البغدادي والانعطافة الخطيرة، أي اتجاه؟
حياة الحويك عطية
قراءة سيميولوجية أولى لفيديو أبو بكر البغدادي، تحيل إلى رسائل بالغة الأهمية تؤشّر إلى مرحلة مفصلية في مسيرة عمل هذا التنظيم الإرهابي، وبالتالي في مسيرة الصراعات المسلّحة في مواقع كثيرة على خارطة العالم (القديلرجلم).
الذي رأيناه في الفيديو لا يشبه إطلاقاً ذاك الذي رأيناه على منبر مسجد الموصل. رغم أن المختبرات الغربية المُتخصّصة في الفحوصات البيومترية وفي تحليل أصالة الصورة، تقول إنها تأكّدت من أن المُتحدّث هو البغدادي نفسه. من هنا تبدأ الرسائل – الدلالات.
الخليفة، هو السلطة على رأس الدولة التي أرسى دعائمها، لذا فهو الإناقة الأصيلة الراقية، بما في ذلك من عمامة وملابس ووجه جميل واثق وساعة ثمينة جداً وخاتم مثلها. ولحية مُشذّبة سوداء داكِنة – الدولة – القوّة – الثراء – الانتصار والهيمنة – الاطمئنان والارتياح. كل ما من شأنه أن يجتذب الشباب العربي والمسلم الحالِم بالعودة إلى أيام العزّ والقوّة. هو الغارِق في الهزائم والاحتلالات والفقر وعدم الاستقرار والمُهمّش تهميشاً يكتسب بُعداً إضافياً إذا ما كان المعني يعيش في بلاد اغتراب.
أما رجل نيسان، فأميل إلى الشيخوخة، يفترش الأرض، مُتربّعاً، بملابس إن هي إلا ملابس مقاتل بسيط من أي تنظيم “جهادي”، من دون أية مظاهر ثروة وقوّة، أما اللحية فطويلة مشعّثة ومصبوغة بالحناء التي تحمل دلالة الالتزام بالسنّة ( كما يراها بعض الأصوليين)، في وجه شبه كبير مع الظواهري وبن لادن. صورة تستكمل بأمرين: الجمهور والسلاح. فهناك كان الخليفة يأمّ برعيّته الكبيرة من على منبر. وهنا الجهادي يتحدّث إلى ثلاثة من رفاقه وكأنهم خليّة تجتمع في إحدى مغاور طورا بورا. أما السلاح فهو ذلك الكلاشينكوف القصير الذي شكّل توقيع بن لادن ( كما وصفته صحيفة لو فيغارو الفرنسية).
من هنا ثلاثة محاور من الرسائل الخطيرة. في المحور الأول يريد الرجل ( أو مَن هم وراءه) توجيه رسالة إلى الجمهور في كل مكان: إلى عناصره أولاً، في محاولة لتعبئتهم من جديد، رَفْع معنوياتهم وتبشيرهم بمرحلة جديدة. ثم ثانياً، إلى مَن يراهن على اجتذابهم لصفوفه ، لا باللعب على عقدة الاستقواء كما كانت الحال في جميع الفيديوهات السابقة (الانتماء إلى قوي ) بل بالاعتماد على الجاذبية الأصولية، والصورة النمطية النموذج للمناضل المُجاهِد المُلتزِم المُتقشّف. الانتقال من قوّة أبو بكر إلى نضالية بن لادن ( وبمعنى معاصر، من صدّام حسين إلى تشي غيفارا، مع اختلاف المضمون)، وأخيراً ثالثاً إلى مَن يريد إرهابهم بالقول نحن ما نزال هنا.
في المحور الثاني. ثمّة رسالة للقاعدة ولجبهة النصرة. فمن المعروف أن الانشقاق بين النصرة وداعش حصل على خلفيّة، الالتزام بالقاعدة أو الاستقلال عنها. فتنظيم الجولاني لم يخرج ثانية عن طَوْع الظواهري، في حين أراد البغدادي دولة متركّزة في العراق والشام . مع ما يعنيه ذلك من رفض داعش للجهاد العالمي على كل الساحات، كما تنادي القاعدة. لكن ثمّة واقع قد نشأ على الأرض السورية العراقية. فداعش هُزِمت ( أو شُبّه لهم) والنصرة تمكّنت من هزيمة جميع الفصائل الإرهابية في شمال وشرق سوريا، وأصبحت تسيطر من إدلب على مساحة تفوق ما كانت عليه داعش. وذلك بدعم تركي – قَطري، أي بدعم أحد أطراف أستانة. بعد أن بدأت محاولات تأهيلها في الإعلام وفي ساحات الجمهور، منذ أكثر من أربع سنوات ليكون لها دور في الحل السياسي السوري. وهذا ما كان يتطلّب “سرينتها” في حين تتحوّل داعش المهزومة في سوريا إلى عولمة إرهابها.
انقلاب في الأدوار يؤدّي إلى المحور الرابع، حيث بدا كل ماسبق تمهيداً للانتقال إلى ساحات أخرى ( نقل العمليات، إذ أن نقل العناصر قد تمّ منذ معارك الرقة ودير الزور وقبل ذلك العراق). هذا النقل هو ما عبّرت عنه الإشارات المدروسة في حديث البغدادي. الهجوم المُتكرّر على “الصليبيين” والغربيين، والإشارة إلى المواقع الإفريقية والآسيوية وتسمية أبو الوليد الصحراوي. ما يعني تحديداً الساحل الإفريقي، والصحراء الكبرى التي تبلغ مساحتها تسعة ملايين كلم مربع وحدود تُحاذي شمال وغرب القارة السمراء. ( مالي بوركينا فاسو النيجر وغيرها) من دون أن ننسى الجزائر وليبيا والسودان وربما مصر.
وهكذا نصل منطقياً إلى السؤال الأساس: لمصلحة مَن وضد مصلحة مَن؟
إفريقيا بكاملها ستدفع الثمن، كما حصل في العالم العربي. ستتحوّل إلى ساحات حرب حول الإرهاب، وسيفيد مَن يريد التأجيج من الواقع القبلي – وهذا ما بدأ فعلاً. سيتضرّر الساحل والصحراء والدول الواقعة حولهما، ولكن، أيضاً سيصبّ الزيت على النار المُشتعِلة في ليبيا والسودان، وربما الجزائر.
أما دولياً فستكون فرنسا الخاسِر الأكبر ( ومن هنا التركيز على الصليبيين ) تليها الصين التي تمتلك استثمارات كبيرة في إفريقيا جعلتها في صراع غير جديد مع الأميركيين هناك. صراع قد يُفسّر توجّه العمليات المُتفرّقة نحو آسيا، بدءاً من سيريلانكا التي ما تزال جمهورية اشتراكية.
وإذا ما وصلنا إلى لبّ المشكلة كلها، وهو المخزونات الهائلة من الثروات النفطية والغازية وغيرهما، الكامِنة في باطن القارة السمراء وعلى خلجانها، وربطنا هذه المطامع الاستراتيجية بما تردّد مؤخّراً من خطة الولايات المتحدة للتخلّص من منظمة أوبيك وإنشاء منظمة أميركية بديلة. ثم ربطنا بتصريحات ديفيد هيل من أن واشنطن مُمتعضِة من عدم نجاح التحالف الدولي في محاربة الإرهاب في إفريقيا، وكذلك بما نشره مركز أبحاث هيريتاج في الأسبوع الفائت من دعوة الحكومة الأميركية إلى “عدم الاسترخاء في محاربة داعش”، – إذا ما ربطنا هذه العناصر التي سبقت جميعها حديث البغدادي، لتشكَّلَ سؤال منطقي: هل سيكتسح رُعب داعش القارة السمراء، ومن ثم يفشل التحالف الدولي في ردعها، فتشكّل واشنطن ” قسد” إفريقية، تبلي في محاربة داعش وتؤمّن لواشنطن الهيمنة من دون شريك على مكامن الثروات ؟ سؤال لا يمكن أن يغفل التغلغل الإسرائيلي الكبير في إفريقيا.
الميادين