ما بعد الحرب هو الحرب
د.عقيل سعيد محفوض
وقعت الواقعة في هذا البلد المشرقي الجميل في آذار/مارس من عام 2011، وبعد مرور ثماني سنوات على اندلاع الحرب، يجب التحسُّب من أن تؤدي الأمور في المنطقة الجنوبيّة إلى “إعادة إنتاج” الحرب من المكان نفسه الذي بدأت فيه، ولو أنَّ ثمة قابلية أو احتمالاً لحدوث ذلك –أي إعادة إنتاج الحرب– في غير مكان من سورية.
إذ رغم أنَّ التطورات جلت الكثير من غموض ما حدث عام 2011، وكشفت عن تداخل وتدخل عوامل وفواعل لا حصر لها تقريباً، في الداخل والخارج، إلا أنّ الحدث السوريّ لا يزال ملتبساً ولا يقينياً، وحتى اليوم لم يمكن التوصل إلى ميزان واحد لتقدير الأمور، لا بين السوريين ولا بين المعنيين بما يجري في سورية.
ثمة خلافية حادة بين فواعل الحدث السوريّ قد لا تجدها على هذا النحو في أحداث أخرى. الخلافية تسم كل شيء تقريباً في المشهد السوريّ، والمفارقة أنك لا تجدها بين الأطراف والفواعل على جانبي الحرب فحسب، وهذا أمر مفهوم، وإنما داخل كل طرف أو فاعل تقريباً، تجدها على مستوى فواعل السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة وديناميات الحكم في سورية، حول السبل المناسبة أو الممكنة لخوض الحرب والانتصار فيها، وتجد مثل ذلك وأكثر داخل فواعل صنع السياسة لدى الحلفاء في موسكو وطهران، ولدى الخصوم في واشنطن ولندن و”تل أبيب”، وقد تجد شيئاً من ذلك لدى خصوم آخرين، مثل: أنقرة والرياض وباريس وغيرها.
يتعقد المشهد مع كلِّ انفراج يلوح، لا تأزّمَ تامٌّ ولا انفراجٌ، حالة بين-بين، ما يجعل تقدير المسارات المحتملة أمراً أقرب للاستحالة. هذا الواقع الثقيل عبَّر عنه الرئيس بشار الأسد بكثير من الوضوح والصراحة، قال في كلمة له أمام مسؤولي الإدارة المحلية:
“علينا أولاً ألا نعتقد خطأ كما حصل خلال العام الماضي أنَّ الحرب انتهت. وأقول هذا الكلام ليس للمواطن فقط، أيضاً للمسؤول، نحن نحب بطبعنا أحيانا العنتريات. وكأن الحرب أصبحت من الماضي. ولدينا الرومانسية أحياناً أننا انتصرنا”.
إنَّ ما أفصح عنه الرئيسُ بشار الأسد، ربما يكون جزءاً مما وجد أن من المناسب الإفصاح عنه، وهو إذ يشير إلى خطأ لدى المسؤولين في تقدير الموقف قبل عام، فإنه يحذّر من أنَّ الحرب مستمرة ولا نهاية قريبة لها، وأنّ ما بعد الحرب هو الحرب، إلا أن المُضمر في خطابه –وهذا مجرد تقدير مني، ولا يستند إلى معلومات يقينية، ولا يعبّر عن موقف سياسيّ– هو أنَّ ثمة عوامل ضغط إضافية على سورية لم تكن متوقعة، وتأتي هذه المرة ليس من تقلّب المواقف الدوليّة من الحدث السوريّ فحسب، وإنما من تغيّر في نمط وإيقاع العمل مع الحلفاء وقراءتهم لما يمثل مصلحة لهم في المشهد السوري أيضاً.
قال الرئيس بشار الأسد: إنَّ الجيش السوري لا يزال “يخوض حروباً”، يتعين الانتهاء منها قبل الانتقال للنقطة الرئيسة التالية، ألا وهي “الحصار الذي تفرضه دول أجنبية”. أمران متداخلان يمثل أحدهما شرطاً للآخر، الأول هو الانتهاء من الحروب، والثاني هو فك الحصار.
إنَّ ثمة مساحات واسعة من الجغرافيا السورية لا تزال تحت سيطرة قوى معادية، كما في محافظة إدلب ومناطق من ريف حلب حيث تسيطر تركيا والميليشيات الموالية لها، وفي شرق الفرات حيث تسيطر الولايات المتحدة والميليشيات الموالية لها. ولا تزال لدى “إسرائيل” أجندة ورهانات مركبة في المنطقة الجنوبية بصورة رئيسة. وأقرب حليفين لسورية، وهما روسيا وإيران يقيمان “علاقات لا مثيل لها مع تركيا”، وهي ألدّ أعداء سورية.
إنَّ “إنهاء الحرب” و”فك الحصار” يتطلبان إسهاماً ودعماً من الحلفاء، وبخاصّةٍ روسيا وإيران، لكن يبدو أنَّ جانباً من الأزمة يكمن هنا، ذلك أن الحليفين المذكورين مع تزايد الضغوط عليهما أخذا يقاربان الأمور بكيفية مختلفة، ليبدو موقف كل منهما مع تركيا مثلاً أهم من موقف الأخيرة في إدلب وتجاه الحدث السوريّ ككل. ويمكن وضع الموقف في شرق الفرات والمنطقة الجنوبية في الميزان نفسه تقريباً، حيث تحضر تركيا و”إسرائيل” هناك أيضاً. وأما “الحصار” فإنَّ الحديث فيه مُحرِج بعض الشيء، إذ كيف يمكن إيصال مختلف أنواع السلاح إلى داخل سورية، ويتعذر إيصال موارد الطاقة مثلاً، هذا على افتراض أنَّ أزمة الطاقة هي نتيجة محض للحصار.
لا يخفى أنَّ سورية تكابد أنماطاً مستجدة؛ بل متزايدة من الضغوط، لم تكن واضحة أو ظاهرة بهذا القدر التي هي عليه اليوم، إذ ثمة هواجس متزايدة لدى المتلقي السوريّ من رهانات والتزامات روسيا في المنطقة الجنوبية، وموقفها من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مواقع عسكرية وبحثية في سورية، ومثل ذلك تجاه ملف إدلب، ومثله الضغوط في موضوع اللجنة الدستورية. وتمثل رهانات إيران مصدر هواجس أيضاً، الأمر الذي يتطلب المزيد من التواصل الصريح والعميق على هذا الصعيد، بما يساعد في جلاء المواقف والسياسات، وتأكيد الثوابت والمتغيرات في كل ما يجري.
إنَّ كلَّ دور للآخر في حرب وجودية من نمط الحرب الدَّائرة في بلدنا وعليه، لا بد أن تكون له تداعيات ثقيلة على طبيعة المجتمع والدولة لما بعد الحرب، حتى لو كان ذلك الآخر حليفاً. وهذا لا يقلل من تقدير وامتنان وتبجيل السوريين لكل قطرة عرق أو نقطة دم بذلها أخوة وأصدقاء وشركاء كرام في الدفاع عن بلدهم. وكانوا ولا زالوا أهل الوفاء والعطاء. وليس في مدارك السياسة لدى السوريين أيّ وهم بأن الأعداء والحلفاء، لكل منهم ميزانه وتقديراته وأولوياته، وأن لا شيءَ بلا ثمن، لا في ميزان الأرض ولا ميزان السماء.
يبدو أنَّ الأمر اليقينيَّ الوحيد تقريباً في المشهد السوريِّ هو أنَّ الحرب سوف تستمر، وسوف يستمر السوريون في مقاومة كلِّ أنماط الحروب الدائرة في هذا البلد المشرقيّ الجميل، لا نتحدث عن “حرب بين الحروب” كما يصفها الإسرائيليون وحلفاؤهم، إنما عن حروب تُولِّدُ حُروباً، فصول تعقبها فصول، سيولة فواعل وأحداث لا حصر لها تقريباً، ومن ضمنها مكابدة تزايد الضغوط الخارجية والداخلية، وتزايد إخفاق جانب كبير نسبياً من السياسات في بلد منكوب بالحرب، وببعض فواعل السياسة فيه قبل أعدائه!
مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات