هل ترامب هو غورباتشوف أميركا؟
د. يوسف جاد الحق
هذه هي الحقيقة الناصعة البادية المعالم، حتى وإن جهلها صاحب الشأن فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يسعى إلى جعل أميركا «فوق الجميع» عنصرية استكبارية، وهو ما يؤكده شعاره المعلن «أميركا أولاً».
ربما كان غورباتشوف واعياً لما كان مقدماً عليه توطئة لإنهاء الاتحاد السوفييتي، أحد القطبين الأعظم في ذلك الزمن. كان الرجل عميلاً للغرب، وقد أدى دوره «المدفوع الثمن» على أكمل وجه بالنسبة إلى مشَغِّليه، شاركه في لعبته الخطرة الدنيئة ظهور الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، فكان ما كان وانتهى الاتحاد السوفييتي عام 1991.
اندفعت أميركا عندئذ، وعلى الفور إلى تقمص دور القطب الأوحد، المهيمن، فأخذت تصول وتجول، تضرب ذات اليمين وذات الشمال، في أفغانستان والعراق والصومال، وفي فلسطين بوساطة الكيان الصهيوني، متوخية من وراء ذلك إظهار جبروتها الرادع لمن تسول له نفسه الوقوف في وجهها، أو إيقاع الأذى بمصالحها النفعية، مستخدمة شعاراً عجيباً في حروبها المصطنعة هو «الصدمة والرعب»، الأنموذج الحقيقي للإرهاب الدولي المكشوف، وقد استخدمت جانبين في حروبها تلك، الأول جنود مرتزقة، تجمعهم من شتى أطراف الأرض، مقابل الدولار من جهة، والتلويح بمنحهم الجنسية الأميركية من جهة ثانية، وذلك لمن ينجو منهم بحياته عقب حرب تزج بهم في أتونها.
ما يؤكد رؤيتنا فيما ذهبنا إليه من أن ترامب هو كالرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، أميركا، أمران:
أولهما سلوكيات ترامب الارتجالية العشوائية، أو الموحى إليه بها من اليهودية العالمية والماسون والمحافظين الجدد، أمثال: دونالد رامسفيلد وديك تشيني وكونداليزا رايس وإليوت إبرامز وجون بولتون، وهذا الأخير هو صاحب قانون محاسبة سورية نهاية عام 2003، وجل هؤلاء أعضاء في مؤسسة RAND المهيمنة على قرارات ترامب ومن قبله الرئيسان الأميركيان السابقان جورج بوش الأب وجورج بوش الابن. أبرز أعضائها صموئيل كوهين عضو «إيباك» مخترع القنبلة النيترونية التي تبيد البشر فقط وتبقي على العمران ومن ثم سميت القنبلة النظيفة.
من سلوكياته تبدو وكأنها غير مسؤولة، أو أن صاحبها لا يقدِّر عواقبها وتبعاتها فيطلقها تغريدات طائشة، كالعقوبات التي يطلقها حيثما يشاء، على صعيد العالم كله، وكأنه يملك السلطة على دوله قاطبة، بما في ذلك دول تساوي أميركا أو تبزُّها في القوة، كالصين وروسيا.
ومن تغريداته في مواقفه من فنزويلا، وكوريا الديمقراطية، والمكسيك، وإيران. وفيما يختص بمنطقتنا تقديم قدسنا عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، ونقله لسفارة بلاده إليها من تل أبيب، وتقديمه جولاننا السوري هبة للسيادة الصهيونية، ولا يفوتنا ذكر موقفه الحاقد بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
يقدم على كل ذلك باستخفاف واستهتار يؤاخذه عليه، بل يعارضه فيه نواب في الكونغرس سواء كانوا ديمقراطيين أم جمهوريين من حزبه وساسة أوروبا، بل إن موقفاً دولياً عالمياً يقف في وجهه معارضاً في مسألتي الجولان العربي السوري والقدس العربية.
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني الذي نرى أنه سوف يفضي إلى الهبوط بمنزلة أميركا إلى الحضيض في الموازين الدولية الراهنة، هو مسألة المتغيرات الدولية المتسارعة وسنأتي على قليل منها لضيق المقام عن الإسهاب فيها:
أزمة أميركا الاقتصادية المتفاقمة بسبب ما تفرضه على غيرها من الدول من عقوبات على الموارد والجمارك والاقتصاد والتبادلات التجارية والتعاملات المصرفية الدولية العالمية.
فقدانها المقدرة على التحكم في المقررات الدولية الصادرة عن الهيئات المختصة كهيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، واليونيسكو وغيرها الأمر الذي مارسته طويلاً فيما مضى.
انسحابها من مسؤوليات تقع على عاتقها كاتفاقية المناخ، و«أونروا»، واليونيسكو، والمعاهدة مع روسيا في مسألة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وحجب المعونة عن دول وهيئات دولية كانت قائمة قبل ترامب، والامتناع عن دفع حصتها في ميزانيات أعمال تلك المؤسسات من جانب واحد دائماً، كل ذلك تحت عنوان العقوبات.
استخدامها مكاييل مختلفة في تعاملها مع الدول، وحيال المواقف من حالات وأزمات مختلفة وفق الهوى والمصلحة الأميركية، وليس وفق موازين العدل والإنصاف واحترام القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية. ولعل أوضح جانب في هذه المسألة مواقفها من إسرائيل من جهة، مقابل فلسطين وسورية، وإيران والمقاومة، المعترف بحقها عالمياً، في معاقبة أطرافها لا لشيء سوى لأنها في مواجهة مغتصبي أراضيها وحقوقها من عصابات الصهاينة الإرهابية ومؤسسي الإرهاب العالمي منذ بدايات القرن الماضي حتى يوم الناس هذا.
استخدامها سائر وسائل وأدوات وأجهزة التواصل الاجتماعي في التضليل والتزوير وتعميم الأكاذيب والادعاءات الباطلة وتشويه سمعة من تناصبهم العداء لسبب أو لآخر.
انكشاف دورها في دعاوى تعلنها على الملأ ولكنها ضدها بالممارسة والتنفيذ على أرض الواقع كمسائل الديمقراطية، والحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك من دعاوى كاذبة، ويكفي كمثال على هذه الحالات نذكره هنا موقفها من الدول التي تمارس التعذيب حتى الموت لمخالفي الرأي فيها، ومقتل الصحفي جمال خاشقجي ومعتقلات التعذيب للعديد من الفتيات للأسباب ذاتها وقس على ذلك.
انكشاف ضعف ترامب أمام الشعب الأميركي أمام هيمنة رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو وحكومته على قراراته وسلوكه وتصرفاته، حيث يخضع لتلبية مطالبهم حتى لو كانت مضرة بالمصالح الأميركية ذاتها.
ظهور تيارات اجتماعية وسياسية تتبدى في مواقف لدى النخبة من كتاب وصحفيين ومنظرين في جميع الأوساط هناك، وتتجرأ اليوم على إعلان مواقفها المستنكِرة لانحياز رئيسها للصهاينة، وإخلاله بالمبادئ والقيم التي طالما أعلنت عنها أميركا، منذ عهد الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة توماس وودرو ويلسون وما بعده، بل إن دافع الضرائب، المواطن الأميركي العادي يشكو اليوم من أن يكون مسهماً في تمويل حماقات إسرائيل وحروبها العدوانية على حسابه.
هذه الحالات تتسع يوماً بعد يوم، وسوف يجيء اليوم الذي تؤتي فيه هذه المسائل والمواقف والرؤى ثمارها وفاعليتها دونما ريب.
غير أن سلوكيات ترامب سوف ترتب على أميركا دفع الثمن في وقت أسرع مما يتصور الكثيرون، ولاسيما من يلهثون وراء ترامب وأشياعه ورفاقه الكذَبة، من الأعراب الذين بلغ بهم الهوان مهادنة العدو الإسرائيلي، بالتطبيع والتعامل معه وكأنه صديق حميم، ليس بينه وبين أرومتهم العربية أي عداء أو خصام ممتد عبر عقود طويلة من الزمن سجله التاريخ.
هؤلاء أيضاً سوف يدفعون الثمن، فشعوبهم تقف لهم بالمرصاد، وسيكون الحساب ذات يوم غير بعيد عسيراً وعسيراً جداً، ولكن بعد فوات الأوان، ولن تنفع حينها ساعة الندم.
الوطن