أردوغان: انتخابات على المقاس
د. بسام أبو عبد الله
لم يهضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الهزيمة في الانتخابات البلدية 31 آذار 2019 في إسطنبول لأنه اعتبرها ضربة على الرأس هزته مع حزبه لما للمدينة من رمزية وتأثير ونفوذ ترتبط به شخصياً وبالحزب الحاكم «حزب العدالة والتنمية»، ومنذ إعلان فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو بفارق 13 ألف صوت على مرشح الحزب الحاكم بن علي يلدريم رئيس البرلمان الحالي، وأردوغان لم يدخل لسانه إلى فمه، وهو يهذي بخسارة إسطنبول، وبدأ مع حزبه سلسلة اعتراضات للجنة العليا للانتخابات التي أتمت 32 تحقيقاً في مزاعم بارتكاب مخالفات خلال الانتخابات، ورغم أن جميع الأساليب التي لجأ إليها حزب أردوغان لإثبات فوز مرشحه قد فشلت لكنه لجأ إلى تقديم طعن إستثنائي بلا أدلة ملموسة، ومارس ضوغطاً كبيرة على اللجنة العليا للانتخابات توجها بـ«كلمة السر» التي أطلقها أردوغان يوم السبت 4 أيار الجاري أثناء افتتاح المقر الجديد لجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين حينما أصر على رفض نتائج الانتخابات، وقال بالحرف: «يقول لي المواطنون: سيدي الرئيس يجب إعادة هذه الانتخابات، فلنمثل أمام الشعب، وما تفرضه الإرادة الشعبية سنقبل به.. الأمر بهذه البساطة»، وتابع: من الواضح أنه تم ارتكاب تجاوزات وفساد، عبر إلغاء كل ذلك ستريح اللجنة الانتخابية العليا ضمائر مواطنينا، ونتوقع أن تتخذ قراراً عادلاً.
لقد اعتبر كثير من المراقبين أن إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول جاءت بعد ضغط شديد من أردوغان على أعضاء اللجنة العليا للانتخابات، حيث تقول المعلومات إن أردوغان مدد للعديد منهم خدمته الوظيفية للاستفادة لاحقاً من ذلك في الانتخابات البلدية، ومع ذلك جاء التصويت بأغلبية 7 أصوات، ومعارضة 4 أصوات الأمر الذي يؤكد الانقسام، وعدم القناعة داخل لجنة الانتخابات العليا.
هناك سؤال آخر يطرح: لماذا هذه الهيستريا لخسارة إسطنبول؟ هل هو لرمزيتها، أم لأنها مصنع رؤساء تركيا؟ وأردوغان نفسه قال في صيف عام 2001 حيث كان رئيساً لبلدية إسطنبول: «انتهت الولاية الأنانية، لن نخضع لأحد، سيقوم فريق كامل بإدارة البلاد، أولئك الذين جاؤوا إلى الحكم بالانتخاب سيرحلون بصناديق الاقتراع»، لكن بعد ثمانية عشر عاماً هل قَبِل هو بنتائج صناديق الاقتراع؟
الحقيقة أن العديد من التقارير التركية والغربية كشفت أن أحد الأسباب الخفية لاستماتة أردوغان وحزبه في استعادة إسطنبول تكمن في أن بلدية المدينة هي بيت الأسرار بالنسبة له، والبعض سماها الصندوق الأسود، إذ كشف موقع «المونيتور» الأميركي في 2 أيار الجاري أن هناك شبكة مصالح ضخمة يستفيد منها الحزب الحاكم منذ 17 عاماً عبر حكمه المدينة، مشيراً إلى الدور الذي لعبته مؤسسات وجماعات تتستر بالدين لتنفيذ مخططات أردوغان للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، وأشار الموقع إلى أن إسطنبول تعتبر مصدر قوة ومكانة وثروة كبيرة لأردوغان وعائلته وحاشيته، وتقدر ميزانية المدينة للعام 2018 ما يعادل 7.3 مليارات دولار، وهي أعلى من ميزانية الكثير من الوزارات، وهذا المال يذهب لشركات خاصة تستعين بها البلدية لتوفير الخدمات، أو مشاريع البنية التحتية، ومن ثم فإن التحكم بإسطنبول يعني التحكم برئاسة شبكة ضخمة من العلاقات، والمصالح يستفيد منها الحزب الحاكم في تمويله ونشاطاته.
وإذا أضفنا لكل ذلك أن المدينة أصبحت مرتعاً لكل حركات المتأسلمين في المنطقة (ليبيا، اليمن، مصر، العراق، سورية، الشيشان، الأيغور) وغيرها الكثير، كما تحولت لمنصة إعلامية لكل هؤلاء ضد بلدانهم وأوطانهم، فإننا نفهم أكثر أن خسارة إسطنبول تعني وقوع بيت الأسرار في يد معارضي أردوغان.
من هنا فإن أردوغان لم ينزعج لخسارة بلدية أنقرة العاصمة لكنه انتفض من أجل إسطنبول ليس لحرصه على أصوات الناخبين ومشاعر المواطنين الأتراك، بل لأنه لو كان كذلك لأبدى الحرص على مشاعر الأتراك الآخرين الذين صوتوا لمرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، وهو بصفته رئيساً للجمهورية لا يجوز أن يكون طرفاً في الانتخابات، لكن الطرافة في الأمر أنه هو الذي قاد الحملة الانتخابية لبلدية إسطنبول على الرغم من أن المرشح هو بن علي يلدريم الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن إسطنبول خزانة أسراره وأمواله وخزان أسرار الإخوان المتأسلمين في المنطقة، حيث تقاد منها مشاريع التآمر والتخطيط من هؤلاء ضد بلدانهم وأوطانهم.
الآن بغض النظر عن ردود الفعل الغربية الأميركية، أو الأوروبية التي لا أؤمن بها، وبحرصها على الديمقراطية لأنها أثبتت في الحرب السورية أنها كتلة من النفاق والدجل، وأن الديمقراطية تعنيهم بقدر ما تكون على مقاس مصالحهم ونفوذهم وقدرة شركاتهم على الهيمنة، لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون، هل إعادة الانتخابات ستكون مضمونة لوصول مرشح أردوغان؟ الجواب حسب رأي بعض الخبراء والمتابعين: ليس بالضرورة لأكثر من سبب:
– إن المعارضة وتصويتها المكثف سيزدادان بشكل كبير بعد أن رأت أن الفوز ممكن.
– إن تخويف الناخبين من وصول المعارضة ليس مضموناً تأثيره، كما حصل في الانتخابات البرلمانية عام 2015 عندما استخدمت داعش كأداة لترهيب الشارع التركي من أجل تأمين الأغلبية البرلمانية، أي إما أردوغان وحزبه وإما الفوضى، ذلك أن البعض قد يتجاوب في هذه المرة وآخرين قد لا يتجاوبون لأنهم أدركوا أن رسالة الجمهور للحزب الحاكم لم تصل كما يجب بدليل إعادة الانتخابات.
إن الرهان على زيادة الحشد، ورفع نسبة التصويت في الإعادة ربما يحصل عكسها تماماً، وتتراجع نسبة المشاركة خصوصاً في ضوء الهجوم غير المسبوق من شركاء أردوغان السابقين في الحزب، والسلطة مثل وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو والرئيس السابق عبد الله غل وغيرهم كثر، الأمر الذي سيكون ضرره أكثر بكثير من نتيجة الانتخابات السابقة.
إذا أضفنا لكل ذلك معدلات البطالة المرتفعة في أوساط الشباب التركي وبمعدل 25 بالمئة، وانخفاض قيمة العملة التركية وارتفاع التضخم والواقع الاقتصادي الصعب واهتزاز الاقتصاد التركي بعد قرار إعادة الانتخابات، فإن ذلك سيزيد الطين بلة.
في كل الأحوال فإن أردوغان يحضر كل أوراقه لـ23 حزيران، جولة الإعادة للانتخابات، وقد كان لافتاً ظهور الورقة الكردية فجأة عندما سمح لـ«وكالة أسرين القانونية» الذين يمثلون عبد الله أوجلان بزيارته في السجن بجزيرة إيمرالي في 2 أيار الجاري، وبعد أربعة أيام عقد محامو أوجلان مؤتمراً صحفياً في فندق تقسيم هيل دعيت إليه كل وسائل الإعلام لإبلاغ رسالة أوجلان بـ«ضرورة أن تأخذ ما يسمى بوحدات حماية الشعب الكردية، حساسيات تركيا الأمنية بعين الاعتبار»، فهل تمت صفقة بين أردوغان وأوجلان يدعم من خلالها الكرد مرشح أردوغان في بلدية إسطنبول مقابل الحفاظ على رؤساء البلديات الكرد الذين فازوا بالانتخابات البلدية مؤخراً، وحوار مع ما يسمى «قسد»؟ لكن بعد إعادة الانتخابات البلدية في 23 حزيران القادم وخاصة أن كل المؤشرات تفيد أن الصوت الكردي سيصب لمصلحة مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، هذا أحد السيناريوهات التي يجري الحديث عنها في تركيا.
لقد أظهرت كل هذه التحليلات والتقديرات أنه لو فاز مرشح أردوغان ببلدية إسطنبول في 23 حزيران وهو أمر لا يعنيني، فإن مصداقية العملية الانتخابية في تركيا قد اهتزت، وإن فقدان الأتراك ثقتهم بها سيشكل نقطة تحول كبرى في تاريخ تركيا، وهذا سيفقد أردوغان ما كان يتغنى به، والمعجبون به في سورية والمنطقة من أنه النموذج الذي يجب أن يقتدي به، وهو أمر لن يبيض صفحاته السوداء وارتكاباته داخل تركيا والأهم خارجها، وهي الارتكابات التي ستسقطه سقوطاً حراً عندما يحين الوقت لذلك، وإذا كان المنافق أحمد داوود أوغلو منظر العثمانية الجديدة في تركيا قد اعتبر أن حزب العدالة والتنمية يواجه حقيقة تراجع الدعم الشعبي له بسبب سياساته المتعجرفة! فماذا سنقول نحن، وهذا ما يهمني، لأولئك الذين يجلسون عبر الشاشات من إسطنبول ويحدثوننا كل يوم عن الديمقراطية والحريات في سورية من دون أن يرف لهم جفن، وقد تحولوا إلى خونة لوطنهم، وشعبهم وإلى عبيد عند نموذج الديمقراطية في المنطقة أردوغان؟
ليس أمامي، وأمامكم أن تفعلوا شيئاً سوى أن تضحكوا عليهم حيثما رأيتموهم، وأن تدعوا لجيشكم البطل بالنصر على هؤلاء الأوغاد.
الوطن