خديعة الإنسحاب الأمريكي، وإدارة سورية وحلفائها لفصول حرب لم تتوقف.
سمير الفزاع
من يحارب ترامب في أميركا؟. ما هي أهم خصائص إدارة ترامب للصراع الدولي-الإقليمي، وكيف حاول ترامب وأردوغان استغفال محور موسكو-دمشق-طهران شمال-شرق سورية؟. ما هي أبرز ملامح الصراع الإقليمي؟.
*إيزنهاور حذّر، وترامب يواجه:
“بعد نصف قرن قضيته في الخدمة العامة للأمة الأميركية، سأقوم بتسليم مسؤليات منصبي إلى خلفي الذي اخترتموه… إنّ دورنا في حفظ السلام العالمي طرأت عليه -بحكم مسؤليات الولايات المتحدة- زيادة غير مسبوقة في صناعة السلاح. فقد اضطرتنا الظروف إلى توسع في صناعة السلاح فاق كلّ الحدود… كما أننا نُوجّه إلى الجانب العسكري في إقتصادنا ما يوازي دخل كلّ الشركات الأميركية مجتمعة. وهذه ظاهرة خطرة على حياتنا، لأنها أدت إلى إنشاء مجمّع صناعي-عسكري-إقتصادي-سياسي، يصل نفوذه عميقاً في وطننا، ويؤثر على بيئته الإجتماعية، كما يؤثر على إتجاهاته، وذلك يشعرني بالقلق الشديد… وعليّ أن أقول صراحة، إن هناك مجموعة صناعية-عسكرية-مالية-سياسية وفكرية، تمارس نفوذاً غير مسبوق في التجربة الأميركية… فإننا لا بد وأن نَحذَرَ من وصولها إلى موقع التأثير المعنوي والسياسي والعملي على القرار الأمريكي، لأن في ذلك خطر شديد على المجتمع الأمريكي قبل أن يكون على غيره. وأود أن ألفت النظر إلى أنه إذا وقع القرار الأمريكي رهينة لمثل المجمع الصناعي-العسكري وأطرافه، فإن الخطر سوف يصيب حرياتنا وممارساتنا الديموقراطية، كما أنه قد يصل إلى حجب الحقائق عن المواطنين الأميركيين، والخلط ما بين أمن الشعب الأميركي وحرياته وبين أهداف هذا المجمع وأطرافه ومصالحهم”.
هذه المقتطفات من خطاب وجهه للشعب الامريكي أحد أهم جنرالاته وقادته، الرئيس “دوايت إيزنهاور” في 17/1/1961 بمناسبة انتهاء ولايته الثانيه كرئيس لأمريكا. لم تستغرق نبوءته كثيراً من الوقت كي تتحقق، فوقعت اول حادثة إغتيال لرئيس امريكي وهو الرئيس الذي خلفه مباشرة، أي “جون كندي”… وكلّ المؤشرات الجديّة تتجه لاتهام هذا المجمع الصناعي العسكري، والذي “جلب” قبل سنوات معدودة أول رئيس امريكي بتزوير مفضوح وصارخ للانتخابات، “بوش الصغير”… ما يؤكد سيطرة هذا المُجمّع على البنية الاجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية لأمريكا، وإمساكه باتجاهاتها وخياراتها .
بعد هزائمه في العقد الأول من الألفية الثانية، تضرر هذا المجمع الصناعي-العسكري بشكل واسع وعميق جداً إلى درجة أن إمكانيات “ترميمه” باتت غير ممكنه، لذلك جاءوا بالرئيس “الأسود” أوباما في محاولة لتغيير وجه أمريكا القبيح، ولتخفيف الانتقادات المتصاعدة لهذا المجمّع، وتوجيه اللوم في سياسات واشنطن المجرمة إلى “الآخر” على إعتبار بأن أي آخر لن يقوم إلا بما قمنا به… لكنّ ما حدث لم يكن بالحسبان: محاولات أوباما “تخفيف” خسائر واشنطن بالانسحاب من ساحات الصراع المشتعلة تحولت إلى نزعة انعزالية أمريكية متنامية، إنعزالية أتاحت التركيز على القضايا الداخلية بشكل غير مسبوق، وخصوصاً لناحية تأثير العولمة على الاقتصاد والمجتمع الأمريكيين؛ حيث الفساد الذي يعصف بالنخبة الحاكمة، وتغول أقلية “نيوليبرالية” وتهميش قاس للطبقة الوسطى التي حاول أوباما إحيائها، وانهيار قطاعات صناعية واسعة وهروب أخرى خارج أمريكا، وتضاعف عدد العاطلين عن العمل والمعدمين مرات عديدة، وانتشار التعصب وتفشى التطرف، وتعاظم “الإقتصاد الأسود”: التهرب الضريبي، تهريب المخدرات والسلاح والبشر والدعارة… التي برع فيها ترامب… فصار رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
*إنسحاب منظم أم إعادة إنتشار؟.
مع ترامب، أفترض بأن واشنطن تعيد انتشارها في المنطقة –الإنعزالية الجديدة- الى حيث خطوط حمر “حيويّة” يصعب التنازل عنها دون حرب إقليمية على الأقل، مثلاً: بالرغم من التسليم الأمريكي بالهزيمة في شمال-شرق سورية إلا أنها ستتمسك ما أمكنها بقاعدة التنف. التفاهم حول أمن الطاقة في جزيرة العرب وشرق المتوسط. محاولة تثبيت موطئ قدم راسخة ومتفق عليها في العراق… .
من قاعدة عين الأسد، ظهر ترامب وهو يرتدي سترة طياري البحرية الأمريكية “المارينز”، القاعدة التي تشرف على خطي نفط كركوك-بانياس وكركوك-حيفا، والمهيمنة على قاعدتي H1 وH2، في العراق، وقاعدة H4 ) الجفر) في الاردن، والقريبة من مثلث الحدود العراقي-السوري-الاردني من جهة وشمال شرق سورية من جهة ثانية، والمقابلة تماماً لقاعدة روسية مرتقبة في دير الزور طلبها السوفييت منذ العام 1982… الرجل ليس ساذجاً أو أحمق؛ بل هو يتبع استراتيجية سياسية-إقتصادية-عسكرية-جيوسياسية خطيرة للغاية. فقاعدة “عين الأسد” التي زارها ترامب قبل أيام فيها من انظمة الملاحة وادارة الطيران ما يفوق مطار بغداد الدولي، وبنى تحتية وتجهيزات تفوق ما هو موجود في قاعدة “أنجيرلك” بتركيا ثلاث مرات، وكلفة ترميمها وتحديثها تجاوزت 8 مليارات دولار… الى جانب قواعدها في مطارات اخرى مثل قاعدة H2 -سعد، وقاعدة H3 -الوليد، وهي تشكل الى جانب السويداء ودرعا والقنيطرة مع جنوب لبنان المجال الحيوي الأخير لأمن الكيان الصهيوني بمواجهة محور المقاومة… أمن يضمنه تحالف يجمع “اسرائيل” مع محيط “عربي” لتشكيل نواة ناتو الشرق الأوسط… فمصير كيان العدو ينتقل من ثابت أمريكي إلى قضية أمن إقليمي بإشراف أمريكي لا يلحظ كل مخاوف هذا الكيان أو صُنّاعَهُ الأوَل ومصالحهم الجيوسياسية… وهذا يفسر الفزع في لندن وباريس وحتى برلين أصحاب سايكس-بيكو ورعاته، والأكثر دراية بملفات وقطب المنطقة المخفية، ومخاطر العبث بهياكلها و”رفع اليد” عنها… .
*خطوط حمر، وتسليم واستلام:
لنتذكر بأن واشنطن اعلنت بأنها في صدد إنشاء وتدريب وتسليح قوة عسكرية مكونة من 50 الف مقاتل تقريبا في شمال شرق الفرات وبتمويل خليجي… وعلى المقلب الآخر هناك ضعف العدد من الارهابيين في محافظة إدلب ومحيطها يُعتقد بإدارة تركيا لهم، ونصف هذا العدد ينتشر بمحيط حلب على الحدود السورية التركية… ما هو الهدف من الإبقاء على هذا العدد الكبير من أدوات الغزو الإرهابية؟ وما هو مصير “النموذج” الذي يبنيه ألآف الجنود الأمريكيين والغربيين شمال-شرق الفرات، والأتراك وأطراف أخرى في ادلب وريف حلب المتصل بها وعفرين وصولاً الى جرابلس؟ وإلى أيّ حدّ هم مستعدون للدفاع عن هذين النموذجين المختلفين والمتناقضين شكلاً على الأقل؟! وكيف سيتم “تفكيك” أو كسر هذين النموذجين؟. في البداية يجب أن نتذكر استعدادات واشنطن والغرب لشن هجوم جوي-صاروخي على سورية لحظة مهاجمتها أدوات الغزو الإرهابي في إدلب… لأدلل على حقيقة مهمة جداً وهي التكامل بين “الدور التركي” في ادلب ومحيطها مع الوجود الامريكي شرق الفرات بالرغم من التناقض الشكلي بين النموذجين.
لنلاحظ، بأن هجوم القاعدة –جبهة النصرة- على الفصائل المدعومة تركياً بدأ بعد تعثر عملية التسليم والإستلام بين واشنطن وأنقرة في منبج، وأنّ قائد هذا الهجوم هو “أبو يقظان المصري” القريب من الظواهري (البديل الأمريكي-السعودي لبن لادن) وأن القوة الأساسية في الهجوم تضمّ أعضاء سابقين في جيش الإسلام السعودي الإنتماء والتمويل… ولهذا الهجوم مؤشرات خطيرة جداً: محاولة سعودية-مصرية-أمريكية لضرب “النفوذ” التركي في سورية بعد ترددها بالسيطرة على منبج، ورسالة أمريكية إلى تركيا بضرورة الإلتحاق بالمخطط الأمريكي الجديد، ومحور ضغط على الجيش العربي السوري وحلفائه لمشاغلتهم عن شمال-شرق سورية، وبوابة لإنهاء تفاهمات سوتشي-أستانه لصالح تفاهمات أخرى تلبي مصالح واشنطن وأدواتها… .
هذان النموذجان يطمحان الى فرض تقاسم نفوذ في سورية يستفيد منه الامريكي والتركي والعدو الصهيوني وحلفائهم، ولن يكون من سبيل لتفكيك هذين النموذجين الا برضوخ سورية وحلفائها لعدة إشتراطات إقليمية ودولية، مثل: إشراك أدوات واشنطن وحلفائها في بناء السلطة السورية الجديدة وفق دستور جديد، وضع سياسات اجتماعية واقتصادية وقانونية متفق عليها، والاتفاق على كعكة اعادة الاعمار، هيكلة الجيش العربي السوري والاجهزة الامنية، صفقة القرن، مراعاة المصالح الامريكية في العراق ولبنان… وليكن معلوما ان العملية التركية على منبج كانت ستشن بالتنسيق مع الامريكي، ليكون تسليم منبج الاختبار المحلي والإقليمي والدولي لتسليم بقيّة شمال-شرق سورية، ودخول تركيا طور “الانقلاب” باتجاه واشنطن، لتصبح هي رائدة مشروع صفقة القرن ومرجعيته، والوكيل الامريكي القوي في المنطقة لا مصر ولا السعودية، و”البواب” الفعلي لطريق الحرير وشرايين محور المقاومة من بيروت الى دمشق فبغداد وصولاً الى طهران، وصاحبة اليد العليا -الأداة الأمريكية- في رسم مستقبل سورية ومصيرها السياسي… لكن رسائل ميدانية وسياسية لجمت التركي حتى الآن… وهنا جوهر مهمّة بولتن والوفد الأمني-العسكري الرفيع إلى تل أبيب وتركيا بالدرجة الأولى؛ إقناع تركيا بالانفتاح على مشروع واشنطن-تل أبيب.
*ختاماً، الدخول السريع للجيش العربي السوري إلى محيط منبج، شكلّ صدمة حقيقية تفوق بأضعاف صدمة الإنسحاب الأمريكي الزائف من سورية، وعطل مشروع خطير في المنطقة، وأضطر صناعه لإعادة حساباتهم مجدداً، تماماً بحجم تداعيات تزويد سورية بصواريخ S-300VM3 ونشر بعض المنظومات في مطار تي-4 وفي دير الزور… ما يؤكد بأن مواجهة الاحتلال الامريكي قد اعطيت الاولوية. عندما تخرج امريكا من شمال-شرق سورية مهزومة، وتنسحب من العراق ذليلة؛ فإننا نؤسس لهزيمة تشبه تلك التي مني بها الكيان الصهيوني في العام 2000 و2006، وإنما بآثار مضاعفة مرات عديدة، لتشكل أكبر زلزال جيوسياسي منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية… مثلاً:إلتئام قوس الصد في المشرق العربي بغداد-دمشق-بيروت لأول مرة منذ سنوات طوال، وإنتظام القاعدة-النموذج التي يبحث عنها كل مواطن عربي، واشراف من “نوع آخر” على أبواب جزيرة العرب يؤسس لخروج أمريكي من المنطقة سينهي وجود الكيان الصهيوني فيها… فهل تُطيق واشنطن ثمن الإنسحاب، أم هناك “خدعة” جديدة، أم ستذهب وأدواتها إلى حرب خسروها سلفاً؟!.
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73