تركيا والخيارات الصعبة في سوريا
سركيس أبوزيد
قرار الإنسحاب الأمريكي من سوريا أطلق سباقا وتنافسا كبيرا على ملء الفراغ في شرق الفرات بين اللاعبين على الساحة السورية، وأعاد الى طاولة المفاوضات مشروعا تركيا عمره أربع سنوات لإقامة منطقة آمنة في الشريط الحدودي المحاذي لتركيا، فالمنطقة الآمنة أو العازلة التي يطمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إقامتھا شمال شرقي سوريا على غرار المنطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، والتي كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اقترح إقامتھا، وسارع أردوغان الى تلقف ھذا العرض معلنا أن قواته ستتولى إقامة ھذه المنطقة بين الحدود التركية ومواقع “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تدعمھا واشنطن، وتقتضي الخطة التركية بأن يمتد عمق الشريط الأمني الى 32 كلم، بطول 460 كلم من جرابلس الى كردستان العراق.
في المقابل سارعت موسكو الى رفض ھذا الإقتراح وأعلن وزير خارجيتھا سيرغي لافروف أن الحل الوحيد والأمثل ھو نقل ھذه المناطق الى سيطرة الحكومة السورية. لكن، الخطة الروسية لا تنسجم مع الخطة الأميركية لأن موسكو تدفع في اتجاه إغلاق ملف إدلب أولا، وفي اتجاه عودة دمشق الى الحدود مع تركيا، وقيام حوار بين دمشق والأكراد الذين قدموا الى موسكو خريطة طريق تتضمن مطالبتھم بـ”إعتراف دمشق بالإدارة الذاتية” شمال شرقي البلاد ودستور جديد يضمن المشاركة في الثروات الطبيعية وإلغاء الإجراءات التمييزية مقابل إعترافھم بـالرئيس بشار الأسد ومركزية الدولة وحدودھا وعلمھا وجيشها.
عودة مشروع “المنطقة الآمنة” الى الواجھة، أطلق مفاوضات أميركية ـ تركية من جھة، وروسية ـ تركية من جھة ثانية، وبين الأكراد ودمشق وموسكو من جھة ثالثة، للوصول إلى ترتيبات عسكرية وإدارية شمال شرقي سوريا. والتي تمحورت حول:
ـ عمق المنطقة، أنقرة تريدھا بعمق 32 كيلومترا أكثر مما سمح به “إتفاق أضنة” بين دمشق وأنقرة في العام 1998، وبموجبها تسمح لتركيا دخول الأراضي السورية عند حدوث أمور سلبية تهدد أمن تركيا. وهذا ما أشار إليه الرئيس التركي، مؤخرا، إلى أن “ما يجري في حدودنا مع سوريا وراءه حسابات تتعلق بتركيا وليس بسوريا”.
واشنطن وافقت مبدئيا على 10 كيلومترات، وموسكو إقترحت أن يكون العمق بين 5 و 10 كيلومترات وأن تكون “منطقة عازلة” من دون حظر جوي، فيما طالب الأكراد بـ”حظر جوي” وبأن تكون المنطقة في الطرف التركي من الحدود وتحت إشراف الأمم المتحدة.
ـ وجود الجيش السوري: ترفض أنقرة أي وجود للقوات السورية وتقترح إنتشار قوات “بيشمركة” من كردستان العراق، فيما تتمسك موسكو بعودة كاملة لسلطة الحكومة على ھذه المناطق. أما الأكراد فاقترحوا انتشار الجيش السوري على الحدود وتعاونا مشتركا ضد أنقرة. بالإضافة إلى بـ”الإدارة الذاتية” وشراكة في الثروات الطبيعية وبرنامج لإدماج “الوحدات” و”قوات سوريا الديمقراطية”” في الجيش الوطني.
ـ مصير الأكراد: ترامب طالب أردوغان بضمان حماية الأكراد بعد إنسحاب أميركا، فيما يعتبر أردوغان أن “وحدات حماية الشعب” لا تمثل كل الأكراد. أما موسكو، فتتمسك بالوصول إلى ترتيبات تتضمن مصالح وحماية الطرفين: تركيا والأكراد.
في الواقع هناك صعوبة في إقامة “منطقة آمنة” فليس الأمر سهلاً كما تتصوره تركيا وذلك لعدة أسباب:
ـ يجب إقناع روسيا وإيران والولايات المتحدة والكثير من أعضاء المجتمع الدولي بذلك، خصوصا أنه ليس لدى تركيا الوسائل لإقناع “قسد” ” بالإنسحاب سلميا من مناطقھم.
ـ لن تكون ھناك منطقة آمنة إلا باتفاق أميركي ـ روسي، وھذا متعذر بسبب غياب أي مؤشرات الى تفاھم بين الدولتين، فكل واحدة منھما تريد تركيا شريكة لھا، وبشروطھا.
ـ لن تكون ھناك “منطقة آمنة” لأن الأكراد يرفضونھا ويطالبون بمنطقة حدودية عازلة يشرف عليھا الأميركيون أو قوات فصل تابعة للأمم المتحدة، ولأن ھذا الإقتراح يبقي حلمھم بـ”دولة ” أو كيان خاص بھم، إلا أنه يتطلب إستعدادا غير متوفر لدى المجتمع الدولي لتخصيص جنود وأموال ومعدات على طول 460 كيلومترا الى أمد غير محدد.
ولكن، وفي وقت يتم التفاوض في شأن “المنطقة الآمنة”، فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أردوغان في لقائھما الأخير بتقديمه عرضا بديلا عن “المنطقة الآمنة”، وھو تفعيل “إتفاقية أضنة” الموقعة بين تركيا وسوريا في العام 1998، بما يعطي أنقرة الحق بملاحقة “حزب العمال الكردستاني” لعمق 5 كيلومترات شمال سوريا، ويوفر تغطية قانونية لوجودھا الذي تعتبره دمشق غير شرعي ومنتھكا للسيادة، كما أنه يوجب على طرفي الإتفاق إنھاء القطيعة بينھما والعمل معا وعدم قصر تواصلھما على القنوات السرية.
ولكن ھناك عدة إشكاليات تواجه تنفيذ “إتفاقية أضنة”:
ـ الإتفاقية لن تقدم ولن تؤخر لأن مداھا محدود وتطبيقھا العملي يتطلب من الجانبين فتح ملفات عديدة وذلك لن يكون بالسهل.
ـ تركيا تفضل إقامة “منطقة آمنة” في الشمال السوري كحل أفضل من إعادة تفعيل اتفاق أضنة، خاصة أن أنقرة تعتبر ھذا الاتفاق القديم مع سوريا خارج إطار المفاوضات بين روسيا وتركيا.
ـ إشتراط النظام السوري لإحياء “إتفاقية أضنة” سحب تركيا قواتھا من شمال غرب سوريا، وتوقفھا عن دعم مقاتلي المعارضة.
ـ الإتفاقية تكفل بقاء روسيا وحيدة في المشھد السوري بعيدا عن أي شريك دولي أو إقليمي، وتعطيھا أولوية الھيمنة على مآلات ملء الفراغ الأميركي شرق البلاد، إضافة إلى تقويض أھداف أنقرة في إنشاء منطقة آمنة على الحدود مع سوريا. كما أن مصير شرق الفرات سيكون مرتبطا بمصير إدلب والإتفاق بين روسيا وتركيا، ما يفتح الباب لمقايضة بين شمال شرقي سوريا وشمالھا الغربي.
طرح روسيا لـ”إتفاقية أضنة” ھو محاولة لمحاصرة المشروع التركي التوسعي في سوريا. وفي حال تطبيقھا، تكون موسكو قد فرضت الأمر الواقع على تركيا وأميركا وحلت أزمة عالقة برضى تركي، عبر إبعاد أنقرة عن ھدفھا في إنشاء “منطقة آمنة”، وفتح المجال أمامھا عبر “إتفاقية أضنة” من أجل التدخل في أي وقت تواجه فيه تھديدا أمنھا القومي عبر الحدود مع ضمان عودة قواتھا إلى مواقعھا داخل الأراضي التركية.
في المقابل، يتردد، وفي إطار المقايضة، واستنادا إلى موافقة أميركية مسبقة، أن الحدود التركية ـ السورية ستكون آمنة كما يرغب أردوغان الذي سيُعطى على الأقل حق الإشراف الدائم والتفتيش وفق الحاجة للحفاظ على صفة الأمان تلك. لكن المكسب الأردوغاني الأدنى من مستوى الھيمنة سيرتّب على الزعيم التركي أن يقبل بحكم ذاتي كردي في شرق الفرات وبعيدا من الحدود، يكرر في سوريا تجربة الحكم الذاتي العراقي الممنوع من صيغة الدولة بل حتى صيغة الكانتون.
من الواضح أن لقاءات الثلاثي الروسي ـ التركي ـ الإيراني تنتقل من التحكُّم بمسار الأحداث في مناطق محددة، إلى تطبيق مقايضات على مساحات أكبر في سوريا وفي العراق، وسيكون التطبيق الأبرز في شمال سوريا بما في ذلك “المنطقة الآمنة” والحكم الذاتي الكردي وإعطاء إدلب إلى النظام بعد تطھيرھا من “النصرة”.
واجتماع زعماء روسيا وتركيا وإيران في قمة سوتشي مؤخراً تناول التسوية السورية، حيث تصدرت أجندتها الوضع في إدلب وتداعيات قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، وإطلاق عمل اللجنة الدستورية السورية، حيث اتهم روحاني الولايات المتحدة بمواصلة “دعم الإرهابيين في العراق وسوريا”، وأبدى استعداد إيران وبمساعدة روسيا للتوسط بين أنقرة ودمشق.
ولفت إلى أنه على الأميركيين أن يعلموا أن الكرد جزء من الشعب السوري، وإلى ضرورة الاهتمام بالكرد السوريين لإعادتهم إلى الدولة، منوهاً إلى أن دور الولايات المتحدة لم يكن يوماً إيجابياً “وعليها أن تدرك أن الطريق الذي اختارته لدخول المنطقة خاطئ”.
وأضاف أن الأراضي السورية كافة يجب أن تكون تحت سيطرة الحكومة الشرعية سواء في إدلب أو مناطق شرق الفرات، وشدد على ضرورة وجود الجيش السوري على الحدود السورية ـ التركية.
كما أكد بوتين أن الأراضي السورية كافة يجب أن تكون تحت سيطرة الحكومة الشرعية سواء في إدلب أو مناطق شرق الفرات. في نفس الوقت أعربت موسكو عن “تفهم” لوجود مصالح أمنية تركية في الشمال السوري تتعلق بمكافحة الإرهاب، مشددة على ضرورة أن تحترم أنقرة وحدة الأراضي السورية وألا تكون لها أي أطماع إقليمية هناك. لكن السؤال هنا، بين “المنطقة الآمنة” و”إتفاقية أضنة” ماذا تختار تركيا؟! أو ماذا سيُفرض عليھا أن تختار؟!
العهد
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73