وجه الشرق الأوسط يتغيّر.. تاريخ جديد
علي فواز
انتصار حلف المقاومة في سوريا يعبّر في أحد جوانبه عن خلاصة إرادة المواجهة في إيران مع ما تسميه بالاستكبار العالمي. بعد أكثر من سبع سنوات على الحرب خرجت إيران رابحاً أساسياً وقوياً. هذا الأمر سيكون له تداعيات كبيرة وخطيرة. والأخطر هو الوضع الذي تجد إيران نفسها فيه للمرة الأولى منذ داريوس الثالث خلال حقبة الصراع بين مملكة الفرس آنذاك والاسكندر المقدوني. هنا الجزء الثاني من قراءة استشرافية حول التحولات في منطقة الشرق الأوسط المرتبطة بالتحولات في موازين القوى العالمية. تستند هذه المقالة إلى مقابلة أجريت مع الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية الدكتور محمد صادق الحسيني قبل نهاية العام الماضي وتتضمن قراءة لمستقبل المنطقة وارتدادات هزيمة المحور الأميركي على أبواب دمشق.
الأميركي ينسحب من المنطقة، آجلاً من كل المنطقة. الإسرائيلي في حالة دفاعية. الصراعات البينية داخل المحور الأميركي باتت تتجلى في أكثر من مكان.
هذا الصراع الداخلي هو من تداعيات الإخفاق الاستراتيجي الكبير على بوابات الشام الذي يشبه هزيمة المحور النازي على أبواب ستالينغراد.
ليس في الأمر مبالغة. هم لم ينهاروا تماماً وما زالوا أقوياء عسكرياً لكنهم يقاتلون قتالاً تقهقرياً. للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع إسرائيل يصبح “جيش الدفاع الإسرائيلي”، كما يطلقون عليه، اسماً على مسمى. لم يعد يستطيع أن يخطط لهجوم، لحرب خاطفة وسهلة وقليلة التكاليف، ويخرج منها منتصراً. الأميركي نفسه الذي يوظّف إسرائيل كقاعدة عسكرية له بات عاجزاً عن خوض الحروب.
ما الذي يحصل؟
العالم يتغير. ثمة قطب يأفل ببطء وآخر يتقدم مقابله. المعسكر الأمبريالي الأميركي الصهيوني يتراجع. محاولاته في الهيمنة على مقدرات المنطقة وضرب حركات الاستقلال والصعود فشلت. رهاناته على تحويل منطقتنا إلى ساحة حرب عالمية تمخّضت عن واقع جديد مغاير لمخططاته. تقدّم محور المقاومة. بات يمتلك زمام المبادرة الاستراتيجية. انتقل من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
بات الإيراني في الجولان. يرصد تحركات العدو الصهيوني عبر منظار. كان يجابه في السابق من طهران. هذا التحوّل يجعل من إيران دولة مواجهة تقاتل في عمق يمتد لنحو 2000 كيلومتر. بالمقابل يقاتل الإسرائيلي وعمقه 12 كيلومتراً فقط تمتد من الحدود الأردنية إلى البحر المتوسط. هو في الشمال مهدد من حزب الله وفي الجنوب أخرجته جبهة غزة، وسوف تخرجه الضفة الغربية من قلب فلسطين المحتلة في ما لو تطورت الأحداث مستقبلاً إلى عمليات قتالية.
يكتسب هذا التحول أهميته من كون إيران جزءاً من الحرب ضد الولايات المتحدة في البحار الأساسية في المنطقة. هذا يجعلها جزءاً من إعادة صياغة العالم انطلاقاً من الجغرافيا الجديدة والتاريخ الجديد الذي سيكتب عندما تنتهي الحرب على سوريا قريباً. ستسجل إيران لاعباً أساسياً في عالم متعدد الأقطاب تكون فيه الصين الدولة الأغنى في العالم، وروسيا الدولة الأقوى بإرادة الحرب والسلم، بينما إسرائيل القاعدة العسكرية المتقدمة للولايات المتحدة لا تجرؤ على كسر القواعد.
لنراقب خطاب العدو الآن. هو يشتكي من أن المقاومة تخترق السيادة الإسرائيلية. دعاية الأنفاق و”درع شمالي” أحد الأمثلة على ذلك. يحذّر من أن حزب الله يحضّر للسيطرة على الجليل. يعلن أن إيران وحزب الله يحاولان التقدم باتجاه الجولان المحتل. جميع مناوراته دفاعية. أصبح همّه الاستراتيجي إخراج إيران وحزب الله من سوريا بعدما كان يطالب سابقاً بإسقاطهما.
على صعيد المعادلة الدولية ما الذي حصل؟ هناك مثل إيراني يقول “عندما تصطدم محاريثهم في الصخور تتناطح أبقارهم بالقرون”. اشتدّ الصراع القطري السعودي على السيطرة. ثمة خلاف حول من يسيطر على بقايا الإرهاب العالمي الذي كانوا يقودونه ضد دول أو مجموعات ثورية في العالم. هناك انقسام أوروبي أميركي أحد جوانبه اقتصادي، وفي جوانب أخرى تباين في دفة السياسة الدولية. الاتحاد الأوروبي نفسه بات موضع تساؤل.
يحدث للمرة الأولى منذ داريوس الثالث
على مدى 40 عاماً تكثفت مواجهات الجمهورية الإسلامية وقدراتها ومشروعها، وتجسدّت في النصر المحقق في سوريا. هذا الانتصار يعدّ خلاصة إرادة المواجهة في إيران مع ما تسميه بالاستكبار العالمي. بعد أكثر من سبع سنوات خرجت إيران من الحرب على سوريا رابحاً أساسياً وقوياً. استطاعت أن تسهم بفعالية في منع انتقال سوريا من معسكر الصديق والأخ الشقيق للقضية الفلسطينية إلى معسكر العدو.
هذا الأمر له تداعيات كبيرة جداً. هو يعني أن طهران تحوّلت إلى دولة مواجهة وأصبحت جزءاً من دول الطوق. القوات الإيرانية بأشكالها المختلفة باتت عملياً تتمتع بموقع استراتيجي قوي وهام شرق البحر الأبيض المتوسط.
هذا يحدث للمرة الأولى منذ داريوس الثالث خلال حقبة الصراع بين مملكة الفرس آنذاك والاسكندر المقدوني. هذا التحول الجيواستراتيجي والتاريخي سيجعل طهران قطباً أساسياً في النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب على حساب الأحادية الاميركية التي هُزمت من البوابة السورية.
استطاعت إيران في هذه الأثناء أن تحدّ من حرية الحركة الأميركية في البحار الثلاثة: البحر الأحمر وبحر العرب والخليج. السدود النارية التي وضعتها صدّت أميركا من دون أن تشتبك معها بشكل مباشر، ومنعتها من الهيمنة على المياه كلاعب أوحد من دون منازع.
لكنّ الأهم من ذلك أنها منعتها طوال 40 عاماً من أن تدخل أراضيها أو مياهها الإقليمية. لم تسمح لها بالتأثير في قراراتها السياسية والأمنية، ولا في قرارتها الاقتصادية والاجتماعية رغم الضغط الهائل في هذين الجانبين.
أكثر من ذلك ظهرت قوات المارينز عام 2016 مذلولة في قبضة الحرس الثوري الإيراني، ولم يستطع الأميركي أن ينقذ ضباطه من هذا المشهد التراجيدي.
العقل الإيراني العميق يتجه شرقاً
العقل الإيراني العميق يتجه بقوة ناحية الشرق. سياسياً وعسكرياً باتجاه روسيا، واقتصادياً وتجارياً ناحية الصين. أي تحالف جدي اقتصادي عميق بين طهران وبكين هو الضمان لمشروع طريق الحرير. مبادرة “الحزام والطريق” الصينية تبدأ من شنغهاي وتنتهي في المياه الدافئة مروراً عبر أوراسيا، القوقاز، آسيا المركزية، وإيران. طهران نقطة تقاطع التاريخ والجغرافيا على صعيد البحار وطرق التجارة البرية. سيحيي المشروع الصيني موانئ كثيرة من جملتها ميناء جابهار في أفغانستان. سيصبح لميناء اللاذقية دور كبير على صعيد المنطقة.
هذه المشاريع العملاقة تعتمد على إيرادات سياسية أصبحت دول حلف المقاومة المناهضة للأحادية الأميركية تلعب دوراً أساسياً في صياغتها. ربطاً بهذه المشاريع سيكون لإيران دور هام. الصين موجودة حالياً في كل شبر من الجغرافيا الإيرانية. كل ما تخلى عنه الأوروبيون خوفاً من العقوبات الأميركية حلّ مكانه بديل صيني ناجح له علاقات قوية، ليس فقط مع الحكومات الإيرانية التي تتبدل عادة، بل مع الدولة العميقة في الجمهورية الإسلامية.
أنظمة تغرق
في سياق المواجهة الأميركية مع إيران، شهد العام الماضي عدداً من العمليات والأحداث الأمنية التي حاولت اختراق المناعة الإيرانية ويقال إنها نجحت في أماكن. بحسب ما عبّرت عنه مواقع مناوئة للنظام الإيراني دلّت هذه العمليات على ضعف السلطة من جهة والقدرة على مشاغلتها أمنياً من ناحية أخرى.
لكن من ناحية واقعية أثبتت هذه الأحداث مدى قوة إيران. المجموعات التي استهدفتها هي مجرد أدوات صغيرة لدى أميركا بنظر الدولة الايرانية.
أما العمليات فلم تحقق أي أمر سوى قتل مواطنين وجنود كما حصل خلال الاحتفال العسكري في الأهواز أو استهداف حرس الحدود، لكن لم تمس العمليات أي مؤسسة حيوية. حتى عندما اقتحمت داعش البرلمان ومرقد الإمام الخميني لم تحقق شيئاً وأبيدت خلال المحاولة، في حين استطاع الإيراني أن يخرج خارج الحدود ويحقق إصابات صاروخية مباشرة في صفوف هذه المجموعات. رسالته وصلت.
في حالة الدفاع عندما تمنع العدو من تحقيق أي هدف من أهدافه الأساسية فأنت المنتصر، فهل سقط النظام؟ هل حصل خلل أمني كبير؟ هل ضربت العملية الاقتصادية أو تم شل الموانئ والمطارات؟ على العكس النظام بات أقوى.
على صعيد العقوبات الاقتصادية، هي فشلت في مهدها. زعموا أن كل صادرات النفط سيتم تصفيرها ابتداء من تشرين الثاني نوفمبر 2018. لم يتحقق ذلك وتم توقيع اتفاقيات تصدير جديدة. الأوروبيون الذين عوّل عليهم الأميركي في الحصار باعتبارهم حليفاً له في الناتو، خرجوا يبحثون عن آلية تتجاوز إطار التداول بالدولار الذي يسيطر على الاقتصاد العالمي.
حتى عندما شغلهم في مهمة محاولة فرض التفاوض مع الإيرانيين على ملفات أخرى مثل المنظومة الصاروخية، ودعم حركات التحرر في فلسطين والمقاومة في لبنان، إضافة إلى ملف حقوق الإنسان كملحق إضافي للموضوع النووي، فشل الأميركي في ذلك أيضاً نتيجة تمنع الدولة الإيرانية وتفلتها بنجاح من الوقوع بأفخاخ مخطط التسويات السياسية الأوسع.
الميزان التجاري الإيراني ازداد بين 13 و15 في المئة عن العام الماضي.
بالنتيجة فشل مشروع العقوبات بتأثيراته المستهدفة كما فشل مشروع “الناتو العربي”. تحوّل الأخير إلى اجتماع فقير وبائس بقيادة إسرائيلية من إحدى قواعد تل أبيب في أريتيريا. أبدلوا اسمه من “الناتو” إلى “الدول المطلة على البحر الأحمر” بعدما أخفقوا في ضم المغرب والأردن والدول العربية مجتمعة إلى جانبهم ضد إيران.
أما صفقة القرن فأظهرت هشاشة نتنياهو. بات الأخير يستعين فيها ويطلب من محمد بن سلمان اجتماع قمة برعاية ترامب لإنقاذ نفسه. يحاول الاستعانة ببعض حكام الخليج ليبقى في السلطة خارج القضبان. يكفي أن نقرأ لبعض الكتاب الإسرائيليين وفي مقدمتهم آري شافيط حتى نختصر الواقع الإسرائيلي. يقول إن إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة. يجب أن نذهب إلى سان فرانسيسكو وبرلين، والقول له، ومن هناك ننظر إلى حلمنا الذي يتهاوى.
لكن ألا يعد إنجازاً يحسب لإسرائيل أن تجاهر دول عربية وإسلامية بمواقف غير مسبوقة لصالح المشروع الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية؟ وأن تمضي في تطبيع العلاقات معها؟
يصح ذلك لو كانت الدول المقصودة قوية وفاعلة في المشهدين الإقليمي والدولي. لكن هذه الأنظمة تغرق الآن. محمد بن سلمان سيخرج من معادلة الحكم حتى عند أصدقائه التاريخيين. هو مدان في الكونغرس الأميركي ووضعه ليس أفضل حالاً من وضع نتنياهو. لن يستطيع أن يحمي عرش والده كما يريد ولن يصبح هو ملكاً بالحد الأدنى. مؤتمر المعارضة السعودية الذي نُظم أخيراً في لندن يشبه الظروف التي أحاطت بالمعارضة العراقية قبل سقوط صدام حسين. قرار الدولة العميقة في واشنطن إضافة إلى الحكومة البريطانية بدعم أحمد بن عبدالعزيز يعبّر عن مشروع بديل للفرع السلماني داخل الأسرة السعودية، وربما يترجم هذا الحراك في وقت قريب.
السعودية إلى أين؟
طرح مقال للصحافي السعودي تركي الدخيل المقرب من ولي العهد في صحيفة الشرق الأوسط أسئلة تتعلق بواقع السعودية، بعلاقتها مع كل من واشنطن وإيران، كما بمناعتها وقوتها واستقلالها عن القرار الأميركي. في المقال المذكور الذي تخلّل الأزمة الناجمة عن مقتل الصحافي جمال خاشقجي، طرح الدخيل مجموعة من الإجراءات التي يمكن للسعودية أن تتبناها ضد واشنطن وعدها مراقبون بمثابة تهديد.
هل تملك السعودية فعلاً هذه الأوراق القوية التي لوّحت بها ومن ضمنها سحب استثماراتها من أميركا والتلاعب بأسعار النفط وتبديل تحالفاتها؟ صراعها مع إيران من هذا المنطلق هل هو صراع جيوسياسي تفرضه قوانين السياسة والجغرافيا أم أن الرياض مجرد تابع لواشنطن تتذرع بالخطر الإيراني للتغطية على استتباعها للإرادة الأميركية؟
باختصار شديد المملكة تحكم منذ مدة من السفارة الأميركية في الرياض والنظام الأمني المحيط بشركة “بلاك ووتر” بهدف إبقاء محمد بن سلمان ولياً للعهد وسلمان حاكماً. عندما سيتم الضغط على ترامب بحيث يشعر أن صهره كوشنير مهدد وأنه يمكن أن يغرق معه سيتخلى عن العهد السلماني وسيتجه إلى سعودية من نوع جديد.
بالتالي هذه الأوراق لا تملكها السعودية مطلقاً، وإرادة التحول من المعسكر الأميركي إلى المعسكر الروسي أو حلف المقاومة تساوي صفراً.
لو كان صحيحاً أنها دولة تتمتع بسيادة لكانت لبّت نداء متكرراً من الإيرانيين للحوار، لكنها لا تستطيع أن تحاور إيران بإرادة أميركية.
ماذا عن اليمن؟ ألم تشكل تهديداً للسعودية بدعم إيراني؟
هم يعرفون أن لا وجود للإيرانيين هناك، ولأنهم يعرفون فهم يكذبون. هم أرادوا التخلص من اليمن والهيمنة على منطقة الخليج كلها لصالح الفكر السلماني الجديد. فشل هذا المشروع أدى للخروج من نفق السلمانية إلى واحة جديدة لكل المنطقة خالية من الاستعمار الأميركي المباشر. من يدعونهم انقلابيين أصبحوا الآن نتيجة صمودهم الاسطوري قوة شرعية معترف بها دولياً وشريكاً أساسياً في أي مستقبل سياسي.
لم يعد الأميركي سيّد قرار الحرب هناك. اتخذت الدولة العميقة في واشنطن قراراً بإنهائها لا لدواعي إنسانية إنما بسبب كلفتها المرتفعة. سيكون لهذا الأمر تبعات خطيرة على المشروع الأميركي في المنطقة. من تداعيات هذا الإخفاق أن كل محاولات جعل الإسرائيلي سيّداً على البحر الأحمر باءت بالفشل. الأميركي من ناحيته لم يعد لاعباً سهل الحركة ولم يعد بإمكانه أن يسيطر بقوته العسكرية ويفرض إرادته السياسية.
الميادين
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73