آفاق المواجهة بين أميركا والغرب وروسيا والشرق
جورج حداد
لا جديد تحت الشمس. فمنذ ايام الامبراطورية الرومانية القديمة والحروب بينها وبين قرطاجة في افريقيا الشمالية والدولة الاغريقية ـ المقدونية القديمة في اوروبا الشرقية. إن العامل الرئيسي المحرك للتاريخ العالمي هو الصراع بين الشرق والغرب. وبصيغة اكثر تحديدا: الصراع بين الغرب الطامع الى استعمار الشرق واستعباد شعوبه ونهب خيراته، وبين الشرق المدافع عن وجوده الانساني.
واليوم يتكرر المشهد ذاته في مواجهة الامبريالية الاميركية وحليفها الاستراتيجي والعضوي: اليهودية العالمية التي تسير الى جانب الغزاة الاميركيين، كما كان النخاسون اليهود القدماء يسيرون جنبا الى جنب الجيش الروماني، حاملين الاصفاد والذهب والفضة، كي يشتروا بالجملة من الجيش الروماني، الاسرى البؤساء من مختلف الشعوب، بعد كل “معركة مظفرة!”، ومن ثم يبيعونهم عبيدا، بالمفرق.
وقد كان جميع الرؤساء الاميركيين، قبل ترامب، يحاولون جاهدين ستر عورتهم الامبريالية ـ اليهودية، بواسطة الشعارات الديماغوجية التي ترفعها آلة البروباغندا الغربية الهائلة التي ينفق عليها مئات مليارات الدولارات. وفي هذا السياق، ومنذ عهد رونالد ريغان حتى عهد بيل كلينتون تمكنت الامبريالية الغربية بزعامة اميركا من ضرب المنظومة السوفياتية ووضع اليد على مفاتيح السلطة السياسية والمالية والاقتصادية والاعلامية في الاتحاد السوفياتي ذاته وتفكيكه، وكادت ان تمزق روسيا ذاتها اربا وتقسمها الى عشرات “الجمهوريات المستقلة!” باسم “الحرية” و”الدمقراطية” و”حق تقرير المصير للشعوب”. الى ان نهضت روسيا من جديد بزعامة فلاديمير بوتين، واوقفت الانحدار، وعاد الصراع بين الشرق والغرب الى طبيعته التاريخية.
ولكن مع وصول البيزنسمان الشره والوقح دونالد ترامب الى البيت الابيض، نزعت الامبريالية الاميركية ـ اليهودية عن وجهها جميع الاقنعة والبراقع وكشرت عن انيابها بوجه العالم اجمع. وقام ترامب بتغيير كوادر الادارة “المعتدلين” والاستعاضة عنهم بـ”الصقور” امثال جون بولتون وماكيل بومبيو، ورفع شعار “اميركا اولا” او “اميركا فوق الجميع”. وفي ظل هذا الشعار النازي فتحت ادارة ترامب الجبهات في مختلف الاتجاهات، فأعلنت الانسحاب من اتفاق منع الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفياتي السابق (ووريثته روسيا)، وبذلك دشنت مرحلة جديدة من الحرب الباردة وسباق التسلح، وانسحبت من الاتفاق النووي الدولي مع ايران، وشنت الحرب التجارية ضد الصين، وضد الاتحاد الاوروبي، وفرضت العقوبات الاقتصادية على روسيا والصين وايران، وألغت المساهمة الاميركية في تمويل الاونروا لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، ثم اعلنت الاعتراف بالقدس كعاصمة لـ”اسرائيل”، واخيرا لا آخرا اعترفت بشرعية احتلال الجولان وضمه الى الكيان الغاصب، وهي تستعد الان للاعتراف بشرعية احتلال الضفة الغربية وضمها أيضاً من ضمن ما يسمى “صفقة القرن” لتصفية القضية الفلسطينية.
وتضع ادارة ترامب نصب عينيها كهدف ستراتيجي رئيسي: مهمة ضرب المقاومة الروسية كشرط مسبق لامكانية تحقيق واستمرار الهيمنة الاميركية على العالم بأسره. ولهذه الغاية فهي تشن حربا سياسية شعواء تبلغ حدود الشوفينية العنصرية ضد روسيا.
ولكن حملتها المَرَضية المعادية لروسيا تأتي “متأخرة قليلا!”، اذ انها تأتي بعد ان اصبح الحلف الاستراتيجي الروسي ـ الصيني معطىً ملموسا لا يمكن تجاهله في الجيوستراتيجيا الدولية. وقد تعزز هذا الحلف بالتعاون الوثيق بينه وبين الجمهورية الاسلامية الايرانية. وبكلمات اخرى ان اميركا ومذنبها الناتوي اصبحت تواجه لا العملاق الروسي وحده، بل ومعه العملاق الصيني ايضا، الى جانب محور المقاومة في الشرق الاوسط.
فما هي آفاق المواجهة في نزاع شامل مفترض بين اميركا وحلفائها من جهة، وروسيا والصين وحلفائهما من جهة اخرى؟ وهل يمكن لاميركا ان تنتصر في مثل هذه المواجهة؟
ان اميركا تمتلك ميزانية حربية هي الاكبر في العالم، وهي تفوق مجموع الميزانيات الحربية للدول العشر التي تليها (بما فيها روسيا والصين). ولديها 800 قاعدة عسكرية برية وبحرية وجوية وصاروخية في مختلف ارجاء العالم، بما فيها قرب الحدود الروسية، هذا ناهيك عن القواعد العسكرية الهائلة على الاراضي الاميركية ذاتها وخاصة في الآلاسكا (القريبة نسبيا من روسيا في الشمال) حيث تتركز قواعد عسكرية اميركية لا مثيل لها، جوية وصاروخية ـ نووية ورادارية ـ الكترونية هائلة.
فما هي جهوزية القوات الاميركية لمواجهة شاملة مع روسيا والصين؟ وهل يمكنها ان تنتصر في مثل هذه المواجهة؟
لقد ركزت اميركا قواعد عسكرية على عتبة مدينة بتروغراد وحولت النروج الى ساحة تجميع للاسلحة استعدادا للهجوم المحتمل ضد روسيا. وفي الوقت ذاته تم تحديد خط المواجهة الاميركية ـ الصينية في بحر الصين الجنوبي. اي ان ادارة ترامب دفعت خصميها الرئيسيين ـ روسيا والصين ـ الى استجماع قواهما استعدادا للصدام المتوقع. فهل اميركا هي قوية الى درجة ان توجه مثل هذا التحدي الى دولتين كبريين نوويتين في وقت واحد؟
حسب رأي الخبراء في المؤسسة البحثية الستراتيجية The Heritage Foundation فإن حظوظ النجاح في هذا التحدي هي ضئيلة جدا. وكما هو معروف فإن هذا المركز هو ذو توجهات محافظة ويتمتع برصيد كبير في اميركا. وفي تقريره الاخير المعنون “تصنيف القوة العسكرية لاميركا في سنة 2019” فإن خبراء المركز يحللون اوضاع جميع انواع القوات العسكرية في اطار الآلة الحربية الاميركية. والاستنتاج الذي يخلصون اليه هو غير مطمئن بالنسبة للبنتاغون.
وحسب تقويم التقرير فإن القوة العسكرية الاميركية بالكاد تغطي 2/3 من المستوى المطلوب. ويؤكد التقرير ان التجهيزات والاسلحة الاميركية هي متقادمة العهد، ويوصف مستوى التعبئة بأنه “إشكالي”. والتقويم العام الذي يعطيه التقرير لمختلف القوات المسلحة الاميركية يتراوح بين “تقريبا كافية” و”ضعيفة”.
وليس من المعروف كيف سيؤثر مثل هذا التقرير على الخلافات السياسية في اميركا. وفي كل الاحوال لم يعد بالامكان الحديث عن اميركا بوصفها القوة العسكرية الاعظم التي لا مثيل لها على الكوكب الارضي. وهي لا تمتلك القوة الكافية لمواجهة روسيا والصين في آن واحد. ذلك ان القوات المسلحة الاميركية قد تآكلت في مختلف المغامرات الحربية التي خاضتها اميركا، كما انها تقف اليوم امام تحديات حربية كبيرة في ارجاء مختلفة من العالم.
ومن جهة ثانية تؤكد تقارير الخبراء ان روسيا والصين قد طورتا اسلحة تكتيكية وستراتيجية تتفوق على مثيلاتها الاميركية. ولا بد من الاشارة ان تقرير المؤسسة الدولية للابحاث الستراتيجية (CSIS) والمعنون “الميزان العسكري في 2018” يؤكد ان اميركا فقدت تفوقها الجوي السابق. كما انها لم تعد قادرة على تعبئة العدد الكافي من الجنود وتعتمد اكثر فأكثر على المرتزقة والوسطاء.
ان سياسة التحدي والاستفزاز التي تنتهجها الادارة الاميركية لم تعد تعبر عن قوتها الفعلية السائرة نحو التآكل والضعف يوما بعد يوم. وكل مغامرة جديدة تخوضها اميركا سيكون مصيرها الفشل والهزيمة.
العهد