نارام سرجون:درس في الطوائف لوليد جنبلاط
أعتذر منكم جميعا أنني سأخذكم اليوم في زيارة الى وليد جنبلاط وأنا أعرف ان بعضكم سيتركني ويرفض ان يسير معي مترا واحدا الى بيت هذا الجقل .. وبعضكم سيوبخني انني أهدر له وقته او انني أهنته .. او انني أسير به على نفس الطريق الذي صار يعرفه ويسير عليه وهو مغمض العينين .. فمن منا لايعرف وليد بيك جنبلاط .. الوصولي المتملق والمتقلب والذي له باع طويل في تغيير أزيائه وبزاته وأوليائه وأسياده .. فمرة يكون بزي مسكين ومتسول درويش يدعو للمتصدقين عليه ومرة يرتدي ثياب العسكريين وأخرى يصبح بربطة عنق .. ويتحدث بلباقة .. ومرة يتحدث كأنه حارس في ملهى ليلي ..
ولكن ورغم ان جنبلاط لايساوي شيئا في هذا الشرق لأنه لايقدر ان بكون زعيما من زعماء الشرق .. فالرجل ضئيل الحجم وقليل الوزن لأنه يتصرف على مقاس زعيم طائفة وليس علبى مقاس زعيم اقليم ووطن وشرق او غرب .. وهو لايرى في الموحدين الدروز قوة يمكنها ان تنافس الا طوائف صغيرة وتكسب المعارك في بلديات .. ويحرمها من حقها في ان تطمح لان تصل الى المعالي بين الامم .. وتصبح في معادلات التاريخ قوة تاريخية خارقة .. وهذا هو قدر الطوائف التي يحكمها زعماء الطوائف الصغار الذين أكبر شيء يكونونه هو زعامة مفصلة على مقاس عزائمهم فيفصلون الطائفة على مقاسهم الصغير جزء ..
ومشكلة هؤلاء الزعماء الصغار هي انهم لايصدقون ان في الشرق الذي يعيشون فيه زعماء على مقاسات دول عظمى وليست على مقاسات الطوائف.. وهؤلاء الزعماء لايشبهون جنبلاط وامثاله وليست مقاساتهم صغيرة بمقاسات الطوائف .. فكل الطوائف دون استثناء صغيرة في الأوطان مهما كانت حجمها .. لأن القانون الطبيعي هو ان اكبر طائفة تساوي اصغر طائفة طالما ان الطائفة ترى نفسها جزءا مختلفا عن الكل .. فقيمة الطوائف واحدة مهما تغيرت حجومها او كانت اغلبية او اقلية.. فالطائفة طائفة مهما كبرت او صغرت .. فهي لها اطار ضيق عقائدي وفكري ودورها محدود في بيئتها الخاصة.. ولاتوجد طائفة تنطلق خارج حدودها العقائدية وتخشى الاندماج خوفا على نفسها من الذوبان والضياع لأن بناءها وصمام امانها هو الانغلاق والاقفال ..فالطوائف تخشى الخروج من حدودها خشية ان تفقد خصوصيتها ولذلك يخشى زعماؤها ان يخرجوا بها أيضا ويبقون رهائن لها وتبقى هي رهينة لهم.. ولاتقدر طائفة على الخروج من قوقعتها وحدودها الا اذا خرجت في اطار الكل .. اطار الوطن الذي يحمل كل الطوائف وتحمله كل الطوائف فلايمكن لطائفة ان تحمل وطنا ولايمكن لوطن ان يعيش بطائفة.. ولذلك نجد ان كل الحضارات تمددت عندما كانت بلا طوائف وتوقفت عندما ولدت فيها الطوائف .. والمسلمون كغيرهم تمددوا طالما كانوا وحدة متكاملة وعندما ظهرت طوائفهم وتبلورت في أواسط العهد الاموي صارت الطوائف تأكل بعضها وتوقف التمدد خارج حدود الدولة نهائيا وحتى هذه اللحظة ..
ولذلك وليد جنبلاط مهما تنافخ ونفخ صدره فانه سيبقى أسير زعامته الطائفية ولن يقدر ان يكون الا زعيما صغيرا ولايقدر ان يصنع لطائفته دورا على مستوى العالم بل على مستوى جبل صغير في لبنان الصغير .. ويستحيل ان يقدر على لعب دور كبير كزعيم كبير ويبقى قطعة شطرنج يتحرك وفق مصالحه كزعيم لمجموعة صغيرة يخدمها وتخدمه .. يحميها وتحميه.. ولاسبيل الى ذلك الا بخروجه من سلاسل الطائفة التي ربط نفسه بها وألقى مفاتيح القيود في البحر ..
جنبلاط قال انه لديه معلومات عن ان الاسد تواصل مع نتنياهو عبر وسيط وطلب السماح له بانشاء دوبلة طائفية صغيرة له في الساحل لادخل لها بالصراع العربي الاسرائيلي ..
الغريب ان كل من يتحدثون عن الأسرار لايتذكرون الأسرار في أشد لحظات العداوة ولكنهم يتذكرونها في لحظات أخرى .. والأغرب ان الأسئلة التي تقطر من هذه الاسرار هي أهم من الاسرار ومع هذا فلايكترث المسربون بالاجابة عن الاسئلة لأنهم يعولون على جمهور لايسأل ولايستجوب بل يستمع للمواعظ والوعاظ والاحاديث النبوية التي يسردها الرواة دون تبين وتدقيق واستجواب منطقي ..
فمثلا عندما اشتد انتقاد الرئيس الراحل حافظ الاسد لمعاهدة كامب ديفيد التي ابرمها السادات أخرج الساداتيون شهادة لطبيب السادات بعد اغتياله قال فيها انه كان في زيارة للجبهة السورية مع الرئيس السادات الذي همس له في أثناء الزيارة بسر خطير وهو ان الجولان باعها الرئيس حافظ الاسد للاسرائيليين .. ولم يكن السادات على قيد الحياة عندما تحدث طبيبه عن هذه الواقعة .. ولكن السؤال الذي لاتجيب عنه الشهادة البائسة هو: لماذا ورغم كل الحملات الاعلامية المتبادلة بين الاسد والسادات لم بقل لنا الطبيب المذكور لماذا لم يخطر ببال السادات ان يقول تلك المعلومة للشعب المصري والسوري وهو المعروف بلسانه اللاذع والوقح في الخطابات .. بل خصه هو بها من بين خلق الله اجمعين؟؟ بل لماذا أقدم السادات على التحالف مع الرئيس الأسد في حرب اوكتوبر وخاض الحرب مع رجل يؤمن السادات انه باع الجولان وانه لن يحارب معه وسيتركه وحيدا في المعركة؟؟ هل هذا منطق؟؟ بل على العكس ان من زعم انه باع الجولان بقي يقاتل في حرب استنزاف ثمانين يوما وحيدا بعد ان تركه السادات يقاتل وحده وتخلى عنه في اليوم الرابع للحرب فقط وذهب لمراقصة غولدا مائير.. ويومها شهد العالم كيف باع السادات كل فلسطين وكل القدس وثلاثة أرباع سيناء .. واجّر الربع الباقي للشركات متعددة الجنسيات ..
وبالعودة الى وليد بيك جنبلاط .. فان الاسرار التي احتفظ بها لنفسه تأبى الا ان تنقط منها أسئلة وتتسرب منها مياه الفضول لتسأله: لماذا خبأت الاسرار في وقت كان ثورجيو سورية يحتاجون الى شهادتك القيمة؟؟ لماذا تركت خصمك الاسد ينتصر ولم تعط السر العظيم لأعدائه ليقتلوه به؟؟ ثم كيف يرفض نتنياهو هذا العرض السخي بأن يكون له انطوان لحد على الساحل السوري؟؟ الا اذ كان نتنياهو حريصا على وحدة التراب والشعب السوري ..
الغريب ان وليد بيك جنبلاط لم يسعفه ذكاؤه ليتذكر انه لايقدر ان يعيب على أحد اتصالا بالاسرائيليين لأنه هو نفسه استقبل شيمون بيريز في قلب المختارة وابلغه بيريس بمودة فائقة في اللقاء الشهير انه )اتفق مع شارون إنّ جنبلاط حرّ في التنقّل أينما شاء، وأنّ إسرائيل لن تُصادر الأسلحة التي يملكها وعناصره، بما في ذلك الدبابات لأنه عزبز عليهم(.. والنصيحة هنا لجنبلاط هي ألا يستعمل هذه الاسرار لأن سير المعارك في سورية أثبت ان الأسد لم يكن يحارب من أجل دويلة طائفية على الساحل .. بل كان يحارب في حلب وفي درعا وفي دير الزور وفي البادية والحسكة .. وحول الساحل السوري الى ملاذات لجميع السوريين الذين انتقلوا اليه كما انتقل الروس من امام هتلر الى أعماق سيبيرية التي تحولت الى خزان للمحاربين ومأوى للاجئين الروس ..
أما لماذا لم يتصرف الاسد كوليد جنبلاط فتفسيره بسيط وهو أن الاسد كان يرى نفسه كبيرا وزعيما لوطن وليس لطائفة.. اما زعماء الطوائف فكانوا يريدونه مثلهم زعيما لطائفة وكان الغرب يريد ان يفصله زعيما على طائفة .. ولكن الاسد الذي أريد له ان يتقلص الى زعيم لطائفة تكرس زعيما لكل الطوائف .. لأنه يدرك ان رفع قيم الطوائف لايكون بتسييجها بالحدود الصغيرة والاحلام الصغيرة والمكاسب الصغيرة بل برفع سوية تحدياتها ووضعها أمام تحديات ضارية ومنافسة على مستوى العالم.. وكما نعرف كمثال ان السيد حسن نصر الله ارتفع بطائفته ارتفاعا شاهقا عندما أخرجها من حدود الصراعات الصغيرة الطائفية الى مستوى مواجهة الحركة الصهيونية العالمية واسرائيل واميريكا .. مما جعل طائفته الصغيرة اللبنانية ترتقي وترتفع الى عنان السماء وينظر لها باعجاب في كل العالم حتى ان بقية الطوائف في الاقليم خشيت ان يكون لهذا الاعجاب والافتتان بالطائفة – التي أنجزت التحدي مع أعتى وأشرس القوى الدولية من الصهاينة وحلفائهم الامريكيين والغربيين – انعكاسات على نظرة الطوائف الاخرى الى نفسها بنوع من الدونية ..
فقررت قوى الطوائف العربية على اختلاف اشكالها هزيمة حسن نصر الله وطائفته بالتحالف مع اسرائيل والغرب .. لأن ارتقاء الطائفة فوق هموم الطوائف هو مايجعلها تحس بالتفوق والعنفوان والفخر والثقة بالنفس وتفق العقيدة .. وكذلك فان الأسد بدل ان يلعب لعبة الطوائف ويزج بطائفة لتواجه طائفة أخرى أو طوائف أخرى فانه وضعها الى جانب بقية القوى الوطنية السورية في مواجهة أعتى قوة في العالم .وهي الناتو وبرامج الحركة الصهيوينة .. فرفع هذا من قيمتها ومكانتها ومن مكانة الطوائف المذابة في الوطن ورفع من قيمته ومكانته كزعيم عالمي .. فوجد جنبلاط نفسه ضئيلا وعرف العقلاء من طائفته انه حرمها من ان تكبر وان يكون لها دور مجيد في الشرق .وكان بامكان زعيمها ان يحملها الى النجوم كما فعل حسن نصرالله الذي لم يعد زعبما لطائفة بل زعيما عالميا وصار الجنوبيون ليسوا مجرد فرقة شيعة بل فرقة مقاومة أممية .. وصارت طائفته الصغيرة في عيون العالم من أكبر الطوائف وأعلاها مرتبة لأنها وضعت نفسها في سوية التحدي مع أميريكا أعتى قوة في العالم.. ولم تضع نفسها لتنافس طائفة اخرى تتراشق معها بالتفائه والعبثية ..
ومن هنا تفهم لماذا يريد جنبلاط أن يقنعنا ان الاسد عرض على نتياهو ان يبيعه طائفة .. والسبب هو ان جنبلاط مسخ جدا من حجم الدروز اللبنانيين الذين كان بامكان زعيم كبير ان يضعهم في دور تاريخي عالمي وعظيم يتنافس مع نصر الله فيه.ففشل وبدا يلاحظ ان دور زعيم الطائفة يتآكل فحاول اقناع حمهوره انه ليس وحده من يفكر بذلك بل حتى الرئيس الأسد .. بدليل )قالوا له كذا وكذا( .. ولايجب عليهم ان ينظروا الى زعيمهم جنبلاط على انه مسخ دورهم وامكاناتهم وحرمهم من فرصة التفوق التي يستحقونها ووضعهم في دور ضئيل وصغير وممسوخ .. وزعيمهم لادور له الا بيضة قبان في الانتخابات البلدية .. وفي حفلات عشاء السفارة الامريكية .. وعندما يحول زعيم طائفة طائفته الى بيضة قبان فان العالم ينظر الى زعيمها كدجاجة تبيض بيضا للقبان ليس الا ..
المضحك في الامر ان جنبلاط زعيم طائفي وهو يبحث عن دويلة درزية له وكان يحاول بالترغيب والترهيب اقناع دروز سورية بالالتفاف حوله .. ولكن دروز سورية يبحثون عن أدوار اكبر لهم .. وطموحهم ليس دوبلة صغيرة لزعيم وبيضة في قبان هذا وذاك .. فهؤلاء أنتجوا زعامة عالمية مثل زعامة سلطان باشا الاطرش .. أستاذ السوريين ومعلمهم وقائدهم .. وأستاذ الثورات في الشرق التي ثارت على ابناء وجيوش سايكس وبيكو .. أي على امبراطورريتين كبيرتين هما الفرنسبة والبريطانية .. فسلطان باشا كان برى نفسه بسوية امبراطورية فرنسا وليس زعيما للدروز في جبل .. وجيل سلطان باشا في الجبل رفض ان يكون بيضا في القبان .. وترك البيض لذلك الاقطاعي في المختارة .. الذي كان يوما يستقبل بيريز وشارون .. ويشرب الشاي مع أمير دروري قائد الجيش الاسرئيلي الذي اجتاج لبنان .. ومع ذلك يقول هذا الاقطاعي الصغير وتاجر البيض .. ان الاسد اراد دولة على الساحل وانه طلبها من نتنياهو فيما يرى العالم ان نتنياهو ذهب الى موسكو وجاب العالم كله يتوسل ان يقبل الاسد باعادة خطوط الهدنة على الجولان وليس على الساحل .. ولايريد منه اي شيء بعد ذلك .. وسيكسر نتنياهو كل البيض الذي كان يضعه في القبان .. من بيض الخوذ البيض الى جبهة النصرة .. الى بيض الثورة .. وحتى بيضات وليد جنبلاط .. التي لم تعد تنفع اي قبان في الشرق ..
وكما يكرر وليد بيك عباراته لنفهمها سنقول له رسالة .. ليفهمها .. ليفهمها .. في نهاية المقال .. نعم في نهاية المقال .. ونترحم على أوسكار .. أوسكار .. .. فقد كان بالسياسة والقيادة اعرف من صاحبه.. نعم من صاحبه .. واتمنى .. يكون وليد بيك .. نعم .. أتمنى .. ان يكون قد فهم .. قد فهم .. المقالة الجنبلاطية .. وفهم ان الطوائف .. الطوائف .. لايقودها .. لايجب ان يقودها من لايرفعها .. يرفعها .. الى النجوم .. نعم النجوم .. النجوم..