في دمشق… “رمضان السنة غير كل سنة”!
في أحد أسواق مدينة دمشق التي تعرض حلويات رمضان كخبز المعروك والناعم، والبقلاوة المحشيّة بالفستق الحلبي، والنمّورة بالقشطة والسكر، تمرّ سيدة خمسينية مع أبنائها الثلاثة، تجرّهم من أيديهم بسرعة أمام واجهات المحال لكي لا ينظروا إليها مطوّلاً. تبقى عيونهم الصغيرة معلّقة على أوراق كُتبت عليها الأسعار: ألفا ليرة، ثلاثة آلاف، خمسة آلاف، وغيرها من الأرقام الكبيرة.
“رمضان السنة غير كل سنة”، أكثر عبارة سمعتها تتردد على ألسنة سوريين منذ اليوم الأول لشهر رمضان، الذي كان في استقباله داخل سوريا أسئلة كثيرة، وبعض البهجة التي لا بد منها؛ فالاحتفالات والتحضيرات المعتادة لابد منها رغم كل شيء، بحسب “بي بي سي”.
تنقسم الأسواق مع بداية رمضان على أساس طبقي وبشكل أكثر وضوحاً من أشهر السنة الأخرى، وتختلف الحكايات بين سوق وآخر.
في الأسواق الشعبية وتلك الواقعة في المناطق الأكثر كثافة سكانية، تمتلئ الأزقة والحارات بالقادمين من كل حدب وصوب. وتنشغل النساء بالبحث عن البضائع الأقل سعراً، وبالنقاش مع الباعة على أمل الحصول على بعض التخفيضات، أو كما نسميها هنا “المراعاة”.
تزداد أعباء النساء وقد تحوّلن لأغلبية في المجتمع السوري نتيجة غياب الرجال بعد أعوام الحرب، فأينما التفتنا لا بد أن نجد سيدة تعيل أسرة أو أسرتين وربما أكثر؛ فهناك جدّات مسؤولات عن عائلات أولادهنّ بعد وفاتهم أو غيابهم، وأمهات اضطررن لتحمل عبء تربية أطفال صغار وحدهنّ، بعد أن فقدن أزواجهنّ وآباءهنّ وأخوتهنّ.
ويحلّ الخوف شيئاً فشيئاً محل الأسئلة التي لا أجوبة لها. كيف سنكمل الشهر؟ نحتاج ما يكفي ثلاثين وجبة إفطار وثلاثين وجبة سحور، وإن قررنا الاستغناء عن السحور فالإفطار لا بد منه. هل بإمكاننا أن نقول لأولادنا “لا”؟
وفي أسواق وأحياء أخرى تبدو الأجواء أقل صخباً. ولكن العديد من المطاعم تمتلئ يومياً بالروّاد القادمين لتناول وجبات الإفطار التي تكلّف الواحدة منها مبلغاً يتراوح بين 5,000 – 10,000 ليرة )أي 10 – 20 دولاراً(.
أذكر أن سعر الوجبة ذاتها قبل الحرب ما كان ليتجاوز 500 ليرة، وكثيراً ما كنا نفطر بـ 300 ليرة فقط. تراجعت قيمة الليرة بمقدار عشرة أضعاف خلال الحرب، وازداد سعر كل شيء لأكثر من عشر مرّات، ولم يرتفع مدخولنا بالقدر نفسه بل بات معظم السوريين اليوم يعيشون تحت خط الفقر كما تقول الإحصائيات والأرقام. إنها معادلة حزينة. يقول أحد أصدقائي: “إن أردتُ دعوة عائلتي للإفطار خارج المنزل يوماً واحداً سيكلّفني ذلك ربع راتبي الشهري”.
منذ عام 2011 تغيّر وجه شهر رمضان، ولم يعد يشبه ما كان عليه في السابق. فمنذ ذاك التاريخ أصبح الصيام والإفطار والعيد مصبوغين بلون الدم وصوت المعارك التي عمّت أرجاء البلاد، وهذه السنة، بعد أن خفت صوت المعارك ينشغل بال الجميع بعنوانين عريضين: ضائقة مادية “لم نعرف لها مثيلاً من قبل”، ولوعة فراق أولئك الذين لقوا حتفهم أو سافروا أو اختفوا دون أثر.
ككل عام وقُبيل حلول رمضان بأيام عدة، عاشت مختلف الأسواق السورية اكتظاظ التحضيرات المعتادة، لكن المارّة هذا العام كانوا أكثر من المتسوقين، والأسئلة فرضت نفسها على الجميع. ماذا سنشتري؟ هل الأولوية للعصير أم التمر؟ ربما شراب قمر الدين أقل تكلفة من العصائر الأخرى كالليمون والجلّاب، ولعلّ عرق السوس أو التمر الهندي الخيار الأفضل. هل نكتفي بالأرز والمعكرونة أم نضيف مكوّنات أخرى للمائدة؟ هل هناك إمكانية للحم أو الدجاج، ولو لمرة واحدة؟
تزداد وتيرة العمليات الحسابية، فمتوسط الدخل الشهري للعائلة السورية، والذي لا يتجاوز 200 دولار أميركي، لا يكفي خُمس احتياجاتها الأساسية كما تتحدث بعض التقارير الرسمية، فكيف إن كانت تلك احتياجات موائد الإفطار والسحور، والتي عادة ما تكون زاخرة بأصناف مختلفة، من باب الاحتفاء بالشهر ومكانته في قلوب السوريين.
تفقد أيام رمضان بهجتها لدى كثيرين، إذ يخبرني صديق بأنه أول رمضان يمر على عائلته من دون أي معنى على الإطلاق. “يدقّ المدفع ولا رغبة لنا بالاجتماع على الطاولة وتناول الفطور، ونشعر بثقل غريب يخيّم علينا. حتى في الأيام التي شهدت أقسى فصول المعارك في دمشق ومحيطها خلال السنوات السابقة كنا أفضل حالاً.
لا أدري ما الذي تغيّر لكننا نعجز عن الشعور بأي معنى للفرح”.
وعبارة “يدق المدفع” اليوم في سوريا هي مجرد تعبير رمزي لا فعلي، فقبل الحرب كان مدفع رمضان تقليداً لا ينفصل عن هذا الشهر، حيث تُعلَن ساعةُ الإفطار عن طريق طلقة مدفع تؤذن للصائمين بتناول الطعام.
ورغم تغيّر العادات والتطور التقني بقيت تلك الطلقة من أهم علامات حلول ساعة المغرب، حتى جاءت الحرب، وغاب صوت مدفع رمضان مثل كثير من الأمور الأخرى، وحلّت محله مدافع حقيقية. وحتى بعد أن صمتت تلك الأصوات في معظم أنحاء البلاد، لم يعد مدفع رمضان للحياة.
وكغياب صوت مدفع الإفطار، وغيره من التقاليد كالمسحراتي الذي يوقظ الناس فجراً لتناول السحور، يفتقد السوريون لأحبتهم خلال هذا الشهر.
ولا يبدو من السهل لكثيرين أن يتناولوا وجبات إفطارهم وحيدين، بعد أن كانت “لمّة” العائلة هي أهم ما يميز شهر رمضان، وتفرض الوحدة وتغيّر شكل المجتمع السوري أشكالاً جديدة من المشاركة خلال هذا الشهر.
يبادر البعض لدعوة الأصدقاء الوحيدين لمشاركتهم طقوس الإفطار أو السحور، ويُنشئ آخرون مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي يُطلقون عليها اسم “إفطار افتراضي”. يكتبون فيها: “ناس بالغربة وناس بالبلد وكتار عم يفطروا لحالهم. تعالوا نفطر أونلاين مع بعض. كل حدا بيحضّر أكلته ووقت يدق المدفع منفتح اتصال فيديو أو منصوّر الوجبات ومنتشاركها افتراضياً”.
وفي أماكن أخرى، حيث اضطرت عائلات لا تعرف بعضها لتقاسم أماكن السكن بعد أن نزحت عن منازلها ومدنها وبلداتها، تأخذ مائدة الإفطار شكلاً آخر. وتجلب كل عائلة طبقاً صغيراً حسب مقدرتها، لتكبر المائدة فتتسع للجميع رغم اختلافاتهم وربما خلافاتهم. مشاركة إجبارية لا خيارية، لكنها باتت محببة.
أما تقليد المشاركة الأكثر شيوعاً في سوريا خلال شهر رمضان، وهو “السكبة” أي تبادل بعض الأطعمة بين الجيران خاصة قبل آذان المغرب أو الفجر، فاتخذ وجهاً آخر. تقلّصت كميات السكبة، واستُبدلت الأطعمة المطبوخة المكلفة بأخرى بسيطة أو ربما ببعض السكاكر والحلويات، وفي بعض الأحيان اختارت عائلات إعادة تدوير طبق السكبة وإرساله لعائلة أخرى. “أن نغيّر التقليد أفضل من أن يختفي”، يقول كثيرون، محاولين إسكات صوت الأسئلة المتراكمة ولو لبعد حين.
اقرأ المزيد في قسم الاخبار