عندما تعاد هندسة مخرجات أستانا وسوتشي بالنار
محمد نادر العمري
ما عجزت عنه عواصم الترويكا من تطبيق توافقاتها التي تمخضت من مباحثاتها المطولة في أستانا، يبدو أن الآلة العسكرية للجيش السوري كفيلة بأن تترجمه في ميدان المواجهة.
ربما هذا العنوان أو المقدمة هي المقاربة الأكثر انسجاماً في توصيف الظروف التي آلت إليها منطقة خفض التصعيد الرابعة، والتي شهدت على مدى أكثر من عام تجاذبات وكباشات تخللها التوصل لاتفاق «سوتشي» الذي شكل تناقضاً في المصالح والأهداف ما بين الدول الضامنة. فالمحور التركي سعى من خلال الاتفاق لشرعنة قوات احتلاله بالدرجة الأولى عبر توزيعها وتثبيت ما سمي بنقاط المراقبة الاثنتي عشرة، واستغل الظروف والعلاقات المتوترة بين موسكو وواشنطن من ناحية وبين الأخيرة وطهران من ناحية ثانية لتوسيع نفوذه وأطماعه في الشمال السوري عبر تتريك المناطق، وفي الدرجة الثالثة عمل جاهداً لإعادة تأهيل المجموعات المسلحة وإيجاد حالة ائتلافية فيما بينها لفرضها على طاولة المباحثات بغرض تحقيق إنجاز يعتمد على تمثيل نسبي في اللجنة الدستورية.
بينما شكل الاتفاق دافعاً ونقطة التقاء للمحور السوري الروسي الإيراني في تحرير الأراضي السورية وإعادة سيادة الدولة عليها وسحب الذرائع من أي عدوان خارجي بذرائع إنسانية أو كيميائية، مع وجود فوارق وتباينات تكتيكية في الوسائل وبعض الأهداف وخاصة لدى روسيا الاتحادية، التي كانت تريد إحداث شرخ في صفوف الناتو، عدوها التاريخي، من خلال التوصل لاتفاق رسمي وموقع بين وزيري الدفاع الروسي والتركي، لتتمكن من ذلك في تسجيل أول خرق بإحداث آلية تعاون بينها وبين إحدى دول الحلف وفتح الباب على مصرعيه أمام أعضاء آخرين للحذو حذو تركيا وخاصة بعد التوصل لاتفاق إس 400.
بات واضحاً أن المسعى الإستراتيجي لموسكو كان يهدف لاستقطاب تركيا بشكل تدريجي وضمن سياسة «النفس الطويل» نحو صيغ التعاون في المشاريع الجيوسياسية مستغلة الخلافات الأميركية التركية حول مصير شرق الفرات والعلاقة مع الكرد وموقف تركيا من تسليحهم أميركياً.
بينما إيران التي وجدت في تركيا «رئة اقتصادية ومتنفساً» بعد انسحاب واشنطن من اتفاق النووي معها وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية عليها، حاولت توظيف سوتشي في إحداث مصالحة إقليمية بين سورية وتركيا سعت إليها طهران وعرضتها منذ زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم إلى طهران في شهر شباط الماضي، بهدف إيجاد ائتلاف شرق أوسطي قائم على التصدي للبلطجة الأميركية التي تعاني منها الدول المتخاصمة.
اللافت في هذا الصراع، هو ما أكده تصريح وزير الدفاع التركي خلوصي آكار منذ أيام أن الحكومة السورية تنتهك اتفاق أستانا وليس سوتشي، وهذا يشير أن تركيا لم تتعامل بجدية مع اتفاق سوتشي إلا بما يحقق مصالحها وأهدافها وأجنداتها في سورية، فضلاً عن أن سوتشي محدد بفترة زمنية معينة يتخللها ثلاث مراحل وكان واجب انقضائها مع بداية العام الحالي، وتنص في إحدى فقراتها على استخدام الحل العسكري ضد المجموعات التي تعرقل تنفيذ الاتفاق.
السؤال الأهم اليوم: هو لماذا هذا التوقيت في التوجه نحو الحل العسكري؟ وهل ستكون هذه العمليات مفتوحة؟ وهل فقدت موسكو صبرها السياسي على السلوك التركي؟
للإجابة عن هذا السؤال المركب بجوانبه المتعددة والمترابطة لابد من الوقوف عند النقاط التالية:
أولاً: من المسلم به أن هذا التصعيد العسكري في شمال حماة وحلب وإدلب جاء بعد أيام من انتهاء الجولة الثانية عشرة من محادثات أستانا، وما شهدته تلك الجولة من خيبات أمل إيرانية وروسية من السلوك التركي رغم تعرضه لنكسة داخلية وفشل الضغوط على تركيا التي لم تفِ بالتزاماتها السابقة وعرقلت مجدداً تشكيل اللجنة الدستورية، هذه الأجواء عبر عنها بكل وضوح رئيس وفد الحكومة السورية بشار الجعفري بالقول: «المعضلة في اجتماعات أستانا تتمثل في عدم جدية الجانب التركي في تنفيذ تعهداته».
ثانياً: كان واضحاً أن التصعيد ابتدأته المجموعات المسلحة ضد مواقع للجيش السوري وقرى تحت سيطرة الحكومة ومطار حميميم قبل يومين من بدء الجولة الأخيرة من أستانا، وغالباً كان أردوغان يهدف إلى الهروب خطوة للأمام عبر تغير الضغوط المتوقعة عليه من المطالبة بتنفيذ تعهداته بمحاربة الإرهاب إلى الضغط لوقف التصعيد الذي تنتهجه المجموعات المسلحة بما في ذلك الرسائل التركية في استهداف حميميم.
ثالثاً: هذه العمليات العسكرية السورية التي استطاعت خلال أسبوع واحد تحرير أكثر من 12 قرية، أي معظم ريف حماة الشمالي بما فيها مواقع حيوية عسكرياً واقتصادياً كقلعة المضيق، لا تبدو المؤشرات أنها ستستكمل بالوتيرة ذاتها لعدة أسباب من أهمها تأمين حياة المواطنين السوريين في المناطق المحتلة من الميليشيات المسلحة وعدم السماح باستثمارهم كدروع بشرية أو ورقة ضغط سياسية في المحافل الدولية، وبالتالي ومن وجهة نظر شخصية أعتقد أنها عمليات عسكرية محدودة ومضبوطة في الوقت الحالي لأهداف سياسية من شأنها:
1. كسر الجمود الذي فرضته كباشات ثلاثية أستانا والظروف المعقدة إقليمياً من صراعات وتوازنات هشة ومقلقة.
2. تغيير خريطة التفاهمات السياسية بين مختلف الفاعلين المؤثرين ولاسيما ضامني أستانا، بالتزامن مع تطور تسعى إليه موسكو لتوسيع دائرة الدول المشاركة سواء كان ذلك التغيير تعزيزاً للتفاهمات القائمة أم نسفها لبناء تفاهمات جديدة، ولاسيما أن العمليات العسكرية السورية من شأنها أن تؤسس لمناخ ملائم قائم على قواعد تأسيس لتفاهمات موسعة حول إدلب ومحيطها بعيدة عن الرغبات التركية وبمشاركة خليجية سعودية.
3. صدى العمليات العسكرية في مدينة إدلب على المنطقة الشرقية من سورية، ولاسيما أن تراكم انجازات الجيش السوري سيزيد من حجم التوتر والتخبط لدى ميليشيات «قسد» وقوات الاحتلال الأميركي في ظل تزايد الغضب الشعبي الواسع في الجزيرة السورية، وهذا قد يقود تركيا نحو خيارين إما تسوية محتملة مع واشنطن لإقامة ما يسمى المنطقة الآمنة وإما دفع ميليشياتها من غصن الزيتون ودرع الفرات نحو الانتقام في اتجاهين إدلب وشرق الفرات.
هذا الواقع قد يشكل ذريعة لعدوان خارجي محتمل أميركياً أو إسرائيلياً، نتيجة عوامل متعددة لخلط الأوراق مجدداً:
• الإنجازات المتراكمة التي يحققها الجيش العربي السوري في منطقة خفض التصعيد الرابعة والتي حققت في فترة زمنية قصيرة وأربكت المجموعات المسلحة التي تهاوت بسرعة قياسية وبشكل غير متوقع من داعميها، الأمر الذي قد تسعى الدول المعتدية على سورية لتوظيف الملف الكيميائي أو الإنساني لتبرير عدوانها لوقف الزحف السوري ولرفع معنويات المسلحين، وهذا ما هددت به «واشنطن بوست» منذ أيام من خلال تسريب مطلب عضو الكونغرس آدم كيزنجيز للرئيس الأميركي دونالد ترامب للذهاب لما سماه تأديب النظامين السوري والروسي.
• التعاون السوري العراقي في تطهير الحدود المشتركة بشكل يقضي على البؤر الإرهابية ويسرع من فتح الحدود وكسر الحصار الأميركي وخاصة مع التوجه العراقي بتزويد سورية بالوقود.
• الانزعاج الإسرائيلي من تفعيل منظومة صواريخ إس 300 في سورية وإخفاق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد مرور شهر تقريبا من تشكيل حكومة يمينية وتلقيه صفعة أولى مع بداية ولايته الجديدة في غزة مؤخراً.
إدلب التي أخفق استحقاق أستانا في خرق مشهده، يعاد رسم مستقبله بالنار، في ظل عدم توافر إرادة إقليمية ودولية لحل الأزمة السورية سياسياً على الأقل في الوقت الحالي، وهذه الهندسة العسكرية طالما دفعت الدول قبل المسلحين، للتكيف مع نتائجها، والأمثلة على ذلك تنضح من الجنوب السوري حتى المنطقة الوسطى مروراً بالغوطتين.
الوطن