إيران إلى تجربة صمود جديدة: لا «تصفير»، لا تفاوض، لا حرب
خليل كوثراني
تدخل طهران، ابتداءً من اليوم، طوراً آخر في صراع الإرادات مع الولايات المتحدة، تصرّ على أن مآلاته لن تكون إلا كما سابقاته: لا قبول بشروط واشنطن تحت الضغط. وضعت إيران اللمسات الأخيرة على برنامج مواجهة إلغاء الإعفاءات من العقوبات على النفط للدول الثماني، سياسياً واقتصادياً، وهي واثقة بأنه سيجنّبها الاضطرار إلى تحرك تصعيدي لن تتردّد في القيام به إذا تخطّت واشنطن الخطوط الحمر.
بالنسبة إلى إيران، اليوم، مع سريان إلغاء الإعفاءات من العقوبات الأميركية، هو كما قبله. هذا في السياسة، ولو اختلف الأمر لدى الأسواق، علماً بأن التأثيرات الكبيرة لم تظهر بعد، سواء داخل إيران أو في الأسواق العالمية. حسمت طهران قرارها: تكييف الاقتصاد، والالتفاف بما تيسّر على الحظر، والتمسّك بإنتاج الغاز والنفط وتوريدهما بما يفشّل هدف «التصفير» الذي وضعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ذلك من ناحية البرنامج العملي للمواجهة، أما سقف الموقف السياسي فهو عند التزام قرار رفض التفاوض مع واشنطن في هذه الفترة، والمضي في «التحدّي» حتى كسر محاولات «التركيع» الأميركية. هذان القراران سيطبعان استراتيجية الجمهورية الإسلامية في المرحلة المقبلة، وسيشكلان سقف تحرّكها. وهما يستلزمان أن «الحرب» بمنحاها الساخن والمباشر ستكون مستبعدة من خيارات طهران وردات فعلها، طالما أن التصعيد لا يصل إلى التعرّض لحرية حركة النفط الإيراني في البر والبحر، فلا تضطر طهران إلى إغلاق مضيق هرمز أو عرقلة الحركة فيه رغم الإعلان عن «جاهزية» القوات البحرية، وطالما أيضاً لم يبلغ الأمر حدّ «خنق» الإيرانيين و«تصفير» تصديرهم للنفط على أرض الواقع، الأمر الذي يعني تأجيل الحديث عن عدم التعاون الأوروبي، ومصير بقاء إيران في الاتفاق النووي كورقة لم تصل طهران إلى الحاجة لرفعها، في ظلّ القدرة على التكيّف مع الظروف المستجدّة وتفريغ الضغوط من مفعولها بالسياسات الهادئة والنَفَس الطويل.
المواقف الإيرانية التي أبداها مختلف المسؤولين في طهران في الأيام القليلة الماضية في معرض الرد على التصعيد الجديد، لا تعني أن المرحلة التالية لإلغاء الإعفاءات ستكون نزهة، إنما تتطلب آليات معقّدة لتجاوز العراقيل. يصرّ الإيرانيون على التذكير أنهم خبراء في استعمال هذه الآليات، ما يمنحهم ثقة لتخطي العقبات. نتيجة كل ذلك، وفق التقديرات الإيرانية، مسار آخر من تفعيل سياسة الصمود بوجه عاصفة الضغوط المستجدّة التي تراهن عليها إدارة واشنطن، ولا يعني هذا رفض المفاوضات بالمطلق، بل تثبيت معادلة اللاءات الثلاث التي لطالما تمسّكت بها طهران: لا إملاءات، لا تفاوض تحت الضغط، لا تفاوض على أصل الحقوق السيادية. والطريق لتثبيت هذه المعادلة لاءات ثلاث أخرى هي برنامج عمل المرحلة: لا «تصفير» لصادرات النفط، ولا تفاوض مع واشنطن الآن، ولا ذهاب نحو حرب يريدها صقور داخل الإدارة الأميركية. تؤمن طهران بأن استراتيجيتها تلك، بما تحت يديها من مساحة تحرّك في ملفات المنطقة، ستقود من جديد إلى إشعار «العدو» بـ«الندم»، وبأن «كلفة الضغوط أكبر» وبأن «النفوذ الإقليمي» لإيران وقدراتها العسكرية يتضاعفان وسط الضغوط لا العكس.
سيكون للموانئ والشركات الصينية دور مؤثر في الالتفاف على العقوبات
في المواقف الإيرانية، تتوزع التوجهات إلى معسكرين اثنين. الأول لا يرغب في أي مفاوضات مع الغرب ولا يؤمن بجدواها، يمثّله فريق المحافظين بشكل رئيس. أما الثاني، الذي يمثّله تيار الوسط أو «الاعتدال» بزعامة الرئيس حسن روحاني، وقريب منه موقف الإصلاحيين، فيرى في التفاوض ضرورة لتثبيت حقوق إيران دولياً وحفظ مكانتها ومكتسباتها وتحييد الذرائع لاستهدافها. ما بات معروفاً أن الجميع في إيران اليوم، بفضل الهجمة الخارجية، باتوا يتقاطعون عند موقف واحد موحّد: «لا تفاوض في هذه المرحلة» تريده الإدارة الأميركية من بوابة الضغوط الاقتصادية لصياغة اتفاق نووي جديد يشمل الملف الصاروخي والدور الإقليمي. قاعدة ثبّتها قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني، حين نبّه قبل يومين إلى أن الأميركيين «يحاولون جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات عبر العقوبات الاقتصادية»، معتبراً أن التفاوض مع الولايات المتحدة في ظل الظروف الحالية يعدّ بمثابة «استسلام». من يمكن عدّه رأس «المتشدّدين» بعيون واشنطن في فريق المعنيين بالسياسة الخارجية الإيرانية، بدا في موقفه في تناغم مع الحكومة الوسطية ورئيسها ووزير خارجيتها، حين حصر رفض التفاوض بالمرحلة الحالية. وفي هذا مساعدة لروحاني الذي وضع شروطاً للتفاوض مع واشنطن، تتمثّل في العودة عن العقوبات والاعتذار عن لغة التهديد. وفضلاً عن إجماع المؤسسات على سبل المواجهة واستراتيجيتها، يجد الشارع الإيراني، بساسته ونخبه ومواطنيه، نفسه أمام أكثر الطرق العقلانية المتوافرة بوجه سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي توسم بالبلطجة والتنصل من المعاهدات والاتفاقيات، حيث لم تعد المسألة «فرادة» إيرانية، في حين تمارَس هذه السياسة على الصين وأوروبا، فما جدوى أن يرضخ الإيرانيون وهم الذين صمدوا وحدهم بوجه الضغوط في السابق ونجحوا في تجاوزها؟! ويردد الإيرانيون مع مراقبين في العالم أسئلة في شأن ما وصلت إليه سياسة الضغوط هذه في الملفات الأخرى، وبالتالي إلى ماذا ستوصل مع إيران.
بالنسبة الى الأخيرة، الإجابة واضحة، لكن فضلاً عن التمرّد لدى بعض الدول كالصين وتركيا والعراق، فإن استمرار الحال مع الدول التي سترضخ، كالهند، أو استمرار الأسعار واستقرار الأسواق على حاله، أمور ليست واضحة. وأكبر مؤشر على ضبابية المشهد اشتراط وزير النفط السعودي، خالد الفالح، لنجاح مشروع العقوبات ضد إيران، اتفاقاً روسياً أميركياً، في حين أمل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على هامش مشاركته في منتدى «حزام واحد، طريق واحد» في العاصمة الصينية، أن لا تزيد السعودية إنتاجها النفطي لتعويض أي انخفاض محتمل في الصادرات الإيرانية، مبدياً تمسكه باتفاق «أوبك بلس» لخفض الإنتاج. التقدير التقني لـ«أوبك» ليس بعيداً من هذا، إذ أكد الأمين العام للمنظمة، محمد باركيندو، الذي استضافته طهران أمس في رسالة واضحة بالتزامن مع انتهاء الإعفاءات، أن «من المستحيل استبعاد النفط الإيراني من السوق».
ومن اليوم، ينتظر من الصين، الزبون الأول للنفط الإيراني، القيام بدور أكثر فعالية في مسار الالتفاف على العقوبات، يشابه دورها في جولة العقوبات السابقة. ففضلاً عن تمرد بكين السياسي على العقوبات، سيكون للموانئ والشركات الصينية دور مؤثر في الالتفاف على العقوبات كوسيط تجاري، سيعود عليها بالفائدة، بمعزل عن النفط الذي يشتريه الصينيون لحاجتهم (أكثر من 585 ألف برميل يومياً) والذين سيستمرون في شرائه.
تدخل إيران والمنطقة والعالم مرحلة تتسم بعضّ الأصابع. نتيجتها، وفق وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف، أن طهران «لن تركع». وهي، وإن تكاد تكون ضغوطاً غير مسبوقة وفق الرئيس روحاني، إلا أن إيران التي لم تبدأ الحرب، فهي كما في الماضي «لن تسمح للعدو بأن ينتصر» في ختامها.
العقوبات تهدّد الاقتصاد الهندي
تلوح في الهند بوادر تأثّر حاد للاقتصاد من إلغاء إعفاء البلاد من العقوبات على شراء النفط الإيراني، في بلد ينشغل بإجراء الانتخابات العامة. والتهديد في الهند يتمثّل بعدم القدرة على تعويض النفط الإيراني، ليس من الناحية التقنية فقط، بل من ناحية الأسعار والكمية، ما ينذر بارتفاع تكاليف الوقود في محطات البنزين، وبالتالي تأثّر العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم بشكل متسارع، والذي تجهد الحكومة لإبقائه عند معدلات منخفضة. وهذه المخاطر قد لا تمنع نيودلهي من التراجع عن الالتزام بالعقوبات، وهي التي لديها تجربة تمرّد على العقوبات في 2012. وفي تركيا، أكد وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، أمس، صعوبة الالتزام بإلغاء الإعفاءات من الناحية التقنية؛ إذ إن المصافي التركية لا تتقبل النفط من دول أخرى، و«علينا أن نجدد التكنولوجيا لمصافينا النفطية عندما نشتري النفط من دول ثالثة. ذلك سيعني أن تبقى مصافي التكرير مغلقة لبعض الوقت. هذا بالطبع له تكلفة».
(أ ف ب، الأناضول)
الأخبار