الصين والغرب
بثية شعبان
ما إن اختتمت قمة «طريق واحد وحزام واحد» أعمالها في بكين بتمثيل من مئة وخمسين دولة وحضور سبعة وثلاثين رئيساً ورئيس وزراء حتى بدأت الأقلام الغربية تصف هذه القمة بأنها «خطيرة» وتنبّه ممّا تسميه «الخطط الصينية» للسيطرة على العالم، وقد يعتبر ما كتبه نيوت غينغرش الذي كان رئيساً للكونغرس، في مجلة النيوزويك في 29/4/2019 أي مباشرة بعد اختتام أعمال القمة، معبّراً عن مصادر قلق الغرب ورؤيته الحقيقية للصين وأين يجب أن تكون وأين يمكن أن تكون في المستقبل؟ وبعض ما قاله غينغرش عن الصين ينطبق على السياسات الأميركية في أماكن كثيرة من العالم حيث قال: «إنّ سياساتنا تفشل لأنّها ليست مستندة إلى الواقع بل إلى صور عن الواقع شكّلناها لأنفسنا كما أن جزءاً من قراءتنا للصين كان يعتمد على غرورنا وعلى رغباتنا، وأيضاً يعتمد على الإستراتيجية الصينية التي تعتمد الخداع». حيث اعتبر أن مسيرة الصين في إستراتيجية خاصة بها لا تنطلق من منظور غربي ولا من رؤية غربية ولا من حلم غربي تشكّل نوعاً من الخداع للغرب وخاصةً أن الصين تحافظ على علاقات اقتصادية متشابكة جداً مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تبني بها علاقاتها وفضاءاتها مع معظم دول العالم بناء على المصلحة المشتركة والتواصل وتناسق السياسات والمنفعة المتبادلة، الأمر الذي تتوق إليه كلّ الدول التي عانت الاستعمار الغربي والهيمنة الغربية على قراراتها ومقدراتها. لقد نعى غينغرش حظه من أن الأميركيين اعتقدوا أن استقبال عشرات الآلاف من الطلبة الصينيين في الجامعات الأميركية كان مخططاً كي تنتقل لهؤلاء الطلاب «عدوى الحرية» كما ظنّ الغرب أن استقبال الصين في منظمة دولية مثل منظمة التجارة العالمية سيجعل من الصين بلداً ملتزماً بالقانون، وهو يقصد القوانين الغربية طبعاً». كما يلقي غينغرش باللوم على مراكز الأبحاث التي اعتبرت الصين دولة مسالمة لا تطمح لأكثر من أن تكون قوّة إقليمية على أرضها، وما يزعج غينغرش أكثر من أي شيء آخر هو أن تركيبة وطريقة عمل الحزب الشيوعي الصيني مختلفة جذرياً عن أي حزب في الغرب، كما أن آلية الحكم والعلاقة بين الجيش والحزب والرئيس مختلفة أيضاً عن مثيلتها في الدول الغربية، ولذلك لا يمكن له ولأمثاله أن يفهموا حقيقة النيات الصينية وأين تتجه وما آفاق أحلامها؟ ويكاد يكون تعبير غينغرش عن قلق الغرب من الصين مضحكاً إلى حدّ ما حيث استنتج بعد عرض نظرياته ومعلوماته بالقول: «قبل أن نقرّر مقاربتنا للصين يجب أوّلاً أن نغيّر وجهة نظرنا عن الصين. يجب أن نقبل أن الصينيين لديهم التزام عميق أن يكونوا صينيين وليس أن يكونوا غربيين»، ما هذا الذنب العظيم الذي يرتكبه الصينيون بأنّهم يريدون أن يكونوا صينيين ولا يريدون أن يكونوا غربيين»، ويضيف «هم ليسوا مهتمين بالانفتاح على الطريقة الأميركية ولا بمسار سياسي بعيداً عن نظامهم الحالي». واختتم غينغرش بالاعتراف بالحدث الذي أثار رعبهم من أسلوب الصين وإستراتيجيتها في المقاربة الدولية للعالم برمته، حيث قال: «إنّ مبادرة الحزام والطريق التي تتضمن استثمارات صينية في البنى التحتية حول العالم سوف تقود من دون شكّ إلى امتدادات لقوّة الصين على هذا الكوكب». إذاً وبالرغم من اللغة الهادئة والحكيمة التي تميزت بها كلمات الرئيس الصيني شي جي بينغ حول الحزام والطريق فقد فهم البعض في الغرب أن هذه المبادرة تشكّل علامة فارقة في تاريخ البشرية وأنّ أحداً غير قادر على إيقاف هذا النهج وتطوره لأنه نهج مخالف فعلاً لكلّ ما عرفه العالم عن الغرب الاستعماري القائم على الحروب والنهب وتغيير الأنظمة، هو نهج صيني قائم على التعاون والتشاركية والمصالح المتبادلة. وعلّه أمر ذو رمزية مهمة في هذه المرحلة من التاريخ هو أنه على حين كان ممثلو هذا العدد الكبير من الدول بحضور سورية يجتمعون في بكين ويتحاورون حول أفضل السبل للتعاون والتقدّم والازدهار وتبادل الخبرات وإحداث ثورة صناعية رابعة وثورة رقمية لخدمة البشرية، كانت أجهزة المخابرات وحكومتها العميقة في الولايات المتحدة يواصلون خطط الحرب الإرهابية وحرب الحصار الاقتصادي على سورية وعلى العرب جميعاً عبر استنزاف أموال النفط العربيّ، وتدمير البلدان العربيّة عبر أسلوب «الربيع العربيّ» كما أنهم كانوا يخطّطون لانقلاب على الحكومة الشرعية في فنزويلا من أجل نهب ثرواتها وحرمان شعبها من مقدراته التي هي حقّ له وحده دون سواه. وفشل العملية الانقلابية في فنزويلا يُري للمرة الألف أن السياسات الأميركية تعتمد الرؤية التي تشكّلها عن الدول بعيداً عن واقع هذه الدول، ويتبنى هذه السياسات بعض ضعاف النفوس كعملاء لها ليسيروا ببلدانهم إلى الهاوية من أجل إرضاء جشعهم وإرضاء السيد الأميركي، ولكن إخفاق المحاولة يُري أيضاً أن ما تخطّطه الولايات المتحدة ليس قدراً وإنّ إرادة الشعوب يمكن أن ترسم مستقبلها رغم كلّ محاولات الهيمنة تماماً كما فعل الشعب السوري وكما يفعل الشعب الفنزويلي اليوم. وما يشكو منه الأميركان هو أنهم لم يتمكّنوا من إيجاد مثل هذه المجموعة من ضعاف النفوس في الصين لأن الصينيين فخورون بانتمائهم ولا يريدون أن يكونوا إلا صينيين وبنظام سياسي وثقافي صيني وطموحات جذرها وأفقها صيني. يتمّ هذا التراشق في الأفكار بين حضارة عريقة تجدّد عراقتها وقوّة استعمارية اعتادت قتل الملايين من الشعوب من أجل نهب ثرواتها في الوقت الذي يعاني الوطن العربيّ من تيه غير مسبوق ومحاولات إذلال لمن يمتلك الثروات والاستهانة بالعرب وقضاياهم والتعبير الشرس عن عنصرية مفضوحة بحقهم وشيطنة حضارتهم وإنجازاتهم في أعين العالم. وللأسف نرى بعض حكّام العرب آمن أن الاقتراب من الغرب وتلبية متطلباته سيجعلانهم مقربين وأقوياء غير مدركين أن الانزلاق خطوة واحدة على طريق الهوان يقود إلى الهوان كلّه. وأنا أقرأ عن الصين لا أستطيع أن أتجنب المقارنة بينها وبين العالم العربيّ، فقد نالت الصين استقلالها في الحقبة ذاتها التي نالت بها معظم الدول العربية استقلالها، ولكنّ الصين اليوم هي ثاني اقتصاد في العالم، ولاشكّ أنها ستكون الاقتصاد الأول والقوّة الأولى في العالم في مستقبل غير بعيد. أما الواقع العربيّ فإنّه مهدّد بتدخلات عدوانية خارجية أكبر وأخطر في معظم بلدانه وذلك بسبب افتقار حكّام العرب إلى تنسيق سياساتهم والعمل ككتلة واحدة تجعلهم جميعاً أقوى وأيضاً أولاً وأخيراً بسبب افتقارهم الشديد إلى الرؤى وآليات العمل الناجعة والعمل الدؤوب في صون الهوية والاعتزاز بالانتماء والمراهنة على الأعداء بدلاً من العمل مع الأشقاء. لا تقدّم الصين حزاماً وطريقاً فقط، وإنّما تقدّم أنموذجاً لآليات عمل ناجعة للتحرّر من ربقة الهيمنة والاستعمار مرة وإلى الأبد فهل من مستفيد؟