السياسة الخارجية الروسية بين الفهم الحقيقي والفهم السطحي!
بسام أبو عبد الله
تتعرض السياسة الخارجية الروسية لحملة إعلامية، وبحثية منظمة حول دور روسيا الجديد في العالم، وفي بناء نظام عالمي جديد تقوم على مجموعة أحكام مسبقة يروج لها الباحثون الغربيون، ويتلقفها البعض لدينا في المنطقة دون فهم حقيقي يقوم على إدراك عميق للثقافة الروسية، وتاريخ روسيا، وأبعاد السياسة الخارجية الروسية الجديدة، والتوازنات الدولية التي تتغير، وما هو مطلوب منا في العلاقة مع الحليف، والمقاربات السطحية في فهم النفسية الروسية، والمجتمع الروسي، وما شهده من معاناة، وإذلال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، والحقيقة أن هذه المقاربات، وبعضها يكتب في سورية لا تزال سطحية، وتكرر مقولات ساذجة لا بد من التعاطي معها بوضوح شديد منعاً للالتباس لدى الرأي العام السوري الذي يتعرض لحملة إعلامية شرسة تستهدف تشكيكه في نفسه، وإمكاناته وحلفائه، واحتمالات انتصاره، وتركز على دور روسيا من خلال عدة مقولات يناقشها البعض بعبارات (مفزلكة) من دون تقديم دليل ملموس واضح، سأذكر أهمها:
1- ليس لدى روسيا إمكانات مادية، واستعداد معنوي ونفسي، ولا وضع سياسي يؤهلها لمواصلة مواجهة مفتوحة مع الغرب، وهذا يضع سقوفاً أو حدوداً قصوى لتدخلها في سورية.
2- هل إن مصالح روسيا في دعم سورية «نظام الرئيس بشار الأسد أكبر من مصالحها مع تركيا»، والخليج، فضلاً عن الغرب؟ هنا لا يمكن إغفال أن روسيا تراعي مصالحها مع فواعل الإقليم، ولذلك تأثير لا يخفى على نمط تدخلها في سورية.
3- عدم تطابق أجندة روسيا مع أجندات حلفاء سورية الآخرين (إيران وحزب الله)، وهذا يدفعها إلى رسم ملامح إستراتيجية مختلفة عن إستراتيجيتهم.
4- اعتبرت واشنطن أن روسيا هي العدو، أو مصدر التهديد الرئيسي للولايات المتحدة، فيما تبدو روسيا -مترددة- في إظهار الاعتبار أو الموقف نفسه! وهذا من الأمور التي تلقي بظلالها على أي تقديرات مستقبلية بشأن ثبات روسيا في مواجهة أي توترات شديدة مع أميركا في سورية!
5- ثمة مخاوف فعلية، أو افتراضية، وتقديرية من أن روسيا أحياناً ما تخذل أصدقائها أو تتراجع عن مواقفها في لحظات حرجة، أو تدخل في تقديرات، ومساومات ملتبسة، وجدت ذلك في مواقف كثيرة منها: أوكرانيا، وقبل ذلك: يوغسلافيا، وليبيا نفسها – لقاء مكاسب معينة؟
6- العلاقات الروسية الإسرائيلية، واحتمالات تأثير إسرائيل في قراءات، وتقديرات روسية بخصوص سورية، ومستقبلها.
بالمجمل هذه أسئلة مشروعة لوضعها تحت البحث، والتمحيص، ومن حق الرأي العام السوري أن يطرحها على قياداته، وباحثيه، ولكن عندما تقرؤها بالمجمل فإنك تتلمس نفحة مشككة بالدور الروسي، باستعداد روسيا لبيع حلفائها، وبضعف روسيا وعدم قدرتها، ورغبتها على مواجهة أميركا، والغرب «وكأننا في حلبة ملاكمة، وليس خريطة جديدة معقدة جداً للعلاقات الدولية» ورؤية روسية مختلفة للعالم الجديد الذي تحاول أميركا، والغرب منع ولادته، وظهوره، وموازين القوى البازغة التي بدأت تفرض نفسها في منطقتنا، والعالم بشكل واضح.
لست هنا بمعرض الدفاع عن روسيا، وسياستها الخارجية باعتباري أحد خريجي جامعاتها (ولي الشرف في ذلك)، فلدى موسكو الإمكانات، والقدرة أكثر مني على فعل هذا الأمر، ولكن في ضوء المعركة المشتركة التي نخوضها معاً ضد الفاشية الجديدة التي شبهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«النازية» فمن واجبنا الأخلاقي والبحثي أن نوضح هذا الالتباس الذي يحاول البعض عن قصد أو عن سوء فهم الترويج له تحت عناوين بحثية تبدو في الظاهر أنها محقة، ولكنها مضرة في ترسيخ أحكام مسبقة تخدم أجندة الخصوم من حيث يدري الباحث، أو لا يدري.. ولأن مساحة مقالي محدودة، سأحاول التركيز على بعض النقاط المهمة التي أراها ضرورية للرأي العام السوري:
1- في 7 أيار عام 2000 تسلم الرئيس بوتين مهامه رئيساً لروسيا الاتحادية، وفي حزيران من العام نفسه أطلق المبادئ الأساسية لسياسة روسيا الخارجية التي عرفت بـ«عقيدة بوتين»، وأهمها:
التركيز على برامج الإصلاح الداخلي على حساب السياسة الخارجية.
الحفاظ على روسيا الاتحادية قوة نووية عظمى.
تطوير دور روسيا الاتحادية في عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة.
العمل على استعادة دور روسيا في آسيا، والشرق الأوسط تدريجياً.
عدم السماح للغرب بتهميش الدور الروسي في العلاقات الدولية.
التخلص تدريجياً من نتائج «الحرب الباردة» التي تم التعامل فيها مع روسيا الاتحادية على اعتبارها الطرف المهزوم.
إذا استمر توسيع حلف الأطلسي شرقاً باتجاه حدود روسيا الاتحادية، فسوف يتم إعادة دعم الترابط بين دول الاتحاد السوفييتي السابق لحماية منطقة خط الدفاع الأول.
تعارض روسيا نظام الأحادية القطبية، لكنها ستعمل مع الولايات المتحدة الأميركية في قضايا عديدة مثل الحد من التسلح، وحقوق الإنسان، وغيرها.
ستعمل روسيا الاتحادية على دعم بيئتها الأمنية في الشرق الأقصى عن طريق تقوية علاقاتها مع الصين، والهند، واليابان.
– والحقيقة أن هذه المبادئ الأساسية لم تتغير في السياسة الخارجية الروسية حتى الوقت الراهن، وأهم ما فيها هو مواجهة بوتين لبعض المنظرين الروس الذين تحدثوا في مرحلة الرئيس بوريس يلتسين عن (اندماج روسيا غير المشروط في مجال الأورو-أطلسي) وأعاد التأكيد في 9 أيار 2005 عن أن «روسيا الاتحادية، دولة تصون قيمها الخارجية، وتحميها، وتلتزم بميراثها، وطريقها الخاص للديمقراطية»، مضيفاً: «لن يتحدد وضعنا في العالم الحديث إلا بمقدار نجاحنا، وقوتنا».
هناك نقطة مفصلية أخرى في فهم السياسة الخارجية الروسية كانت في خطاب الرئيس بوتين في 10 شباط 2007 أمام مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية عندما خاطب زعماء الغرب بوضوح شديد، وانتقد بعنف نظام الأحادية القطبية معتبراً إياه ليس فقط غير مقبول في العالم المعاصر، بل ومستحيل التحقيق، كما أن العالم شهد في ظله المآسي الإنسانية، وبؤر التوتر، والاستخفاف بالقانون الدولي، وسباق التسلح، معتبراً أنه في ظل وجود قوى جديدة اقتصادية في العالم فإن النفوذ السياسي لهذه الدول سيزداد ما يعزز دور الدبلوماسية المتعددة الأطراف.. ورأى بوتين أن تاريخ روسيا العريق كان يتمايز عملياً بسياسة خارجية مستقلة، ولا ننوي تغيير هذا التقليد.. لكننا في الوقت نفسه «نرى جيداً كيف تغير العالم، ونقيم بشكل واقعي إمكانياتنا، وقدراتنا، ومستعدون للتفاعل مع شركاء مسؤولين، ومستقلين من أجل نظام عالمي ديمقراطي، وعادل يضمن الأمن والازدهار ليس للنخب فقط إنما للجميع».
عندما قدمت روسيا الدعم لسورية نهاية عام 2015 في مكافحة الإرهاب لم يكن لديها أي تردد في هذا المجال، وكانت تدرك تبعات ذلك، وثمنه لأنها كانت تدافع عن أمنها القومي وتدرك أن ترك هذه العصابات الفاشية النازية بهذا العدد الكبير الذي يفوق قدرة سورية على المواجهة لفترة طويلة، فهذا يعني أن هذه العصابات ستنتقل لزعزعة استقرار روسيا لاحقاً، وهي البلد المتعدد الإثنيات، والأديان الأمر الذي لا بد من مواجهته بحزم شديد، وخاصةً أن الرئيس بوتين قال في 28 تشرين الأول 2015 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إن روسيا ماضية في خوض المواجهة مع الإرهاب لا في سورية وحدها، إنما في العراق أيضاً داعياً دول العالم الأخرى للانضمام إليه كما حدث في الحرب العالمية الثانية في مواجهة «الخطر النازي» منتقداً الفشل الغربي في ليبيا الذي أدى للفوضى، وغرق أوربا باللاجئين، وانتشار التطرف.
دون فهم هذه الأبعاد، والمفاصل الأساسية، وفلسفة السياسة الخارجية الروسية لا يمكن سبر أغوارها فالروس يعرفون حدود إمكانياتهم، والواقع السياسي الداخلي الروسي أقوى من أي وقت مضى، فأقرب منافسي بوتين المدعوم غربياً لا يحظى بأكثر من 1 بالمئة من دعم الرأي العام الروسي، فعن أي وضع سياسي داخلي روسي يتحدث البعض؟ هذه ترهات غربية يروجون لها للتشكيك، والتوهين، ويكررها البعض من باب سوء الفهم، وعدم معرفة الواقع الداخلي على حقيقة داخل روسيا، وهو واقع ليس مثالياً، لكنه قوي، متماسك إلى حد كبير.
لا تقوم السياسة الخارجية الروسية على إعلان العداوة لأميركا والغرب، ففي ظل العولمة الاقتصادية في العالم أصبح الجميع بحاجة للجميع، والعالم لم يعد في زمن الحرب الباردة حيث كان الانقسام أيديولوجياً، فروسيا، والصين لا تريد مواجهة مع الغرب لكنها تريد شراكة تقوم على الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة وليس على علاقة تبعية، أو استزلام كما هي علاقة واشنطن مع حلفائها الغربيين، كما أن المواجهة هي مصلحة بعض اللوبيات المالية، والاقتصادية، وليست مصلحة لكل الدول الغربية، وهو ما لمسناه بالافتراق الأميركي، الأوروبي في حالة الملف النووي الإيراني، والاتفاق مع إيران.
لم تخذل روسيا أصدقاءها، وحلفاءها بل بالعكس تماماً فإن الغرب مندهش من موقف روسيا الثابت مع دمشق على الرغم من كل الإغراءات التي قدمت لها، ولم تتراجع موسكو عن مواقفها، ولا هي مترددة، فعدد الفيتوات التي استخدمتها منذ عام 2011 يكفي ليفهم البعض حجم صلابة موقف موسكو والمقارنة ساذجة بين موقف روسيا تجاه يوغسلافيا «تسعينيات القرن الماضي»، أو ليبيا وأهميتها للمصالح الروسية وبين سورية وحساسية موقعها لروسيا، فهذا جهل واضح في إدراك واقع العلاقات الدولية آنذاك، والآن.
من الطبيعي أن علاقات روسيا الدولية هي أكبر من العلاقة مع سورية، ولا ترسم موسكو علاقاتها إلا بناءً على مصالحها ومبادئها، والمبادئ التي أشرت إليها أعلاه هي الأساس في تحركات موسكو، وعلاقاتها مع إيران مثلاً أبعد من سورية، وترتبط بغرب آسيا، أما علاقتها مع إسرائيل فهي ليست سراً، ولكنها بالتأكيد لا تبني مواقفها وسياساتها على أساس تقييمات إسرائيلية لمستقبل سورية فهذا تسطيح، وسذاجة في فهم موقف موسكو التي ما زالت تؤمن بمبادئ السلام العادل، والشامل، واستعادة الجولان المحتل، وحقوق الشعب الفلسطيني.
إن خطاب الرئيس بوتين في 1 آذار الحالي يعطي مؤشراً أقوى لحجم ثبات روسيا، وعدم ترددها في الدفاع عن حلفائها ولكنها تريد من حلفائها أيضاً أن ينهضوا، ويرمموا نقاط ضعفهم الداخلية ليكونوا حلفاء أقوياء، ولهذا تدعم موسكو الحل السياسي في سورية بهذا الوضوح، والعلانية، وتريد أن تكون سورية أكثر قوة، وصلابة، ولديها مقارباتها، ونصائحها، لكنها ليست ملزمة لدمشق التي تتعاطى أيضاً وفقاً لمصالح شعبها أولاً وأخيراً.
ما يجمعنا مع الروس تلك المبادئ التي أشرت إليها في البداية والتي لم تتغير، وتتبدل ومن حقنا أن نسأل، ونبحث معرفياً وبحثياً، ولكن هذه التساؤلات مقبولة من مواطن بسيط، وليس باحثاً يفترض به أن يفهم بعمق أن الروس مقهورون بسبب سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنهم كما قال بوتين ذات يوم: «من لا يحب الاتحاد السوفييتي فهو بلا قلب، ولكن من يرد تكرار تجربته فهو بلا عقل». علينا أن نفهم العمق، لا أن نكون سطحيين في الطرح تحت لافتة البحث، والمعرفة المزيفة، وما دامت مبادئ روسيا المعلنة تتطابق مع أهدافها، فلا قلق إطلاقاً من روسيا، لكن القلق الحقيقي يجب أن يكون من نقاط ضعفنا التي يجب أن نعالجها، وهي مسؤوليتنا وليست مسؤولية حلفائنا.
الوطن