طريق الحرير الصيني: أميركا لا تسقط بالصراخ
فراس عزيز ديب
يوماً بعد يوم تزدادُ الخطوات التي تدعم الانعزاليةَ الأميركية التي كرستها تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هذهِ الانعزالية لا تتجسد فقط في خطابِ الكراهية أو الاستعلاء الذي يستفزّ الأصدقاء قبلَ الأعداء، لكنه كذلكَ الأمر يتجسَّد في السعي للانسحاب من جميعِ الاتفاقيات التي كانت الولايات المتحدة قد انضمت إليها في إطار تكريس النظام العالمي الذي مازلنا نعيش فيه.
من الاتفاق النووي مع إيران واتفاقية باريس للمناخ واتفاقية حظر الصواريخ النووية وصولاً قبل أمس إلى نيته الانسحاب من معاهدة تجارة الأسلحة الدولية التي لم تحظَ أساساً بتوافق دولي، جميعها خطوات وإن كانت على المدى الطويل تشكِّل نقاطاً لصالح الخصوم، إلا أننا لابدَّ من النظر إليها من زاوية أكثر واقعية لتحديد الدوافع والأهداف من هكذا انسحابات والتي يمكننا تلخيصها بما يلي:
الأمر الأول، أن هذه الانسحابات لا يمكن تفسيرها بشكلٍ اتوماتيكي على أنها تكريس لعنصريةِ أقصى اليمين المتطرف التي يعيشها ترامب، بل هي شعورٌ بفرطِ القوة الذي بات يوازي عملياً مرضاً عضالاً يسكن جسد السياسة الأميركية، وفرط القوة هذا لا يعني فقط أن ترامب يرفع شعار «أميركا أكبر من أي اتفاق»، بل هو بالنهاية مهلكة للولايات المتحدة ستجعلها عملياً تدفع الثمن حتى في العلاقة مع الحلفاء، لأن هذا الاتفاقيات بالنهاية التزام.
الأمر الثاني أن هذا الانعزال الذي يقوم به دونالد ترامب لا يمكن بأي حال من الأحوال النظرَ إليه كخطوةٍ سلبيةٍ بالمطلق بما يتعلق بمستقبل الولايات المتحدة، على العكس تماماً هذه القضية بحاجة لقراءةٍ واقعية لفهمِ ما يريدهُ الرجل، لأن الإصرار على فرضية أن ترامب «أبله» ومتهور يشبه إصرارَ البعض على أن «إسرائيل» ستُمحى بالتصريحات، فالحالة الانعزالية التي تهدف لنقل اقتصاد الدول من مرحلةِ المرض إلى مرحلة التعافي باتت هاجساً لدى كل زعماء الدول وليس ترامب فقط من يسعى لتطبيقها، لكن الفرق بين ترامب وغيره أن ترامب ليس سياسياً، بل هو رجل اقتصاد يحاول توظيف النظريات الاقتصادية لبناءِ مجدٍ سياسي وليس العكس.
أخيراً فإن النظرَ لهذه التصرفات من منطلقِ أنه ضياعٌ سياسي واقتصادي يودي بالاقتصاد الأميركي نحو المجهول هو يشبه إلى حد بعيد تلك النظريات التي نسمعها منذ عشرات السنين إلى يومنا هذا والتي تتحدث عن قرب انهيار الاقتصاد الأميركي، لا نعرف ما هي الأرقام والمؤشرات التي يستند إليها هؤلاء في استقرائهم هذا، لكن ما نحن متأكدون منه أن أميركا تسقط عندما يكون هناكَ بديل عن تحكمها بخطوط التجارة والاقتصاد العالميين بما فيها موارد الدول ورؤوس الأموال فهل بدأ الواقعيون من خصومها بتكريس هكذا خطوة؟
اختُتمت بالأمس القمة الاقتصادية «طريق الحرير» التي استضافتها العاصمة الصينية بكين بمشاركةِ ممثلينَ عن دولٍ يمثلون أكثر من ثلثي دول العالم. في الواقع فإن فكرةَ المشروع الاقتصادي لا تبدو جديدة، بل إن الرئيس الصيني شي جين بينغ كان قد أطلقها في العام 2013، والفكرة تحمل من البساطة ما تحملهُ من التعقيد فهي إن كانت قائمة على إعادة إحياء طريقِ الحرير الذي ربطَ الصين عملياً بأغلبِ دول العالم عبر الممرات البحرية وشبكة طرقٍ برية تساهم بتسهيل عملية التبادل التجاري، فإن إعادة العمل بها تحتاج عملياً لمشاريعَ كبيرة في مجال النقل والبنى التحتية، لكن الأهم من كل ذلك أنها تحتاج لتكريس نظامٍ مالي يتمكن عملياً من الانطلاق والتفلت من سيف النظام المالي العالمي الذي تتحكم به اليوم الولايات المتحدة، فهل يمكننا فهم الخطوة تلك على أنها انطلاقة حقيقية تستهدف الهيمنة الأميركية، عندها سيكون السؤال المنطقي:
ما هو رد فعل الولايات المتحدة؟
لكي نفهم ردةَ فعل الولايات المتحدة على كلِّ حراكٍ اقتصادي يستهدِف الخروج من عباءتها علينا العودة لعدةِ تواريخ مهمة:
الأول هو العام 1991، عامَ اندلاع الحرب اليوغسلافية في قلب أوروبا، يومها أرادت الولايات المتحدة وأدَ انطلاقة الاتحاد الأوروبي في مهدها، لدرجةٍ اضطر فيها الأوروبيون للتصويتِ على معاهدةِ ماسترخت 1992 الناظمة لعمل الاتحاد الأوروبي على وقعِ النيران المشتعلة وسط أوروبا والتي لم تنطفئ إلا بعدَ ما يقارب العقد من الزمن.
الثاني وهو العام 2011، تاريخ بدء الحرب على سورية، يومها كان هناك رؤية قدمها الرئيس بشار الأسد عن «ربط البحار الخمسة»، وهي فكرة تعتمِد على الاستفادةِ من الموانئ المتاحة بين ثلاث قارات على الأقل لتسهيلِ نقلِ وتبادل البضائع، هذه الفكرة عملياً ردت عليها الولايات المتحدة يومها بإشهار ورقة ربيع الدم العربي، وأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم، بمن فيهم القطريون والأتراك.
الثالت وهو العام 2017 يوم هددَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كوريا الديمقراطية ومن على منبرِ الأمم المتحدة بتدميرها بالكامل إذا ما اضطرت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها أو عن حلفائها، يومها لم يكن الكلام موجهاً لكوريا الديمقراطية كدولةٍ مستقلة بل لما تمثله هذه الدولة وبمعنى آخر:
كان هدف ترامب رفع سقف التوتر في شبهِ الجزيرة الكورية إلى أعلى الدرجات بما فيها المواجهة المباشرة، لأنه يدرك أن السلام الذي تعيشه المنطقة هناك هو أحد أهم أسباب الصعود الصاروخي للصين، لكنه اصطدم يومها بهدوءٍ صيني يثير الإعجاب ورفضٍ مبطن من قبلِ حلفائه في كوريا الجنوبية واليابان خوضَ حربِ الآخرين، فكان البديل عملياً محاولةَ استمالة الزعيم الكوري الديمقراطي كيم جونغ أون برفع راية الدعوة للمفاوضات والتي فيما يبدو فشلت فشلاً ذريعاً ليتجسدَ هذا الفشل بالزيارة الأخيرة التي قام بها كيم جونغ أون إلى روسيا والكلام المتبادل بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أهمية الحفاظ على نقاط القوة بما فيها البرنامج النووي للحفاظ على سيادة الدول.
هكذا تجاوزت الفكرة التي يعمل عليها الصينيون المطب الأول، لكن هذا المطب حكماً لن يكونَ الأخير تحديداً أنها ليست مجرد ربطٍ للبحار الخمسة أو تحويل عددٍ من الدول إلى تكتلٍ اقتصادي، بل الفكرة بالأساس تقوم على فرضية إطفاء النيران المشتعلة حولَ العالم بسلاحِ التطور والانتعاش الاقتصادي، إذ إن كلفة المشروع المقدرة بثمانية تريليونات دولار تبدو ضخمة وبحاجة لاستقطاب كبار رؤوس الأموال، والأهم أنها بحاجةٍ إلى نوع من الرخاء الأمني الذي سينتُج عنه رخاء اقتصادي وليس العكس، لكن المطب هنا أن من لا يزال يتحكم بتلك النيران المشتعلة يرى فيها سلاحاً بديلاً لوأدِ هذا المشروع من جديد، أما المطب الأخير فهي فكرة وجود القائد وبمعنى آخر: إن بناء التحالفات أساساً يعتمد على وجود قائدٍ، ربما ما ساعد الولايات المتحدة على إكمال التحكم بحلفائها أنهم مسلمون بفكرة وجودها كقائدٍ لديه بالنهاية كلمة الفصل، هذا الأمر تجلى عبر العقود الماضية من تبعيةٍ عمياء لكن هنا يبدو الظرف مختلفاً، أنت تريد أن تبني تحالفاً من المتناقضات فمن سيقود هذا المشروع هل هم الروس أم الصينيون؟ دون أن ننسى مثلاً أن دولاً ناشئة كإيران وتركيا يقدمون أنفسهم كلاعبين دوليين، لكن بالمطلق تبدو هذه الأسئلة سهلةً أمام التساؤل الأهم: أينَ نحن من كل ذلك؟
إن قلنا نحن «كسوريين» فلنتعلم من ما فعلته الصين، باختصار يحق للشعب الصيني الصديق أن يُفاخرَ بأن دولتهُ كسرت كل حواجز الخوف، بل وداست كل النظريات الاقتصادية والسياسية التقليدية بما فيها تخويف الناس من فكرة «الحزب الواحد»، ليس هذا فحسب ولكن ما حققوه أثبت أن الانتماء لفكرة والدفاع عنها هو بالنهاية صراع وجود، هم لم يفعلوا أكثر من فرضيةِ إقصاء المقصِّر ومحاربة الفاسد ليتربعوا اليوم على عرش الازدهار الاقتصادي في العالم؟
أما إن وسّعنا الدائرة للتعريف بـ«نحن»، فأخشى ما أخشاه أننا من ما زلنا مقتنعين بأن عدونا يتفتت بالأيديولوجيات، ويسقط بالدعاء والصراخ.
الوطن