الإنفاق العسكري يدخل أميركا طور الانحدار
فارس الجيرودي
لعلّ الإجابة على سؤال مَن يحكم أميركا؟ هو أحد أكثر الأسئلة صعوبةً، فنظام صنع القرار في الولايات المتحدة، من أعقد أنظمة الحُكم في التاريخ التشريعي البشري، فهو يشبه وحشاً مُتعدّد الرؤوس، إذ أن الدستور الأميركي من الدساتير النادرة التي تسمح لكل مجموعة ذات مصلحة اقتصادية أو توجّه سياسي أو اجتماعي مشترك، أن تكوِّن «لوبي» خاصاً بها في مجلسي النواب والشيوخ، لممارسة الضغط على صانع القرار بما يخدم توجّهها ومصلحتها
«يجب علينا الاحتراس من النفوذ الذي لا مبرّر له، سواءً كان بطلب أو بغير طلب، من المجمّع الصناعي العسكري» الرئيس الأميركي”دوايت دي. أيزنهاور” في خطابه الوداعي للأمّة في 17 كانون الثاني 1961.
لعلّ الإجابة على سؤال مَن يحكم أميركا؟ هو أحد أكثر الأسئلة صعوبةً، فنظام صنع القرار في الولايات المتحدة، من أعقد أنظمة الحُكم في التاريخ التشريعي البشري، فهو يشبه وحشاً مُتعدّد الرؤوس، إذ أن الدستور الأميركي من الدساتير النادرة التي تسمح لكل مجموعة ذات مصلحة اقتصادية أو توجّه سياسي أو اجتماعي مشترك، أن تكوِّن «لوبي» خاصاً بها في مجلسي النواب والشيوخ، لممارسة الضغط على صانع القرار بما يخدم توجّهها ومصلحتها، وبقي هذا النظام يسير متوازناً إلى حدٍ ما حتى الحرب العالمية الثانية، حين تضخّمت المصالح الاقتصادية المرتبطة بشركات صنع السلاح في الولايات المتحدة، وتزايد تأثيرها على آليات السلطة.
ليظهر مُصطلح المجمّع الصناعي العسكري في أميركا military–industrial complex لأول مرة، على لسان الرئيس الأميركي آيزنهاور، الذي استخدم هذا التعبير في إشارة إلى النظام الذي يدعم تسليح القوات المسلحة الأميركية، والمؤلّف من مثلّث حديدي، أضلاعه البنتاغون «وزارة الدفاع» وشركات صنع السلاح والمشرّعون من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، والذين يضمنون الموافقة على قرارات الإنفاق العسكري، ويضغطون على الرئيس من أجل التوقيع عليها.
تاريخياً وفي حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الدولة الأميركية هي مَن تمتلك شركات صنع الأسلحة، وهي مَن تشرف على كل عمليات دعم الجيش وتزويده بكل ما يحتاج إليه من إمدادات لوجستية، لكن مع تطوّر تكنولوجيا صنع السلاح وتعقّدها، ومع تصاعُد السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في الدول الغربية، والاتجاه نحو «الخصخصة»، بدأت الحكومة الأميركية بإسناد عملية تطوير الأنظمة التسليحية بمستوياتها المتعدّدة، التي تبدأ من الأبحاث وتنتهي بتصنيع قطع السلاح والذخائر إلى الشركات الخاصة، التي تمتلك معظمها قيادات سابقة في الجيش الأميركي، وهنا بدأت واحدة من أكبر عمليات الفساد في التاريخ، حيث ظلّت هذه العقود تتضخّم وتستهلك أجزاء أكبر من الميزانية الفيدرالية الأميركية، رغم كل محاولات كبح ذلك التضخّم.
ففي العام 1977، وفي أعقاب حرب ڤيتنام، بدأ الرئيس الأميركي “جيمي كارتر” ولايته، بما أطلق عليه المؤرّخ “مايكل شري” التصميم على «كسر الماضي العسكري الأميركي»، إلا أن العودة إلى نهج الإنفاق العسكري المتضخّم في عهد الرئيس “رونالد ريغان” مثّل عودةً لهيمنة المجمّع العسكري الصناعي.
وبدلاً من أن يتقلّص الإنفاق العسكري بعد أفول الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتحدة بإدارة النظام الدولي من دون منافس، في عهد الرئيسين “جورج بوش” الأب و “بيل كلينتون”، حدث العكس تماماً، ففُتِح الباب على مصراعيه لمقاولي الأسلحة والاستخبارات وحلفائهم في مراكز صنع القرار، إذ أصبحت العقود أكبر ومُحتكرةً في يد عدد قليل من الشركات المُهيمنة، كما بدأ تطوير نوعيات جديدة من الأسلحة، لا يُراد منها الاستجابة لتهديدات حقيقية،«في عصراختفت فيه هذه التهديدات تقريباً»، بل صار الهدف الحقيقي لعملية صنع السلاح هو تحريك عجلة الاقتصاد، وتحقيق الأرباح لملاّك أسهم شركات التصنيع العسكري ذات الملكية الخاصة، وهكذا تمّ توقيع عقود عسكرية خيالية، من دون مبرّرات حقيقية .
في هذا السياق ظهر مشروع طائرة “الإف- 35” والتي كلّفت ميزانية الدولة الأمريكية مبلغاً أسطورياً «1.2» تريليون دولار، من دون أن يمتلك هذا الطراز ما يميّزه عن أسلافه من طائرات الفانتوم، لا في القدرة على حمل أسلحة أكثر، ولا الطيران لمدى أبعد، ولا إمكانية تحميلها ببودات تشويش الكتروني أفضل، بل كانت ميزتها الأساسية هي «الشبحية»، أي عدم قدرة الرادارات المُعادية على التقاطها، وهو ما ثبت لاحقاً أنه غير دقيق، فالرادارات تلتقط هذه الطائرة، لكن ببصمة رادارية أصغر، أي أنها تظهر أصغر على شاشة الرادار، لكنها تظهر في النهاية، لاحقاً تمكّنت كل من الصين وروسيا، الدولتان التي صُمّمت الطائرة لاختراق مجالهما الجوي، من تطوير رادارات ثلاثية الأبعاد، يمكنها رصد “الأف 35” بدقة.
وليست “الأف 35” نموذجاً فريداً، إذ علّق الكاتب الأميركي الشهير “غاري بريكر” على مهمة طائرة أخرى، كلّفت عقود تصنيعها مئات المليارات من الدولارات من دون مبرّر عسكري حقيقي يفرض ذلك، هي قاذفة “البي-2” الاستراتيجية، يقول بريكر: «سبب وجود هذه الطائرة الحقيقي، هو نقل الثروة من الحكومة إلى مالكي الأسهم في شركات السّلاح».
كما شكّلت الحروب المتنقّلة حول العالم، والتي بدأها جورج بوش الإبن إثر الحادي عشر من أيلول 2001 ، مجالاً آخر لا ستنزاف جيوب دافعي الضرائب الأميركيين لصالح شركات السلاح، بل ظهرت نتيجة هذه الحروب مسارب أخرى للإنفاق العسكري، تمثّلت في الشركات الأمنية الخاصة مثل “بلاك ووتر” والتي أمّنت جيوشاً من المرتزقة للقتال مع الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان، وذلك مقابل عقود مالية ضخمة.
لذلك لم يكن غريباً أن تتحوّل الولايات المتحدة بسبب الإنفاق العسكري الخيالي المُتزايد إلى أكبر دولة مديونة في العالم، حيث وصلت ديونها إل 22 تريليون دولار مع نهاية العام 2018، رغم أنها صاحبة الموارد الأكبر والاقتصاد الأضخم في العالم، فكان لعملية النهب المنظّمة تلك أثرها على خفض مستوى المواطن الأميركي العادي، وعلى تقادم البنية التحتية الأميركية، وحتى ترامب الذي جاء بوعد الحد من الإنفاق العسكري، وصرف الأموال على تجديد البنية التحتية، وعلى دعم الصناعات الإنتاجية الأخرى التي توفّر فرص عمل أكثر، اضطر أخيراً نتيجة الضغوط عليه من مراكز الدولة الأميركية العميقة، لإقرار ميزانية عسكرية هي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة وفي التاريخ البشري كله، بقيمة 700 مليار دولار.
وربما ما كان كل ذلك ليشكّل مشكلةً خطيرةً بالنسبة للنظام الذي تديره النخبة الرأسمالية الأميركية الحاكمة، طالما ثروات هذه النخبة تتضخّم، لولا أن هناك منافساً على الساحة الدولية هو الصين استطاع أن يحقّق قفزات اقتصادية وتكنولوجية مبهرة، وأن يكسر الطوق الذي حاولت قوانين وتشريعات حماية الملكية الفكرية، أن تقيّد به تطوّر عملية الإنتاج الصينية، بحيث لا تخرج عن نطاق الصناعات التقليدية البسيطة، لتقتحم الصين مجال الهواتف المحمولة وتقنيات نقل المعلومات وصناعة الطائرات والسيارات.
كما أن الصين بفضل قدراتها الاقتصادية الضخمة، وحجم اقتصادها الذي يقترب من تجاوز حجم الاقتصاد الأميركي، باتت قادرةً على تخصيص ميزانيات محترمة لتطوير أسلحة فعّالة، تهدّد التفوّق العسكري الأميركي، لكن من دون تكاليف وعقود خيالية كتلك التي هوت بالاقتصاد الأميركي، وهذا ما ثبت من خلال سلسلة الإنجازات العسكرية (طائرات وصواريخ فرط-صوتية) التي كشفت عنها الصين، إثر توتّر علاقتها بواشنطن على خلفية الحرب التجارية التي أعلنها ترامب ضدها منذ دخوله البيت الأبيض.
الميادين