الثلاثاء , نوفمبر 26 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

نصف كوكب الارض تحت عقوبات اميركا

نصف كوكب الارض تحت عقوبات اميركا

خليل حرب

غالب الظن ان احدا لم يكن يدرك ان العقوبات الاميركية التي فرضت للمرة الاولى في القرن التاسع عشر، ستتحول مع مرور السنوات الى السلاح الاميركي الامضى، والاكثر سهولة واتساعا، واحيانا الاكثر تدميرا. فما هي هذه العقوبات؟ وما هي اصولها التشريعية، ومن تطال؟

+++++++++++++++++++++++++++++++++++

ولا بد بداية من التذكير بالعقوبات الأميركية الاولى التي فرضت في العام 1807 من جانب الكونغرس الاميركي خلال الولاية الثانية للرئيس توماس جيفرسون، وذلك ضد بريطانيا وفرنسا.
المفارقة ان واشنطن فرضت هذه العقوبات فيما كانت بريطانيا وفرنسا في حالة حرب، وكان الاميركيون يريدون البقاء على الحياد في هذه الحرب، والاستمرار في تصدير بضائعهم وحماية تجارتهم مع كلا البلدين. الا ان كلا من باريس ولندن ارادتا منع الدولة الاخرى من الحصول على البضائع الاميركية، ما تسبب باضرار بالمصالح التجارية الاميركية، وهو الذي جعل جيفرسون والكونغرس يسنان مجموعة قوانين لحماية التجارة الاميركية ومنع تورط الاميركيين في الحرب.

ومهما يكن، فان اهداف العقوبات لم تتحقق في اجبار فرنسا وبريطانيا على احترام مصالح الاميركيين، وفي العام 1809، الغى جيفرسون العقوبات، فيما ظل التوتر يتفاقم مع بريطانيا وصولا الى الحرب معها في العام 1812.
اميركيا، ربما كانت هذه هي البداية. العقوبات الاميركية تطال الان، دول البلقان، بيلاروسيا، بورما، ساحل العاج، كوبا، جمهورية الكونغو الديموقراطية، ايران، العراق، ليبيريا، كوريا الشمالية، السودان، سوريا، زيمبابوي، لبنان، ليبيا، افريقيا الوسطى، نيكاراغوا، الصومال، بوروندي، جنوب السودان، روسيا، فنزويلا، اليمن والصين.
والى جانب العقوبات التي تحمل اسماء دولة مستهدفة بعينها، هناك تشريعات اميركية تستهدف حالات محددة، مثل “مكافحة اعداء اميركا”، و”مكافحة المخدرات” و “مكافحة الارهاب”، و”العالم السيبراني”، و”عقوبات مرتبطة بالانتخابات الاميركية”، و”قانون ماغنيتسكي”، و”مكافحة اسلحة الدمار”، و”تجارة الالماس المحظورة”، و”مكافحة الجريمة العابرة للحدود”.
وتعني هذه التشريعات والقوانين ان هناك ملايين اخرين من الناس والمنظمات والهيئات حول العالم، متضررون من العقوبات الاميركية بخلاف لائحة الدول المحددة سابقا.
ان نصف البشرية خاضعة لعقوبات اميركية بشكل او باخر. وبمعنى اخر، فان الولايات المتحدة هي الدولة الاكثر تطبيقا للعقوبات في العالم. ولن لا توجد تقديرات دقيقة لمدى اتساع العقوبات الاقتصادية. رابطة المصنعين الوطنية الاميركية تقول ان 42 في المئة من سكان العالم يعيشون في دول خاضعة لعقوبات اميركية. ووفقا لخدمة ابحاث الكونغرس، فان اكثر من 190 نوعا من العقوبات فرضتها واشنطن حول العالم، وتتراوح حول قضايا كثيرة، من دعم الارهاب وصولا الى حماية السلاحف البحرية.
وتتنوع الاذرع الاميركية التي تعتبر انها تمارس “حقها” في فرض عقوبات. الرئيس الاميركي يصدر اوامر، ووزارة الخارجية لها عقوباتها الديبلوماسية والسياسية، والكونغرس يمارس دورا تشريعيا في سن القوانين الملائمة، وتظل مطبقة حتى لو تبدل ساكن البيت الابيض او تبدلت السياسات. فكما هو معروف، ان الاعلان عن فرض عقوبات، اسهل بالف مرة من الغائها الذي يتطلب ايضا فترة زمنية طويلة نسبيا. لكن الذراع الاكثر خطورة في الدوائر الاميركية هي وزارة الخزانة، وخصوصا “هيئة التحكم بالاصول الاجنبية (OFAC) ” التي تتحكم وتراقب وتلاحق الاصول المالية لكل الجهات المستهدفة من دول وافراد ومنظمات، وتحاول خنقها ماليا حتى لو تطلب الامر الضغط على الدول الاخرى، لترهيبها وجعلها تنصاع لمراسيمها.
ماذا يعني ذلك؟ ان الولايات المتحدة تمارس دور شرطي العالم؟ هل هذا طبيعي باعتبارها القوى العظمى دوليا؟ هل تتجاوز الولايات المتحدة الادوار التي يفترض ان تلعبها منظمات دولية اخرى، كالامم المتحدة؟ الا يبدو ان الكونغرس الاميركي صارت له سلطة اكبر واكثر فعالية من سلطات وبرلمانات الدول الأخرى المفترض انها متمتعة بالسيادة؟
يجادل البعض ان ذلك طبيعي في الصراعات الدولية. نابليون بونابرت على سبيل المثال، حاول فرض حظر اقتصادي على الامبراطورية البريطانية خلال حروبه معها، من خلال محاولة اجبار الدول والممالك الاوروبية الاخرى على مقاطعة البريطانيين، ولم ينجح.
كما يجادل اخرون من مؤيدي العقوبات على الساحة الاميركية او الدولية، ان العقوبات شكل افضل “انسانيا” من خوض الحروب العسكرية المباشرة. لكن هذه الفكرة تحديدا، تسقط بضربة قاضية اذا استحضر نموذج العراق الذي خضع لاقسى انواع العقوبات خلال التسعينات من القرن الماضي، وصولا الى الغزو في العام 2003، حيث تشير تقديرات منظمات دولية الى ان العقوبات انزلت بالعراقيين مئات الالاف من الضحايا بسبب الجوع والمرض والحرمان، ناهيك عما جلبته الحرب بعدها، أي اكثر مما اوقعه الهجومان النوويان على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
ان هول ما جلبته العقوبات على العراقيين في ذلك الوقت جعلت الامم المتحدة، ممثلة دول الحصار، تحاول تخفيف العقوبات واثارها المدمرة بابتكار ما سمي “العقوبات الذكية”، لكنها لم تبدل كثيرا في معاناة العراقيين. وبحسب بعض الخبراء القانونيين، فان العقوبات ارتقت الى مستوى “الابادة الجماعية” التي ارتكبت عن سبق اصرار، وان عرابتها وزيرة الخارجية الاميركية السابقة مادلين اولبرايت عندما سئلت بعد سنوات عديدة عما اذا كانت نادمة على فرض تلك العقوبات بهذه الوحشية وتسببها بوفاة عشرات الاف الأطفال، قالت انها لم تندم !
تستعاد هذه الوقائع ليعاد التساؤل عما اذا كانت هناك فعلا جوانب انسانية مبتغاة من فرض عقوبات من جانب دولة عظمى كالولايات المتحدة، على دولة اقل قوة، وهل هي فعلا البديل لحروب الدم؟ ام انها بكل بساطة شكل من اشكال الهيمنة التي يمارسها القوي على من يفترض انه اكثر ضعفا منه في محاولة لاخضاعه، او ابتزازه او تعديل سياساته او استغلاله؟
واذا كانت عقوبات العراق مهدت الطريق امام اجتياح عسكري، بعدما انهكت العراق مجتمعا وجيشا ونظاما، واطاحت لاحقا بنظام الحكم في بغداد، فان هناك تجارب اخرى، لم تجلب فيها العقوبات تغييرا يذكر في سياسات الدولة الخاضعة للعقوبات.
ولعل اكثر النماذج وضوحا التي يمكن استحضارها هنا، هي كوبا. واشنطن فرضت العقوبات الاولى في العام 1958وبدات بحظر على السلاح، ثم توسعت تباعا حتى العام 1962 لتشمل كل اشكال التجارة مع الجزيرة الكوبية، وظل قائما حتى ايامنا هذه باشكال متعددة. وقبل مغادرة الرئيس باراك اوباما البيت الابيض، رفع العديد من العقوبات ومهد الطريق امام تطبيع العلاقات مع هافانا، لكن الرئيس الحالي دونالد ترامب سد المنافذ مجددا.
وبرغم ان العقوبات خلقت وقائع اقتصادية قاسية على حياة الكوبيين، الا انهم نجحوا بشكل كبير في التعايش مع تداعياتها، بل انهم حافظوا الى حد كبير على استقلالية سياسية متميزة برغم نحو 60 عاما من الحصار، في وقت لم تلق الإجراءات الاميركية قبولا يذكر من غالبية دول العالم.
ويقول الكاتب الاميركي مايكل بولسون ان التاريخ يظهر ان غالبية العقوبات التي فرضت لم تنجح. يذكر بعقوبات أثينا في العام 432 قبل الميلاد بمنع التعامل مع تجار مدينة ميغارا، وهي لعلها العقوبات التجارية الاولى التي يسجلها التاريخ. ولم تحقق العقوبات اهدافها، بل انها عجلت بانفجار حرب البيلوبونيز بين اثينا واسبارطة بسبب صراعات التوسع التجاري، وساهمت ايضا في تقويض الديموقراطية اليونانية الناشئة.
من المفارقات اللافتة ان الكثير من الضغوط التي تمارس داخل الاروقة الاميركية تاتي من جهات مرتبطة بمصالح رجال الاعمال الذين يجادلون بان العقوبات المتسرعة احيانا كثيرة تلحق الخسائر بمصالحهم في الاسواق الاستهلاكية حول العالم. يلتقي رجال الاعمال بذلك مع حلفاء غير متوقعين:نال نشطاء حقوق الانسان، مثلما جرى خلال سنوات حصار العراق.
يقول استاذ العلوم السياسية في جامعة روشيستر الاميركية جون مولر ان “العقوبات صارت وسيلة رخيصة لتطبيق سياسة خارجية، مطالبا بحصر العقوبات في مجالات التكنولوجيا المرتبطة بالتسلح، رافضا ان تشمل الغذاء والادوية.
يرى استاذ الحوكمة في جامعة نوتردام الاميركية جورج لوبيز جانبا اخر من المسالة، اذ يقول ان “العقوبات اضحت وسيلة سريعة (بالنسبة للنواب والسياسيين) ليقولوا لناخبيهم : لقد قمنا بشيء”.
نادرا ما حققت العقوبات الاميركية اهدافها المعلنة. تتم الاشارة الى امثلة مثل ليبيا ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. لكن بالنظر الى حجم العقوبات الاميركية المفروضة حول العالم، فان الاضرار التي تلحق بحياة ملايين الناس، تجعلها محل تساؤلات مشروعة، وهواجس، في ان جل ما تبتغيه الادارات الاميركية، بعيد كثيرا عن سلام البشرية واستقرارها، ويخدم في المقابل، الاهداف الضيقة احيانا كثيرة لسياسات واشنطن، وما تجلبه من فوضى في المجتمعات الاخرى، الاكثر ضعفا وهشاشة.
جورنال