الإرهاب يعاود الانتشار وفق الخرائط الأميركية الجديدة
د. وفيق إبراهيم
تراجُع الإرهاب القاعدي ـ الداعشي من مرحلة «الخلافة الإسلامية» التي كانت تسيطر على ثلاثة أرباع العراق وسورية إلى حالة الذئاب المنفردة في بؤر غير متصلة.. لا يعني أبداً انتهاء دوره..
فكما أنّ هناك قوى دولية وإقليمية أسّست الظروف المؤاتية بصعوده في العقد الأخير واستفادت منه في تفجير الدول والمجتمعات، ولم تتركه إلا بعد خسارته في الميادين وعجزها عن تغطيته..
تعود هذه القوى نفسها في المرحلة الحالية إلى إعادة نشره ليس على طريقة نشر الوحدات النظامية للجيوش.. بل عبر فتح طرقات محدّدة، ومدروسة يعتقد الإرهاب أنه اخترقها، لكنه لا يفعل إلا المرور من المنافذ التي تصله مباشرة بالمصالح الغربية ـ الأميركية في أماكن جديدة، فتتلاقى فيها تنظيمات متطرفة محلية مع مجاميع الإرهاب الوافدة.. وتشكلان البنية الفكرية والتنظيمية الضرورية لتفجير مشروع متطرّف جديد.
ماذا يجري؟ الهجوم الكردي ـ الأميركي على منظمات الإرهاب في شرق الفرات، تعمَّدَ تطويل معاركه لأكثر من عام ونيّف، كان كافياً، لفتح دروب قرار لآلاف الإرهابيين وجدوا أنفسهم في كشمير وأعالي مناطق البلوش بين باكستان وإيران وغرب أذربيجان طاجكيستان وأوزبكستان، وتركستان الإيغورية وسريلانكا وأفغانستان.. فيما اكتشف البعض الآخر منهم أنهم وصلوا إلى ليبيا والسودان.
ماذا توحي القراءة السياسية لهذا الانتشار الجديد؟ تكشف أنّ المشروع الأميركي ـ الأوروبي الجديد يرمي إلى تصديع الأوضاع في آسيا الوسطى المؤثرة في بلدان عدة يعتبرها الأميركيون خطراً على إمبراطوريتهم المترامية الأطراف وهي روسيا والصين.. والهند.
قد يحتجّ أحدهم معتبراً انّ حجم الإرهاب الذي كان موجوداً في المشرق العربي لا يكفي لتغطية هذه المساحات الجديدة ـ والإجابة تقتضي تأكيد أنّ مناطق الانتشار الجديدة تأوي مئات التنظيمات الفكرية التكفيرية.. وسبق لها أن بدأت حروب الإرهاب منها.. هل نسيتم نفوذ ابن لادن في آسيا الوسطى وأفغانستان، وعلاقته بطالبان التي لا تزال موجودة ونفوذه في معظم الدول هناك.
هناك دليل إضافي يتجسّد في آلاف المقاتلين الذين كانوا في الميادين السورية ـ العراقية، وهم من سلسلة دول آسيا الوسطى.. هؤلاء حرص الأميركيون على تسهيل فرارهم إلى بلدانهم الأصلية التي يوجد فيها أصلاً تنظيمات متطرفة ومخترقة من قبل المخابرات الغربية.
إنّ هذه التحضيرات الأميركية، انما ترمي إلى إشغال روسيا والصين بإرهاب يحاصرهما ويخترقهما.. ولأنّ الولايات المتحدة الأميركية تعرف أن لا قدرة لهذا الإرهاب على تدمير بلدان بحجم الصين وروسيا، فيجب أن يكون هدفها من إنهاك هذين البلدين، موجوداً في أماكن اخرى.
إنّ الحركة الأميركية الجديدة، تسعى إلى إعادة تشكيل أميركا اللاتينية وأفريقيا بمعزل عن التحاصص مع الصين التي استطاعت التموضع في أسواق أفريقيا بسلعها الرخيصة، وروسيا التي نجحت بتأسيس مواقع هامة لها في الجزائر وانغولا وغينيا ونيجيريا والسودان وكثير من الدول في أفريقيا الوسطى وجنوب أفريقيا.
وللبلدين أيضاً صلات قوية لها أبعاد استراتيجية واقتصادية في أميركا الجنوبية مع فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وبوليفيا والمكسيك واوروغواي وباراغواي، وبلدان أخرى، والبلدان قادران على كسب المزيد من الصداقات، لأنهما لا يريدان علاقات أيديولوجية كحالة الاتحاد السوفياتي وإنما علاقات تجمع بين الاستراتيجيا والاقتصاد.
ضمن هذه المعطيات يمكن استيعاب السيناريو الأميركي الخاص بتفجير آسيا الوسطى لتقليص الصعودين الصيني ـ الروسي ـ والتطوّر الهندي الكامن الذي بدأ ينتقل من الصعود الصناعي إلى امتلاك إمكانات عسكرية وفضائية.
إنّ ملامح صراعات بوذيّة، هندوسية، إسلامية وعرقية ليست بعيدة عن هذا النطاق المحيط بالهند وروسيا. كما أنّ أقلية الإيغور الاسلامية والتعددية العرقية في الصين لهي من الوسائل التي قد تتعرّض لها الصين في المراحل المقبلة بالتخطيط الإرهابي نفسه المستند الى عاملين: الدين والعرق والمدفوع من أجهزة استخبارات تعتمد على دراسات أكاديمية متخصصة تحت عنوان كيف نفجر البلدان المنافسة «للأحادية الأميركية».
وإذا كان بوسع الأميركيين التخطيط والتنفيذ على هذا النحو الخطير أفلا تستطيع البلدان المستهدفة الدفاع عن نفسها؟
هناك أولاً ضرورة تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا.. هي موجودة لكنها تتسم ببطء مشبوه لا يعادل وتيرة الاندفاع الأميركي للتدمير.. لذلك يبدو البلدان متمسكَيْن بالطابع الاستراتيجي لعلاقاتهما، لكنهما يواصلان نسج علاقات خاصة بمصلحة كلّ منهما حتى ولو أضرّت بالآخر، ولا ينسّقان إلا في الأمور الكبرى.
وهذا سببه، التلاعب الأميركي، الذي يعمد بين الحين والآخر الى تقريب هذه الدولة أكثر من تلك، والعكس صحيح في حركة لكسب الوقت ومنعهما من بناء استراتيجية عميقة لمجابهة نهج أميركي تدميري، يريد السيطرة على ثروات أفريقيا وأميركا الجنوبية والقسم الأكبر في الشرق الأوسط، خصوصاً إيران.
هناك ضرورة أخرى تتعلّق بأهمية التزام هذا الحلف الصيني ـ الروسي الاستراتيجي، بالدفاع عن إيران بما هي خط دفاع أساسي عن آسيا الوسطى، وبالتالي عنهما مباشرة.
فتفجير إيران، يجعل من آسيا الوسطى ملعباً أميركياً كبيراً معاوداً إسقاط كامل الشرق الأوسط في السلة الأميركية.
لماذا هذا الاستعجال الأميركي لإعادة تشكيل نفوذ قوي في أفريقيا وأميركا اللاتينية؟
يشعر الأميركيون باقتراب عودة منافسيهم إلى القرار الدولي، الأمر الذي يدفعهم الى الإمساك الحديدي بموازنات القوى والسيطرة على حصاد الثروات. وهذا كافٍ للمحافظة على أحاديتهم لنصف قرن جديد..
الصراع الدولي عاد إذاً إلى تأجّجه.. ولن تنتصر إلا القوى التي تنجح ببناء تحالفات على شاكلة التحالف الروسي الصيني الإيراني العراقي السوري، الوحيد القادر على إرباك الإمبراطورية الأميركية.
البناء