هل بإمكان العراق أن يكون وسيطاً في صراعات الإقليم؟
د. وفيق إبراهيم
حركة زيارات ولقاءات ومستويات رئاسية.. دبلوماسية رفيعة تجتاح العراق استقبالاً وذهاباً.. فلا يكاد رئيس عراقي يغادر بلاده حتى تفتح بغداد العاصمة ذراعيها لوفود من بلاد الجوار تبدو وكأنها تتنافس على عقد أكبر كمية ممكنة من الاتفاقيات من أنواع مختلفة.
لماذا هذا التقاطر الإقليمي والدولي نحو بلاد الرافدين.. وفي هذا الوقت بالذات؟
وأين الدور الأميركي الذي يمتلك عشر قواعد عسكرية شديدة التطوّر ومئات المستشارين يسيطر بواسطتها على الدور السياسي العراقي، أو له المقدرة على أحداث شلل في أي قرار داخلي لا يريده.
الإمارات والأردن أرسلا منذ مدة وفوداً هامة إلى الأردن بعنوان نسج علاقات واتفاقات لقد ذهب الأردنيون في بغداد مباشرة إلى ما ينقصهم وهو سد عجزهم الاقتصادي.. هذا إلى جانب اهتمامهم بكسب تأييد العراق الذي يتجه إلى الاستقرار. وهو مجاور لهم وأكبر بلد في الشام وجزيرة العرب ويمتلك ثروات هائلة من النفط والمياه والغاز. أما أهداف الإمارات فركزت على العلاقات الجيو- السياسية التي تريد جذب بغداد إلى محور أميركي واسع معادٍ بشكل كامل لإيران.. وإذا كانت هذه الوضعية مستحيلة لأسباب عراقية داخلية، فلا بأس بتحييده كخطوة أولى. ما يزيد من الصعوبات الداخلية في إيران بسبب الحصار الأميركي عليها، المتفلت نسبياً من جهة الحدود العراقية، هذه الضغوط تبدو مقبولة نسبياً، لكن ما جرى بعدها يوحي بتحوّل بغداد إلى بازار كبير للعرض والطلب الإقليمي والدولي.. فتلاحقت الوفود الإيرانية والتركية والسعودية إلى بغداد وسط مراقبة من محتل أميركي يرصد «إنتاج الزائرين» بدقة، دافعاً للتعاون مع السعودية فقط لأنه يطبق الأهداف الأميركية بدقة ورشاقة.
فماذا يريد الإيرانيون؟ ظهرت زيارة وزير خارجيتهم ظريف على شكل تحدٍ للاحتلال الأميركي للعراق الذي بدأ منذ 2003.
لكن وصول رئيس الجمهورية الإيرانية روحاني إلى بغداد متنقلاً بين رئاستها الثلاث ومتجولاً في جنوب البلاد وشمالها وكأنه في بيته، كانت رسالة حادة للأميركيين الذين يحاصرون العراق مع إفهامهم بأن الحدود الإيرانية العراقية مرتبطة بتقارب سياسي استراتيجي يرتكز على أبعاد اجتماعية واقتصادية وتاريخية، وغير قابلة للإقفال.
لقد أقلقت هذه الزيارة الأميركيين لكنها أصابت أيضاً الأتراك في طموحاتهم الإقليمية.
فلم يتمكن رئيسهم اردوغان من الانتظار طويلاً. لكنه وكعادته البرجماتية، جعل وسائل الإعلام التركية تزعم أنه لن يكون بإمكان تركيا السماح بملء السدود المائية العراقية من نهري دجلة والفرات لحاجة المزارعين الأتراك إلى مياههما.
وهي دعوة إلى التساهل السياسي مع انقرة بالضغط المائي.. لكن الأمطار الغزيرة التي هطلت لشهر متواصل، وحتى الآن نسفت الابتزاز التركي.. لهذا العام بامتلاء السدود المائية العراقية إلى درجة الفيضان، وسمحت للعراق بمطالبة اردوغان بالانسحاب من الأراضي التي يحتلها شمال العراق بذريعة الخطر الكردي، والدليل أن رئيس وزراء العراق سأل أردوغان كيف يقلق الأتراك من الأكراد ويسمحون لأنبوب يجرُّ نفط كردستان العراقية إلى مرفأ جيهان التركي من دون حراسة أو قلق من مشروع انفصالي كردي مزعوم؟
حتى الآن بدأ التحالف الإيراني العراقي راسخاً لم تنل منه محاولات الإمارات وتركيا أو لطافة الأردنيين.
فاندفع الأميركيون إلى استخدام آخر ورقتين بحوزتهم: الإمكانات السعودية الهائلة وحاجة نظامها السعودي إلى استيعاب غضب العراق من دورها السابق الذي كان يؤجج نيران الفتنة المذهبية بين السّنة والشيعة، محرضاً الأكراد أيضاً على السلطة المركزية في بغداد.. من دون نسيان دعم كل أنواع الإرهاب بتمويل سعودي خليجي إلى جانب الدعم التركي.. لذلك تحرك آل سعود نحو بغداد بعد تراجع الإرهاب في بلاد الرافدين مستغلين حصار إيران، وحاجة الأميركيين إلى خدماتهم الاقتصادية للإقناع على قاعدة أن الفساد فرض تراجعاً كبيراً على الإمكانات العراقية. لذلك فبغداد بحاجة إلى إسناد مالي سريع للتوازن. فأرسلت الرياض وفوداً ضخمة ضمَّ الأخير منها مئة مندوب بينهم تسعة وزراء يحملون مشاريع اتفاقات تسيطر على القرار العراقي في الاقتصاد والتعليم والتجارة والرياضة والشؤون الاجتماعية والتنسيق على أي مستوى. بما يكشف عن نيات سعودية بضبط التفاعلات العراقية الداخلية كوسيلة للإمساك بسياساته الخارجية.. وللوصول إلى هذا الأمر، قذف العاهل السعودي بمكرمتين: مساعدة بمليار دولار وبناء مدينة رياضية في العراق باسم الواهب أي الملك سلمان، أليست هذه طريقة رياضية للوصول إلى قلوب العراقيين؟
الأميركيون بالمقابل قاموا بحركتين سريعتين لمساعدة الدور السعودي: الأولى شجعوا فيها الصراع الخفيّ بين مكونات الفتح على تعبئة المواقع الأساسية في البلاد محرّكين النزعات الاستقلالية عند أكراد تركمانستان ومحرّضين «تيارات سنية في الوسط على رفض أسموه هيمنة شيعية جنوبية. فتبدى بسرعة الانقسام بين مكوّنات العراق على شكل تصريح لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي طالب فيه ببقاء القوات الأميركية في العراق لمجابهة الإرهاب، وبدوره دعا رئيس الجمهورية برهم صالح إلى ضرورة الإبقاء على القوات الأجنبية في العراق وهي الأميركيون والأتراك فقط باعتبار أن لا وجود لقوات إيرانية في أرض السواد.
لذلك أدّت العروض السعودية من جهة وخلخلة التضامن الداخلي من جهة ثانية إلى مراوغة السياسيين العراقيين ومن كل الاتجاهات في مناقشة مشروع قانون لسحب القوات الأميركية من العراق… هذه القوات التي احتلت العراق منذ 16 عاماً وفرضت على حكومات بغداد الضعيفة في 2008 قانوناً يشرّع الوجود الأميركي في العراق لهدفين، محاربة الإرهاب وتدريب الجيش العراقي. فإذا كان الإرهاب اندحر بشكل كامل ولم تبق منه إلا بؤر صغيرة كامنة، يوجد مثيل لها في كل الدول، وكما أن الجيش العراقي تدرّب على يد الأميركيين لمدة 11 عاماً. فلماذا بقاء احتلال أميركي لديه عشرة آلاف جندي ينتشرون في عشر قواعد بالغة التطور؟
فهل يستطيع العراق استيعاب الصراع الإقليمي الدولي، عليه، معاوداً إنتاجه على شكل بلدٍ قوي وقادر يستطيع أداء دور الوسيط في التنافس الأميركي – السعودي التركي الإيراني؟
يحتاج العراق أولاً إلى مشروع سياسي وطني يعمّقُ الاندماج بين مناطقه الثلاث في الوسط والشمال والجنوب على قاعدة المساواة الكاملة بين المواطنين، والمحافظة على علاقات بإيران التي لم تتخلّ عنه لحظة في مرحلة التآمر السعودي الأميركي التركي،.. كما يستطيع أداء دور الوسيط لإزالة التوتر السعودي الإيراني، على أساس تخلّي الرياض عن تجسيدها الكامل للطموح الأميركي.. أن عراقاً متحرراً وناجحاً يدمج مكوناته العرقية والطائفية، لا شك في أن له القدرة على قيادة منطقة تمرُ بجزيرة العرب إلى أعالي اليمن، بتنسيق مع سورية الأمر الذي يشكل نظاماً عربياً قوياً يوقف الاجتياح الإسرائيلي والانحطاط العربي متحالفاً مع إيران لمصلحة كامل الشرق الأوسط، الجانح إلى التحرّر من هيمنة العم سام.
البناء