النقيب «نازك العابد» أول ضابطة عربية.. السورية التي شاركت في معركة ميسلون
هي أول ضابطة في الجيش السوري وأول من يحمل رتبة عسكرية على التراب العربي، وعرفها الغرب وتغنى بها –بجان دارك العرب- ليبقى لقب (سورية) أكثر ما يليق بتلك الشريفة المنسية.
النقيب (نازك العابد) اسم اخترق حدود الزمن، ليبقى حاضراً رغم الغياب، في ذاكرة ووجدان كل شخص التمس شرف العلم، وسعى جاهداً الى الخلاص من القضبان.
مع كل لقب حملته (العابد ) ذكرى ووسام نالته تلك المرأة السورية عن كد وجدارة، فهي خرجت عن السائد في مجتمع -يلقب بالذكوري-، لكن التزامها بالقيم وسموها بالأخلاق الرفيعة جعل ذاك المجتمع يحترمها، بل يتبعها أيضاً… فما قصة تلك المرأة التي كانت آخر من حمل البطل يوسف العظمة في معركة ميسلون الشهيرة…؟
في مقال حمل عنوان «حكاية امرأة مناضلة» تحدث عنها الصحفي الكبير الراحل «عبد الغني العطري» ملخصا بعضا من سيرتها الذاتية وفيه قال: «لم يشهد تاريخنا الحديث مثيلاً لنازك العابد في صدق الوطنية والكفاح المتواصل والشجاعة التي قل نظيرها».
أبصرت «نازك العابد» النور عام 1887, والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق، تولى محافظة الكرك، وولاية الموصل أواخر الفترة العثمانية، وأمها فريدة الجلاد، من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي. .. وعليه نشأت نازك في بيئة النخبة، تعلمت مبادئ اللغات العربية والتركية في المدرستين الرشيديتين الدمشقية والموصلية ودرست الفرنسية في مدرسة الراهبات في الصالحية في دمشق، كذلك تعلمت مبادئ الانكليزية والألمانية، كما أتقنت التركية عندما نفيت مع عائلتها في الحرب العالمية الأولى إلى «أزمير» فدخلت مدرسة الفردوس للمرسلين الأميركان.
لتتابع فيما بعد تحصيلها العلمي في المعاهد الخاصة للتعليم إضافة إلى تعلم فنون التصوير والموسيقا «البيانو»، واهتمام جلي بالإلمام بعلمي التمريض والإسعاف.
بدأت نشاطها مجرد عودتها من المنفى أواخر 1918م بالكتابة، فكتبت في بعض الصحف كـ«لسان العرب» واتخذت من مجلتي «العروس» منبرا لآرائها، أسست وترأست عقب الثورة العربية الكبرى عام «1916» جمعية «نور الفيحاء», وعلى إثرها عينها الملك «فيصل بن الشريف حسين» رئيسة لجمعية النجمة الحمراء عام 1920، لتصدر أول شباط /1920/ م مجلة حملت اسم الجمعية «نور الفيحاء» بهدف النهوض بالمرأة, كذلك أسهمت في تأسيس «النادي النسائي الشامي» ومدرسة بنات الشهداء ومكتبتها، كذلك أسهمت في إنشاء مصنع للسجاد -كان يخصص ريع المبيعات لمصلحة الأيتام. شاركت نازك، بوعي وبشعور بالمسؤولية، في الحياة السياسية، فحازت ثقة الملك فيصل… وصدر أمر ملكي بمنحها رتبة عسكرية فخرية (نقيب). ليستمر نضالها ضد الاستعمار- مع شروع الفرنسيين بالتمهيد للغزو وإنذار الملك فيصل بالمغادرة /1920/ بادرت إلى إنشاء مستشفى للجرحى وهيأته في بضعة أيام؛ ومع خيبة الأمل كشفت نازك اللثام عن شجاعة قل نظيرها لتمضي حاسرة الوجه بلباسها العسكري مخترقة صفوف الثوار مدافعة عن الوطن والحرية تحفز الهمم وتوقد حماسة المدافعين، وبصحبة وزير الحربية يوسف العظمة في ميسلون 24 تموز1920 تفقدت الجند، ويقال إنها هرعت إليه بعد إصابته في المعركة وإنه أسلم الروح بين يديها، وبدخول القوات الفرنسية أرض الوطن، بدأت «نازك العابد» نضالها ضد المستعمر لتقف مع نساء دمشق في الاحتجاج ضد الانتداب الفرنسي؛ وعليه بدأت «نازك» مسيرتها النضالية، فضاقت أعين الانتداب الفرنسي بنشاطها، فأغلقت المجلة والمدرسة، ومنعتها من عقد ندوات خاصة وعامة، فما كان منها إلا الالتحاق بصفوف المقاومة السرية لمقارعة المستعمرين.
فنفيت عن الوطن بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى دمشق نتيجة مواقفها إلى اسطنبول مدة عامين (1920 – 1922) وعند عودتها رصد الفرنسيون تحركاتها وتعرضت لمضايقات شتى فاضطرتها للجوء إلى شرق الأردن، إذ أصيبت بخيبات لم تكن تتوقعها، فراحت تلتمس لقضية بلادها آفاقاً واسعة، وساعدتها شجاعتها ويسارة عيشها على التجوال في أميركا وعواصم الغرب شارحة واقع بلادها ومطالب قومها الوطنية، على زعماء السياسة والصحافة، فحظيت بالإعجاب والتقدير، ونوهت الصحف الغربية بجرأتها وبطولتها ولقبتها بـ«جان دارك العرب» وجعلت الرحالة والكاتبة الانكليزية «روزيتا فوريس» من مواقف نازك العابد حبكة لروايتها «سؤال» التي نشرتها عام 1922.
طال تجوال نازك بعيدة عن أهلها ووطنها، فعادت إلى الوطن، وتحت الإقامة الإجبارية عاشت في مزرعتها الخاصة في ضواحي دمشق، وهناك تعايشت مع أهل الغوطة الشرقية، فساعدتهم في تطوير العمل الزراعي، وأوقدت فيهم روح الثورة على المستعمر, فكانت أحد ثوار ثورة 1925، إذ عملت بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال غير آبهة بالخطر.
تزوجت نازك عام 1929 محمد جميل بيهم الذي مثل بيروت في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق عام 1920… وانتقلت للإقامة في بيروت وأسست هناك جمعيات اجتماعية عدة منها: جمعية المرأة العاملة، ليعود نضالها السياسي ومع تأجج الثورة الفلسطينية الكبرى لتشارك إلى جانب رفيقاتها العربيات في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة، وحذرت في كلمتها امام المؤتمر من مساعي الصهيونية لتهويد فلسطين. لتؤسس مع وقوع النكبة 1948، وتشرد آلاف الفلسطينيين جمعية «تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين» واستمرت في رئاستها حتى وفاتها، وبلغ عدد منشآتها نحو 22 مدرسة وميتماً ومشغلاً، وتكاد تذكر العابد كأهم من عَمِلَ على تأهيل النساء .
رحلة العابد لم يثنها الزمن…ففي السبعين من عمرها أسست لجنة مهمتها تثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كلها. لتنتخب عام (1959م) رئيسة لها، كما كرمت في أول احتفال بعيد الأم في لبنان يقام على مستوى لبنان.
توفيت نازك العابد في العام نفسه 1959م عن عمر ناهز 72 عاماً، قضتها في النضال في سبيل عزة بلادها وصون كرامتها وإعلاء مستوى وعي شعبها، ودفنت في مقبرة العائلة في باب الآس في حي الميدان في دمشق، لتبقى ذكراها راسخة في العقول والقلوب.