الجمعة , نوفمبر 22 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

هل اقتربنا من حل لغز “أحد أكثر أسرار العلم غموضا”؟

هل اقتربنا من حل لغز “أحد أكثر أسرار العلم غموضا”؟

نعلم أن لسرطان البحر مستقبِلات للألم كالتي لدينا والتي تجعلنا ننتفض أو نصرخ عندما نشعر بالألم.

ويُلاحَظ من سلوك هذا الحيوان البحري أنه يشعر بشيء ما غير جيد حين يضعه الطاهي حيا في قدر مغلي فيرجف ذيله كما لو كان يتألم بشدة.

فهل يشعر سرطان البحر بالألم كما نشعر به نحن، أم أن حركته ليست سوى مجرد رد فعل طبيعي؟

ويقترن قيام الإنسان بفعل ما بخبرات إدراكية معقدة تغمر عقله بالكامل، لكن لا يمكننا افتراض أن الشيء نفسه يحدث مع الحيوانات، خاصة الأنواع التي يختلف دماغها كثيرا عن الدماغ البشري. ويرجح علماء أن كائنات مثل سرطان البحر تفتقر بالكامل لأية خبرات داخلية مقارنة بما يوجد داخل أذهاننا نحن البشر.

يقول جوليو تونوني، عالم الأعصاب بجامعة ويسكنسن-ماديسون: “يرجَح أن الكلاب – التي تشبه تصرفاتها كثيرا البشر ولا تختلف أجسامها وأمخاخها كثيرا عنا – ترى وتسمع الأشياء كما نراها ونسمعها وأنها ليست في ‘غيبة تامة’ من الوعي. لكن حين نتحدث عن كائن كسرطان البحر فإن الصورة تكون أقل وضوحا”.

ويحاول العلماء معرفة متى ينشأ الوعي بالمخ البشري، وما إذا كانت أجهزة الكمبيوتر ستصبح يوما ذاتية الوعي كالإنسان.

والآن، ربما توصل تونوني لإجابة على هذه التساؤلات من خلال نظريته “المعلومات المتكاملة” التي تعد واحدة من أهم النظريات المتعلقة بالوعي خلال السنوات الأخيرة. ورغم عدم التأكد من نتائج هذه النظرية حتى الآن، فإنها تقدم طرحا قابلا للتجربة والتطبيق، وبالتالي قد نصل قريبا لإجابة شافية.

يقول تونوني إنه بدأ منذ سن مبكرة الاهتمام بدراسة علم الأخلاق والفلسفة، مضيفا: “أدركت أن معرفة المقصود بالوعي وكيفية تكوينه أمر لا غنى عنه لفهم موقع الإنسان من الكون والهدف من حياته”.

واتجه تونوني لاحقا لدراسة الطب، ويقول إن التعرض المباشر لدراسة الأعصاب وحالات الإصابة بالذهان وضعه “وجها لوجه أمام مرضى فقدان الوعي، سواء بصورة كلية أو جزئية، بشكل لا تراه في الشخص السليم”.

وفي عام 2004، نشر تونوني أول وصف لنظريته، قبل أن يعمل على توسيعها وتطويرها في وقت لاحق.

وتبدأ النظرية بمجموعة من المسلَّمات عن الوعي. يقول تونوني إنه يلزم لوصف خبرة ما بأنها خبرة واعية أن تكون “ذات نسق خاص” – كأن تميز وضع الأشياء مقارنة بما حولها من أشياء أخرى. كذلك يجب أن تكون تلك الخبرة “محددة” و”متمايزة” – بمعنى أن تكون مختلفة عن غيرها، مما يفتح المجال لاكتساب خبرات كثيرة محتملة.

كما يلزم أن تكون هذه الخبرة “متكاملة”، بمعنى أنك إذا نظرت إلى كتاب أحمر على طاولة، فإن شكله ولونه وموقعه – على الرغم من أنه يجري معالجته في البداية بشكل منفصل في الدماغ – تكون كلها متكاملة في وقت واحد في تجربة واعية واحدة.

وبناء على تلك المسلمات، افترض تونوني أنه يمكن تحديد الوعي البشري (أو الحيواني، أو حتى الآلي) من خلال “المعلومات المتكاملة” للمخ (أو لجهاز كمبيوتر). وطبقا لنظريته، كلما زاد تبادل المعلومات ومعالجتها بين مكونات شتى للمساهمة في هذه التجربة، ارتقى مستوى الوعي.

ولكي نفهم ذلك عمليا، يمكن مقارنة المنظومة البصرية للمخ بالكاميرا الرقمية، فالكاميرا تستقبل الضوء الساقط على وحدات استشعارها، ويكون عدد تلك الوحدات كبيرا للغاية نظرا لعدد وحدات البيكسل، وهو ما يعني وجود كم هائل من المعلومات الإجمالية للصورة.

لكن وحدات البيكسل لا “تتحدث” إلى بعضها البعض ولا تتبادل المعلومات فيما بينها، لكن كل وحدة على حدة تسجل نقطة صغيرة جدا من الصورة، ودون تكاملها لا يمكن أن تتكون خبرة واعية ثرية.

وتعمل شبكية العين لدى الإنسان مثل الكاميرا الرقمية، إذ تحتوي على وحدات استشعار عديدة تلتقط في البداية عناصر صغيرة للمشهد؛ لكن يتم تبادل تلك البيانات ومعالجتها عبر مناطق شتى من المخ يتعامل بعضها مع الألوان ويعمل على تكييف البيانات الخام وفقا لمستوى الضوء حتى يمكننا التعرف على الألوان في ظروف مغايرة.

وتفحص مناطق أخرى من العين الخطوط والمنحنيات، وهو ما يشمل تخمين أجزاء مخفية – كخلفية كتاب وراء فنجان من القهوة – حتى تستطيع إدراك الشكل الإجمالي. وبالتالي، تتبادل تلك المناطق ما لديها من معلومات وتنقلها لمستويات أعلى لتجميع العناصر المختلفة، حتى تطرأ في النهاية خبرة واعية بالشكل الذي يشهده المرء.

وينطبق نفس الأمر على الذكريات. لكن بخلاف سجل الصور بالكاميرات الرقمية، لا يتم تخزين هذه الذكريات كل على حدة، بل تندمج معا وترتبط فيما بينها لتشكل قصة ذات مغزى. وفي كل مرة نمر فيها بتجربة جديدة، فإن هذه التجربة تتكامل مع المعلومات السابقة، لدرجة أن مذاق قطعة ما من الحلوى قد يذكرنا بتجربة ما من الطفولة.

وفحصت دراسة، نشرت عام 2015، مخ أشخاص وضعوا تحت أنواع مختلفة من التخدير، من بينها التخدير بالبروبوفول والتخدير بغاز الزينون. ولمعرفة قدرة المخ على دمج المعلومات مع بعضها البعض، عرّض الباحثون أدمغة المشاركين لمجال مغناطيسي بهدف تنشيط جزء صغير من القشرة المخية، وهو إجراء ينجم عنه نشاط دماغي معقد في الشخص المستيقظ يعكس تجاوب أجزاء مختلفة من الدماغ، وهو ما يعتبره تونوني مؤشرا على دمج المعلومات بين مجموعات الخلايا العصبية المختلفة بالمخ.

لكن لم يُبدِ مخ الأشخاص المخدرين بالبروبوفول والزينون تلك الاستجابة. وجاءت موجات المخ أبسط كثيرا مقارنة بنشاط المخ أثناء الاستيقاظ. وبدا أن المخدر عطل دمج المخ للمعلومات، وبالتالي أُسدِل الستار على الوعي الذاتي للشخص.

وقارن الباحثون ذلك بأشخاص آخرين تناولوا عقار الكيتامين – الذي يجعل الشخص لا يتجاوب مع العالم الخارجي وبالتالي يستخدم للتخدير لكنه يثير لدى الشخص خيالات جامحة بخلاف التغييب الكامل الذي يحدثه البروبوفول أو الزينون. ووجد الفريق البحثي بقيادة تونوني أن موجات المخ كانت أكثر نشاطا في حالة الكيتامين عن التخدير الكلي، ففي حالة الكيتامين انفصل الشخص عن العالم الخارجي لكنه ظل متصلا بعالم داخلي نشط.

كما وجد تونوني نتائج مشابهة حين فحص مراحل النوم، فخلال ما يعرف بـ “نوم حركة العين السريعة” حين تنشط الأحلام، كانت موجات المخ أكثر نشاطا من مراحل النوم الأخرى، ما رجح تكاملا معلوماتيا أكبر بالمخ خلال الأحلام باعتبارها نوع من الوعي.

لكن لا تزال هناك حاجة لأدلة أقوى لتأكيد تلك النظرية المتعلقة بأحد أكثر أسرار العلم غموضا، وهو الوعي. ويعتمد تونوني على قياس غير مباشر وغير دامغ لوجود تكامل معلوماتي داخل الدماغ ومضاهاة ذلك بنشاط الموجات المخية.

ويشير دانيال توكر، عالم أعصاب بجامعة كاليفورنيا بيركلي، إلى أن الأساليب السابقة تعتمد على حساب بطيء لقياس الوقت الذي يستغرقه الدمج المعلوماتي عبر شبكة ما، وهو الوقت الذي يتضاعف “بشكل فلكي” بزيادة عدد تقاطعات تلك الشبكة المعلوماتية حتى يستغرق أمدا لا نهائيا.

لكن توكر اقترح مؤخرا طريقة حسابية ذكية للغاية تختصر هذه المدة إلى دقائق قليلة، واختبرها على قياسات لاثنين من القرود، وهو ما قد يمثل خطوة أولى لإجراء تجارب أفضل على هذه النظرية.

وعندئذ فقط سيمكن تفسير معضلات كبرى، من قبيل مقارنة “الوعي” داخل أمخاخ مختلفة. وحتى لو لم تثبت صحة نظرية تونوني، فإن توكر يعتقد أنها دفعت علماء آخرين للتفكير في الوعي من ناحية حسابية، وهو ما يمهد الطريق أمام نظريات أخرى.

أما إذ ثبتت صحة نظرية المعلومات المتكاملة، فسوف يكون لذلك وقع هائل وستتسع دائرة التطبيقات لتتجاوز علم الأعصاب والمجال الطبي، كما سيساعد في حل معضلات تتعلق بالذكاء الاصطناعي.

يقول تونوني إن النظام الذي تعتمد عليه أجهزة الكمبيوتر اليوم – والقائم على شبكات من أشباه الموصلات – يستبعد إمكانية ارتقاء التكامل المعلوماتي لحد يتيح الوعي. وحتى لو أمكن برمجة تلك الحواسب لتتصرف كالبشر، فإنها لن تصل أبدا لوعي ذاتي كالذي نتمتع به.

يقول تونوني: “البعض يعتقد أن أجهزة الكمبيوتر ستتمكن قريبا من الوصول لمدارك الإنسان، ليس فقط في لعب الشطرنج أو التعرف على الوجوه وقيادة السيارات، بل في كل شيء. لكن لو صحت نظرية المعلومات المتكاملة فقد تتصرف هذه الأجهزة كما نتصرف – بل وتجري حوارا شيقا مع الإنسان – لكنها ستكون صماء من الداخل”، إذ لن تتمتع بوعي داخلي ينتج سلوكا ذكيا.

ويؤكد تونوني على أن المسألة أكبر من مجرد قدرة حسابية أو برمجة، حتى لو بدا “الهيكل المادي متشابها”.

وقد تساعد هذه النظرية في فهم طريقة تعامل البشر فيما بينهم. فمؤخرا طبق توماس مالوني، مدير مركز الذكاء الجمعي بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، النظرية على فرق من البشر في مختبر وفي بيئة طبيعية. ووجد أن تقدير التكامل المعلوماتي بين أعضاء الفريق ربما ساهم في التنبؤ بالوجهة التي سيتجه إليها أداء المجموعة ككل في مهام عدة، وهو ما جعله يعتقد بأن نظرية تونوني قد تساعد في فهم ما يجعل مجموعات كبيرة من البشر تتجه أحيانا للتفكير والشعور ككيان واحد والخروج بذاكرة وقرار ورد فعل واحد.

لكن حتى هذه اللحظة لا يمكننا التأكد من وجود وعي لدى سرطان البحر، أو جهاز الكمبيوتر، أو حتى المجتمع ككل. لكن من يدري، فقد تمكننا نظرية تونوني مستقبلا من قراءة أفكار بـ”عقول” تختلف كل الاختلاف عن عقولنا!

بي بي سي