المسجد الأموي بحلب ينفض غبار الحرب: توجّه حاسم لإعادته إلى ما كان عليه «وبأي ثمن»
كثيرة هي المساجد التاريخية التي دُمرت جراء الحرب، منها المسجد العمري في درعا، ومسجد خالد بن الوليد المقترن باسم محافظة حمص، لكن يبقى المسجد الأموي في محافظة حلب الخسارة الأكبر من حيث التكلفة الاقتصادية والإرث الإسلامي والتاريخي، وهو المدرج على قائمة مواقع التراث العالمي، إذ تعرض الإرث التاريخي لتدمير ممنهج نتج عنه تدمير أجزاء منه وسقوط مئذنته التاريخية «الشهيرة»، ذلك المسجد الذي صمد أمام تغيرات الزمن وغزو المغول، لم يسلم من الإرهاب الذي طال معظمه ونهب ما بقي من كتب تاريخية نادرة على مستوى العالم. حيث شهدت باحاته معارك شديدة خلال الحرب السورية، مما أسفر عن دمار هائل في معالم المسجد الأثري. كما تسببت المعارك في دمار المنارة التي بنيت عام 1090م، وبعض أجزاء المسجد، الذي تعرض في الماضي لحرائق ودمار كبيرين خلفه المغول حين سيطروا على مدينة حلب عام 1260، بعد عامين من تخريبهم بغداد التي كانت مركز الحضارة الإسلامية حينه.
المسجد الأموي عبر التاريخ
بنِيَ المسجد الأموي في حلب في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة 717م، ويختلف المؤرخون في عدة نقاط حول المسجد، بدايتها الموقع، فيرجح بعضهم أنه يعود لمقبرة كاتدرائية «سانتا هيلينا» المشيدة خلال فترة الحكم الروماني، في حين يشير المؤرخ المعماري كروزويل (اعتمادا على كلام المؤرخ الحلبي ابن العديم) إلى أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان يخطط لبناء مسجد تنافس روعته المعمارية نظيره في دمشق، والذي بناه الوليد بن عبد الملك شقيق سليمان، لكن بعض الكتابات الأخرى تشير إلى أن التشييد قد بدأ في عهد الوليد نفسه، سنة 715م، ولا علاقة للتنافس الأخوي بذلك، فيما يشير رأي ثالث إلى أن نواة بناء المسجد قد تمت على يد مسلمة شقيق سليمان والوليد، والذي شغل منصب حاكم جند قنسرين، وهذا بالنظر إلى أهمية تشييد مسجد في حلب، لكونها قاعدة أساسية في الصراع المستمر مع الإمبراطورية البيزنطية.
بالوصول إلى القرن الحادي عشر الميلادي، تأسست في حلب ومنبج والرقة وبعدهما طرابلس وبعلبك وصيدا الدولة المرداسية، على أنقاض الدولة الحمدانية، والتي قامت ببناء النافورة المقببة في باحة المسجد، ليتبعها الحكم السلجوقي، الذي شيد مئذنة في الركن الشمالي الغربي، يبلغ طولها 45 مترا، وذلك على يد القاضي أبي الحسن محمد، الذي كلف المعماري حسن بن مفرج آل سرميني بالمشروع الذي استغرق 4 سنوات، بين عامي 1090م و1094م.
أربعة أبواب ومئذنة
يتألف الجامع الأموي الكبير من أربعة أبواب، فالباب الشمالي يجاور المئذنة، والغربي يؤدي إلى شارع المسمارية، فيما ينفذ الشرقي إلى سوق المناديل، ويطل الجنوبي على سوق النحاسين. تحيط بصحن المسجد ثلاثة أروقة، وحرم في الجهة القبلية، فيما تم تبليط الصحن ببلاطٍ رخاميٍّ يعود للحقبة العثمانية، وكما أشرنا إلى ذلك، فإن المئذنة بنيت على مراحل، يبلغ طولها 45 مترًا حتى شرفة المؤذن، فيما يبلغ طول ضلعها المربع خمسة أمتار تقريبا.
اكتسب المسجد الأموي الكبير في حلب أهميةً قصوى لا ترتبط فقط بتفرُّدِ طرازه المعماريّ وزخارفه ونقوشه، بل بشهادته على تعاقب الكثير من الفترات الحرجة والصعبة في تاريخ حلب والمنطقة، بالإضافة إلى الكنوز القيِّمة التي يحتوي عليها، بداية من الحرم الذي يضم سدة من الخشب المزخرف بألوانٍ مختلفة مع كتابة تشير إلى عصر بانيها «قره سنقر كافل حلب»، والمنبر الذي صنعه محمد بن علي الموصللي، ويعود إلى عصر الملك الناصر محمد، وهو من أجمل المنابر على الإطلاق، نظرا لزخرفته بالرقش العربي الهندسي المركَّب من خشب الأبنوس والمنزل بالعاج والنحاس البراق.
أما المحراب فقد بُنِيَ بالحجر المشقَّف بزخارف هندسية مشابهة لنظيرتها في الجامع الأموي في دمشق، وهو يعود إلى عصر السلطان قلاوون، أما الضريح النبوي الذي يقال بأنه يضم رفات النبي زكريا عليه السلام، فإنه يحتوي بالإضافة إلى جدرانه وقناديله الأثرية على مخطوطات قيمة، لعل أبرزها مصاحف قديمة كتبت بيد خطاطين سوريين قبل عدة قرون.
إعادة ترميم المسجد… كسابق عهده
حجم الدمار للمسجد الأموي يعادل الثلث تقريباً، فقد أصيبت المنارة والمئذنة بشكل كامل، إضافة إلى الأضرار التي لحقت بالأعمدة والركن وكل ما هو متصل بالأسواق، حسب قول المحامي علاء السيد، الباحث في تاريخ حلب، إن عمليات ترميم المسجد الأموي في حلب بدأت منذ عدة أشهر، مشيراً إلى أن جمهورية الشيشان تبرعت بمبلغ أربعة عشر مليون دولار أمريكي لترميم المسجد.. كما بين السيد أن الترميم اجتاز مرحلة فرز الأحجار الأثرية المتساقطة من المئذنة التي انهارت بالكامل بفعل انفجار داخلي وفق ما تبين أثناء إزالة الركام، وتنظيف الواجهات الداخلية المحروقة وإتمام بعض الأعمال الخشبية، وحالياً وصلت الأعمال إلى المرحلة الهندسية لإعداد خطة مدروسة لإعادة الترميم بشكل هندسي احترافي.
السيد نفى وجود سرقة لأحجار الجامع الأموي كما أفادت بعض المصادر، التي زعمت بأن بعض أحجار الجامع الأموي تم نهبها وتهريبها إلى لبنان.
السيد أوضح بالمقابل بأن المنبر الخشبي المملوكي هو أحد المفقودات، مشيراً إلى أنه سيتم إعادة تجميع الأحجار من جديد، إضافة إلى استبدال الأحجار المتضررة بشكل كبير بأحجار جديدة مع الحرص على الإبقاء على الأحجار الأثرية السليمة، وعلى أن تكون الأحجار الجديدة أقرب ما تكون للقديمة من حيث النوعية والصلابة واللون.
الباحث التاريخي أوضح أن هناك لجنة مشكّلة من رئاسة الجمهورية تسمى «لجنة إنجاز الجامع الأموي الكبير»، وفيها ممثلون عن مختلف الجهات الرسمية ذات العلاقة، ويشارك بالأمر أيضا جامعة حلب، ومعظم الأعمال التي أنجزت حتى الآن تمت بخبرات وطنية صرفة، ومؤخراً تمت زيارة لخبير إيطالي قام سابقا بتوثيق أحجار المئذنة هندسياً، مشيراً إلى أن التوجه الرئيسي في الترميم هو لإعادة المسجد الأموي بحلب كما كان من دون أي تعديل مهما كلف الثمن.
نقلا عن الأيام
Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73