سفاراتها للعمل في العاصمة السورية دمشق.
مفارقةٌ تختصر ربما ردة الفعل الشعبية الحاصلة منذ إعلان «مشيخة الإمارات عودة سفارتها في دمشق للعمل، وإن كان الإماراتيون ربما بحاجة لتعيين شخص أكثر حنكة من السكرتير الحالي الذي قال إن الهدف من إعادة فتح السفارة هو «عودة سورية إلى الحضن العربي».
لن نتعب أنفسنا بسؤال «معالي السكرتير» متى غادرت سورية الحضن العربي؟ لكن من الواضح أن ما سيتعبنا هو ترقيم الدول الراغبة بإعادة فتح سفاراتها في دمشق، فالسّبحة فيما يبدو فرطت لتصل إلى ما هو أبعد من دشاديش النفط، لكنّ الأهم ألا تصل سبحة التحليلات السياسية التي تتعاطى مع هذا الحدث لما هو أبعد من المبالغات التي شهدناها وقرأناها، ولا يشبهها إلا التحليلات «التنظيرية» التي تعاطى كاتبوها مع حدث الانسحاب الأميركي بطريقة الموضوع السياسي الذي يكتبه أعضاء الحزب في الاجتماعات السياسية، تحديداً عندما نظن أنفسنا بأننا نحتكر الحقيقة، والمفارقة هنا بسيطة: قبل أن تعلنوا انتصاراً سوريّاً بعودة السفارات الخليجية للعمل في دمشق، عليكم أن تقنعونا بأن إغلاقها أساساً كان هزيمةً لنا واليوم نردّ لهم الصاع! إن إغلاق هذه السفارات أو فتحها لا يشبهه إلا إعلان رجب طيب أردوغان يوماً عن سحب السفير التركي من فرنسا احتجاجاً على قرار التصويت على الاعتراف بمذابح الأرمن، يومها علّق أحد الصحفيين على هذا الحدث «الجّلل» بالقول: لا أعلم إن كان لديهم سفارة أساساً لكي أكترث لإغلاقها.
لكن في المقابل لا يجب التعاطي مع الحدث من وجهة نظر الرفض المطلق لإعادة فتح هذه السفارات كونها أساساً لدول شاركت في سفك الدم السوري وحصار الشعب السوري، وبمعنى آخر:
نحن الآن أمام تحالفين متعاديين، كلاهما يريد التربص بك، الأول هو الأساس بكل ما تعانيه منذ فتوى «قتل ثلث الشعب ليحيا الثلثان»، والطرف الثاني فهم اللعبة متأخراً وأدرك أنه سيكون التالي، فعليك أن تطبق معه مبدأ «عدو عدوي صديقي»، أو أن تبقى تواجه الطرفين معاً فأيّهما تختار؟
لكي نجيب على هذا التساؤل لابد أولاً من التعاطي مع أربعة عوامل أساسية:
أولاً: سورية الثابت وهم المتحوّل، هو ليس اقتباساً من عنوان كتاب لـ«مفكر» لا يرى في بلده الأم إلا لعن الظلام، بل هي قراءةٌ في الوقائع التي أوصلتنا اليوم لتهافت الدبلوماسيين إلى دمشق، فسورية لم تتبدل طوال سنوات الحرب الثماني، إلا أنّ من تبدل هم الذين عادوا، فسورية لم يسجل لها أنها أقالت وزيراً أو مسؤولاً أمنياً لأن هذه الدولة لا ترضى عنه أو لأن تغييره من متطلبات تغيير صورتها على المسرح الدولي، فيما أحال الثبات السوري دولاً ومشيخات إلى ورشة عمل في إطار الإقالات والاستقالات والتنقلات تمهيداً للمرحلة القادمة، كل هذا كان يتم والقيادة السورية لم تعر أهميةً لكل هذا الضجيج، ألا يعني هذا أن الصمت في كثير من المواضع أبلغ؟!
ثانياً: لعنة التاريخ أم لعنة الجغرافيا؟ في الإطار العام فإن العلاقات الدبلوماسية بين الدول هي اعترافٌ متبادلٌ إن كان على مستوى وجود الدولة ومكوناتها أو الاعتراف بشرعية النظام السياسي الحاكم، هنا نتفق مع فرضية أن شرعية الدولة أو القيادة السورية لا تستمد من افتتاح سفارة لدولة لا تعرف كلمة صندوق إلا لنقل الخضار والفواكه، لكن القضية هنا مرتبطة بدولة كانت محاصرة واليوم من حاصرها يعترف بشكل غير مباشر أنه فشل، كما أن سورية ليست سويسرا من حيث الإطار الجغرافي المحيط بكلا الدولتين لكي تلتزم الحياد العالمي، إنها ليست لعنة التاريخ أو الجغرافيا فحسب، هي كلاهما معاً وعليه فإن الحد الأدنى من التعاون سيكون بأي حال من الأحوال استباقاً لوقوع الأسوأ في هذا الشرق البائس.
ثالثاً: العودة إلى الجامعة العربية، إلى الآن يبدو أن الدول التي تآمرت على سورية في حيرة من أمرها، فهم عملياً ينتظرون أي إشارة إيجابية من السوريين تبرّر لهم قرار إعادتهم إلى الجامعة العربية وهو ما لم يحدث ولن يحدث، لكن أكثر ما يخشونه أن يكون قرارهم بعودة سورية إلى الجامعة العربية مترافقاً بتجاهل رسمي سوري، بل أكثر من ذلك هم يريدون عملياً أن يتجنبوا الاصطدام بشروط قد يضعها السوري لضمان هذه العودة، فعودة الجامعة بصيغتها السابقة هو أمرٌ مرفوض شعبياً قبل أن يكون رسمياً، تحديداً أن «العجز» العربي الذي مثلته هذه الجامعة تجاوزناه خلال ما يقارب العقد من ربيع الدم العربي إلى «التآمر» على الدول والشعوب العربية، فهل سنعود لنقطة الصفر وتتحول الجامعة من جديد إلى وسيلة لحماية الأنظمة المتهالكة، لا يطبق من قراراتها إلا ما يتعلق بقرارات وزراء الداخلية العرب، أو وزراء الإعلام العرب، وهو منصب ربما لم يعد موجوداً إلا في منطقتنا، لضمان منع انتقاد هذا النظام أو ذاك في إطار «العلاقات الأخوية»؟!
إن أي عودة سوريّة إلى القمم العربية دون ضمان حدوث إصلاحات جذرية في بنية هذه المؤسسة هي نقطة سلبية بحق كل ما قدمه السوريون من تضحيات، هل نعود مثلاً لفكرة «الجامعة العربية» بدلاً من «جامعة الدول العربية»، هل سيكون هناك نظام داخلي يمنع التطبيع مع العدو الصهيوني ويعاقب عليه ويكون محدوداً بخطة نهوض اقتصادية في الدول العربية تستثمر أموال الأغنياء في بيئة الفقراء فننجح ببناء دول وأجيال قادمة بعيداً عن الحروب والإرهاب والتكفير، هل إنهم جاهزون لمثل هذه الانتفاضة؟
رابعاً: شبح الخلافة العثمانية برداء الديمقراطية والتعاون «الإسلامي»، أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل، عبارة قيلت لتبرير حالة «عدم الفهم» التي يعانيها بعض البشر، أما على مستوى العلاقات الدولية فتبدو لتبرير ما يعانيه البعض من فشل استراتيجيي يصل لحدّ عدم تمييز الصديق من العدو.
ربما تأخرت مشيخات النفط كثيراً حتى تمكنت من فهم ما يريده التركي عملياً من المنطقة العربية، لكن علينا ألا ننسى أبداً أن التركي بحماقاته المتكررة التي اصطدمت بالصمود السوري كان يحرق الأوراق تباعاً وصولاً لانكشافه علناً تحديداً بعد قضية مقتل جمال خاشقجي، هذا الفهم المتأخر وصل مثلاً بصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية للتعقيب على ما يجري في منبج السورية بالقول: إن الخطط التركية تصطدم بالجيش السوري، من اللافت أن أصبح اسمه في مانشيتاتهم «الجيش السوري»، ومن اللافت أيضاً أن هناك من بات يفهم حقيقة الأحلام التركية التي يقوم السوريون بوأدها بهدوء وبعيداً عن أي ضجيج بمسارين متوازيين لا يستقيم الأول دون الآخر وهما: المسار الدبلوماسي الذي لا يمكن أن يكتمل دون عودة سورية للمحيط العربي، البعض قد يقرن هذه الجملة بكلمة «للأسف» والبعض الآخر قد يراها لزوم مالا يلزم، لكن الأهم إنها الواقعية السياسية التي تتيح عملياً تحطيم الطموحات التركية وتابعهم القطري من بوابة المشرق الأولى دمشق، واستعادة سورية لدورها الإقليمي لن يكون عطيةً من أحد لأن من خاض معركة الوجود لما تبقى من إرثنا المشرقي سيكون عملياً القائد الفعلي لكل من يلحق بالركب في إطار الاحترام المتبادل.
أما المسار الثاني فهو المسار العسكري، وهو الذي تجسّد عملياً بدخول قوات الجيش العربي السوري إلى منبج لتصبح هذه القوات بمواجهة مباشرة مع الميليشيا الإرهابية المدعومة من تركيا، أكثر من ذلك فإن المفاوضات المتقدمة التي تجري اليوم مع ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» قد تسحب هذه التفاهمات ليعود الجيش العربي السوري لحماية أهلنا في باقي المدن كالرقة والقامشلي وصولاً إلى «عين ديوار» لسحب الذرائع التركية، تحديداً أن أصحاب الطموحات الانفصالية فهموا، وإن متأخرين، بأن الجيش العربي السوري والراية السورية هما بيت الأمان الذي يحمينا كسوريين، لنجلس بعدها على طاولة النقاش السوري السوري بعيداً عن أيّ تدخلات خارجية، عربيةً كانت أم دوليةً، والأهم من ذلك في المعنى العسكري لسيطرة الجيش العربي السوري على تلك المناطق أن سليل سلطنة الإجرام العثمانية سيبقى محصوراً بطموحاته من جرابلس وصولاً إلى راجو شمالاً والحدود الغربية والجنوبية لمحافظتي إدلب وحلب، وهو حكماً سيكون أمام خيارين إما المواجهة أو القراءة الواقعية للتصريحات الروسية والإيرانية المؤيدة جملةً وتفصيلاً لدخول الجيش العربي السوري إلى كل المناطق التي هي خارج سيطرتها، فماذا ينتظرنا؟
بانتظارنا الكثير من المفاجآت، علينا فقط أن نقتنع بأن العقل السوري الذي يدير إظهار الترتيبات النهائية لها يستمد برودة أعصابه من الثلج السيبيري، لن ينفع معها توسلات رئيس النظام التركي لطلب عقد قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من قال له أساساً إن الرئيس بوتين قادر أن يعطيه ما لا تقبل به القيادة السورية؟
ربما هو ذات الشخص الذي نصحه بالتصريح عشية دخول الجيش العربي السوري منبج بأن «وحدات حماية الشعب» لا يحق لها دعوة طرف ثالث للدخول إلى منبج! دققوا فقط في هذا التصريح لتعرفوا أي عقل سوري أوصل أردوغان إلى هذا «الهبل»، وبمعنى آخر: عندما يقوم النحات بتطويع الحجر لينطق، عليك ألا تشوش عليه بانزعاجك من الغبار المتناثر، إنه النظام العالمي الجديد، ركزوا على ملامحه الجديدة، ولا تكترثوا للغبار.
الوطن