تم حل اللغز أخيرًا.. لماذا أحرق مايكل أنجلو كل لوحاته قبل وفاته؟
ربما يحرق الفنان أعماله في لحظةٍ من اليأس؛ لأنَّه في بداية مسيرته الفنية ويشعر بعبثية أعماله، أو لأنَّ طموحه يفوق ما أوتي من موهبة، أو لأنه سأم من محاولات الوصول إلى الكمال الذي ينشده. ولكن ماذا إن وصل إلى الكمال بالفعل؟ تجيبنا الكاتبة أليسون ماكنيرني على هذا التساؤل في تقريرها الذي نشره موقع «ذا ديلي بيست» الأمريكي. إذ تكشف أليسون في تقريرها عن أسباب حرق مايكل أنجلو – النحات الإيطالي البارز – لرسوماته التحضيرية التي أنتجت أبرز أعماله الفنية.
تمثال داود
يصف التقرير في مُستهلِّه تمثالًا لطالما وُصِف بأنَّه تجسيدٌ للكمال، وينتصب ذلك التمثال في نهاية إحدى القاعات المقببة الطويلة بمعرض الأكاديمية في فلورنسا. ويُشيح تمثال الرجل بوجهه إلى الجانب في مظهرٍ يُوحي باللامبالاة وجسده في «وضعية التعارض»، حيث يرتكز الجسد بالكامل على ساقٍ واحدة وتمتد ساقه الأخرى إلى الأمام ليبدو وكأنه على وشك الحركة.
ويكشف ضوء النهار المنبعث من السقف المقبقب عن عضلات بطنه المتموجة، أما شعره المُجعد فهو مصفَّفٌ بعنايةٍ تُحدِّد كل خصلةٍ فيه بدقة. وتُفصِّل المنحوتة أصابع يديه وقدميه ببراعةٍ كبيرة، لدرجةٍ تُظهِر تجاعيده وأوردته في عرضٍ فنِّيٍ رائعٍ يُلهب مشاعر المشاهدين.
هذا هو «تمثال داود» الذي يُعَدُّ قُبلةً لملايين السياح الذين يزورون فلورنسا كل عام، ويُمثِّل تجسيدًا لأعظم منحوتات عصر النهضة.
ويعتقد بعض الباحثين الذين تطرَّقوا لدراسة لوحات هذا النحات العظيم ورسوماته الكاريكاتورية وما خلفه من وثائق من أجل التعرُّف إلى العبقرية الكامنة وراء هذا العمل الفني، أنَّ مايكل أنجلو التقط إزميله في أحد الأيام ونحت نموذجه المثالي من العدم. لكن أليسون ترى أن السبب وراء ذلك يكمُن في عدم وجود رسوماتٍ تحضيرية لـ«تمثال داود» .
ماذا حل برسومات أنجلو؟
أورد التقرير أنَّ مايكل أنجلو بذل جهدًا كبيرًا في صقل موهبته ومهاراته الفنية، بالإضافة إلى صورته العامة أمام الجماهير، وبرهن على عبقريته في الدعاية الشخصية مُبكِّرًا واستفاد منها كثيرًا. واكتسب أنجلو شعبيةً كبيرةً في حياته، إذ سعى كبار الشخصيات في عصره إلى الحصول على أعماله. ولكنه لم يرغب عادةً في عرض الجهد الذي بذله من أجل الوصول إلى هذا القدر من العظمة.
وأكَّد التقرير أنَّ قرابة 600 من رسوماته نَجَت من عمليات الإحراق، لكنها لا تُمثِّل سوى جزءٍ بسيط من مُجمل الأعمال التحضيرية التي يُعتَقدُ أنَّه أنتجها طوال حياته. إذ ترك ليوناردوا دافنشي مثلًا، مُنافسه الأكبر سنًا، قرابة أربعة آلاف صفحة. ويرى «ذا ديلي بيست» أنَّ هناك العديد من العوامل التي أسهمت في هذه الخسارة، منها تقلبات الزمن، لكن العامل الرئيس في تدمير كثيرٍ من هذه اللوحات هو الفنان نفسه.
عبقرية أنجلو تلتهمها النيران
بنى مايكل أنجلو موقدين إبان تدهور حالته الصحية في الأيام التي سبقت وفاته، بحسب التقرير، وأحرق داخلهما كل رسوماته التي استطاع الوصول إليها. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تلتهم فيها النيران أعماله الفنية.
إذ أصبح مايكل أنجلو واحدًا من أشهر فناني عصر النهضة داخل إيطاليا، وفقًا للتقرير، في أوائل العقد الرابع من عُمره. وبحلول عام 1518 انتهى النحات من نحت «تمثال بيتتا» وتمثال الإله «باخوس» و«تمثال داود»، إلى جانب انتهائه من رسم «كنيسة سيستينا». وأنهى كذلك عِدَّة أعمالٍ فنية للفاتيكان، قبل أن يُسافر في عام 1515 إلى فلورنسا لتلبية دعوة «آل ميديتشي»، وهي واحدةٌ من أكبر العائلات التي كانت ترعى الفنون في تلك الحقبة. ويُذكر أن الملكة وبابا الفاتيكان كانوا من أفراد عائلة «آل ميديتشي» خلال النصف الثاني من حياة أنجلو المهنية.
وأفاد «ذا ديلي بيست» أنَّ مايكل أنجلو رَكَّز على الرسم طوال مرحلة تطوره كفنان. إذ استخدم الرسم في تطوير أفكاره وأسلوبه، وإيجاد حلٍ لمشكلاته التقنية/الفنية، والبحث عن أفكارٍ جديدة لأعماله. واعتنق مفهوم الرسم، الذي كان يُعرف في اللغة الإيطالية باسم «disengo»، وهو المفهوم الذي يُشير إلى فكرة الرسم والتصميم التي كانت سائدةً داخل فلورنسا في ذلك الوقت.
وذكر ألان رايدينج في صحيفة «نيويورك تايمز» أن مايكل أنجلو كتب ملاحظةً لأحد تلاميذه عام 1520، وناشده فيها قائلًا: «ارسم يا أنطونيو، ارسم يا أنطونيو، ارسم ولا تُضِع الوقت». لكن التقرير أوضح أنَّ الرسم لم يَكُن على قمة التسلسل الهرمي للفن بالنسبة لمايكل أنجلو، رغم أهميته من أجل تطوير أعمال فنية يمكن التباهي بها.
إذ ارتأى «أنجلو» أنَّ فنونًا أخرى مثل النحت وفن التصوير الزيتي والعمارة تتفوَّق على الرسم من حيث الأهمية. وصحيحٌ أن رسوماته التحضيرية لم تحظى بمكانة «تمثال داود» في قلبه، لكنه كان يُوفِّر لها حمايةً خاصة.
ما سبب إحراق أنجلو لرسوماته؟
أورد تقرير «ذا ديلي بيست» أنَّ البابا يوليوس الثاني ولورينزو دي ميديتشي استطاعوا تَحمُّل نفقات عمليات النحت والطلاء وبناء الكنائس المهيبة التي أوكلوها إليه، لكن أبناء الطبقة الراقية من الإيطاليين المعتادين اضطروا إلى الاكتفاء بالحصول على أي شيءٍ طالته أيديهم من أعمال الفنان الكبير. وزاد الطلب على رسومات مايكل أنجلو، لكنه لم يكن سعيدًا دائمًا بخروج رسوماته إلى العالم.
وروى رايدينج قصة توبيخ مايكل أنجلو لوالده في رسالةٍ بريدية، بحسب التقرير، لأنَّه عرض بعضًا من رسوماته على «الغرباء». وقال مايكل هيرست، الذي وصف بعض أفعال الفنان العظيم في كتابه «مايكل أنجلو: بلوغ الشهرة Michelangelo: The Achievement of Fame»: إنَّ بعض تصرفات أنجلو كانت مدفوعةً «ببُغضه الشديد، وربما ذعره، من اطلاع الناس على إبداعاته الفنية دون تصريح».
وأفاد التقرير أنَّ أول واقعة حرقٍ مُسجَّلة، حرق خلالها مايكل أنجلو أعماله التحضيرية، حدثت وسط هذا المُناخِ النفسي. إذ استدعى ليوناردو سيلايو، مساعده الشخصي، إلى روما في عام 1518 ليحرق بعضًا من رسوماته الكاريكاتورية التي كانت مُخزَّنةً في منزله. وكان الفنانون يستخدمون هذه الرسومات الأولية في نقل التصاميم إلى الجدران أو الحوائط الزيتية.
ويُعتَقدُ أن الرسومات الكاريكاتورية التي نوى مايكل أنجلو إحراقها في هذه الواقعة، كانت مُتعلِّقةً بأعماله في «كنيسة السيستين». إذ أضاف هيرست في كتابه: «في الخامس من فبراير (شباط) عام 1519، ذكر سيلايو أنَّ غالبية هذه الرسومات أُحرِقت، وأعرب عن حزنه الشديد بشأن هذا القرار، مع التأكِّيد على إخلاصه في تنفيذه رغم من ذلك».
وترى أليسون أنَّ هذه الأخبار لم تكن أخبارًا سارة بالنسبة للكثير من مُساعدي مايكل أنجلو، أو الباحثين الذين أحبَّوا أعماله الفنية في القرون التالية.
اليوم الذي لم يشهد عليه بيترو آرتينو
ذكر التقرير أنَّ بيترو آرتينو، أحد أنصار أنجلو، توسَّل إليه مرةً أن يتوقَّف عن تدمير لوحاته. وأوضح هيوجو تشابمان، في كتابه «رسومات مايكل أنجلو: قريبًا من الأستاذ In Michelangelo Drawings: Closer to the Master»، أنَّ آرتينو «ذكر في خطاباته التي كتبها لمايكل أنجلو من فينيسيا، بين عامي 1538 و1546، أنَّه سيسره قبول بعض الأعمال التي قد ينتهي بها المطاف مُحترقة. وذلك وسط محاولاته الفاشلة المُتواصلة في تملُّق الفنان، أملًا في الحصول على بعض هذه الرسومات في صورة هدية».
وترى أليسون أنَّ آرتينو كان سيُصاب بالهلع في حال علمه بما سيفعله مايكل أنجلو في نهاية حياته. إذ بدأت صحت الفنان الكبير في التدهور عام 1546، وهو في أوائل السبعينات من عُمره. وشَهِد أنجلو وفاة العديد من أصدقائه المقربين، فأدرك ما يُخبئه له القدر دون شك.
وأوضح هوارد هيبارد، في كتابِه «مايكل أنجلو Michelangelo»، أنَّ أنجلو كتب وصيةً قصيرة آنذاك «أودع فيها روحه إلى الله، وجسده إلى الأرض، وممتلكاته المادية إلى أقرب أقربائه»، ثم قرَّر أن يعدِم تلك الممتلكات المادية.
وذكر ابن شقيق الفنان أنَّ مايكل أنجلو بنى موقدين وشرع في حرق كل أعماله ورسوماته الورقية، والتي كان يحتفظ بها داخل مرسمه في روما آنذاك. ولم ينجو من المحرقة سوى بعض الرسومات الكارتونية واثنتين من رسوماته، بحسب التقرير.
وترى أليسون استحالة الجزم بماهية الكنوز التي أُحرِقت في هذه المواقد، أو سبب إصرار مايكل أنجلو طوال حياته على إخفاء تفاصيل عمليته الإبداعية عن الأعين. لكن طبيعته الكتومة كان لها دورٌ كبيرٌ في ذلك بالتأكيد، وهي فرضيةٌ ليست عاريةً من الصحة تمامًا بحسب التقرير. إذ كان له خصومٌ من الفنانين والمواهب الشابة الواعدة، وكانوا يُنافسونه ويحاولون التفوُّق عليه، ويتوقون إلى فك رموز أسلوبه المُبتكر وكشف أسرار عبقريته.
جورجو فارازي كان له رأيٌ آخر
وأورد تقرير «ذا ديلي بيست» أنَّ جورجو فازاري، المُؤلف الذي يكتب السير الذاتية لفناني عصر النهضة، يرى أنَّ هُناك سببًا آخر لتلك التصرُّفات. إذ يعتقد فازاري أن مايكل أنجلو رغب في الاحتفاظ بهالة الكمال التي تُحيط به، لذا أراد إخفاء تفاصيل العمل المُضني الذي بذله لإبداع كل رائعةٍ من روائعه الفنية.
مما يعني أنَّه كان يحاول باختصارٍ أن يُحكِم سيطرته على سيرة مايكل أنجلو، النحات العظيم، وصورته العامة. وهذا هو السبب الذي دفعه لإحراق أيِّ دليلٍ على الرحلة التي وصلت به إلى تلك المكانة، من وجهة نظر فازاري.
وأضاف فازاري: «أعلم أنه أحرق عددًا من الرسومات والتصاميم والرسومات الكارتونية التي صنعها بيديه قُبيل وفاته؛ حتى لا يتعرَّف أحدٌ على حجم المشقة التي تكبدها أو يطلع على أساليبه في استخدام عبقريته، وخوفًا من الظهور بمظهرٍ أقل من مثالي».
وبهذا يبدو أنَّ مايكل أنجلو يُشبهنا كثيرًا، من وجهة نظر أليسون، لكنه يختلف عنَّا في عبقريته الفنية فقط.