حيتان للتجسس وآثار أقدام على الثلج.. الصراع الخفيّ على القطب الشمالي
علي فواز
مع استمرار ذوبان الجليد بفعل الاحتباس الحراري لن يعود القطب الشمالي بقعة نائية عن العالم. سوف يزدحم بالقوافل العابرة بعد انكشاف مسارات شحن غير متوقعة تشبه بأهميتها قناتي السويس وبنما، وتصبح ثرواته الكامنة طيّعة. هذا الانحسار الجليدي يرافقه صراع دولي محموم مرشح للتفاقم في السنوات والعقود المقبلة على من يصل أولاً.
تتكثف آثار الأقدام العسكرية على ثلج القطب الشمالي. أقدام تعود إلى الروس بحسب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. في الولايات المتحدة قلق يحاذي الذعر من التحركات الروسية هناك. هو قلق مبرّر من قوة أمبريالية باتت هيمنتها على العالم موضع شك يزداد رسوخاً كلما تقلّصت سطوتها وهيبتها. مبرّر لأن روسيا أعادت بالفعل بناء قوتها العسكرية في تلك المنطقة حيث أعلنت رسمياً عن زيادة وجودها العسكري، كما أعادت عام 2014 فتح قاعدة عسكرية هناك تعود إلى زمن الحرب الباردة. هو مبرّر أيضاً انطلاقاً من أهمية القطب الشمالي على الصعيدين الجيوسياسي والجيواقتصادي.
روسيا ليست وحدها من يقلق أميركا في القطب الشمالي. هناك أيضاً الصين التي بدأت تبحث عن موطئ قدم لها في المياه الجليدية، رغم عدم محاذاتها للمنطقة. قبل ذلك هناك نزاع محتدم بين الدول التي لها سواحل ممتدة على المحيط المتجمد والدول المتداخلة معه وكل منها يدعي أحقية على جزء من المنطقة. هذا عدا عن الدول الصناعية البعيدة من المنطقة والتي لها مصالح حيويّة فيها كأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية.
على هذه الخلفية ربما يمكن استيعاب الخبر الغريب الذي أوردته وكالة رويترز نقلاً عن صحيفة “أفتنبوستن” النرويجية. الأخيرة أوردت أن صيادين نروجيين في منطقة القطب الشمالي التابعة للنرويج عثروا أواخر نيسان أبريل الماضي على حوت أبيض مثبت عليه طوق يسبح في المنطقة. اتضح أن الطوق يحمل كاميرا ويبدو أنه روسي الصنع. هذا الأمر دفع الصحيفة إلى الاعتقاد بأن الجيش الروسي يقوم بتدريب الثدييات البحرية. المسألة أثارت تكهنات المسؤولين بأن الحيوان ربما يكون فر من منشأة عسكرية روسية.
يعدّ الحوت الأبيض أحد الثديات المعرضة للانقراض في القطب الشمالي. بسبب الاحتباس الحراري، ربما لن يعود هذا الحيوان صالحاً لأعمال التجسس مستقبلاً. يقول الخبراء إنه قد يتوقف عن التغذية والتكاثر. الضجيج المحيط بمحركات السفن يفقد هذه الحيتان القدرة على التواصل والتنقل والكشف عن الفريسة. لهذه الأسباب فإن موتها التدريجي إضافة إلى آلاف الحيوانات الأخرى أمر حتمي.
المفارقة أن هذا الموت سيبعث طريقاً تجارياً لم يكن متوقعاً لعقود خلت. إلا أن هذه المفارقة ليست الوحيدة التي تعبر القطب الشمالي. إذا أردنا تمثيلها باختصار أمكن القول إن العالم يموت لاهياً. تنافس، وصراع وعبث بتوازن الطبيعة يؤدي إلى اختلال في حرارة الأرض. ارتفاع الحرارة يؤدي إلى تفكك أجزاء جليدية ضخمة في أقصى شمال الكرة الأرضية، ما يعيدنا من جديد إلى المنافسة والصراع.
إضافة إلى أهميته الجغرافية والتجارية يختزن القطب الشمالي كماً وفيراً من الثروات الطبيعية بينها النفط والغاز. مع انحسار الجليد بات استخراج هذه الثروات الدفينة أكثر سهولة من السابق. في تقرير صدر عن دائرة المسح الجيولوجيّ الأميركيّة عام 2000، رجّح أنّ القطب الشماليّ يحوي 25 % من الاحتياطيات العالمية غير المكتشفة من النفط.
هذه العوامل لن تجعل الحرارة المتصاعدة هناك محصورة أسبابها بالاحتباس الحراري. ستضاف إليها سخونة المنافسة على الموارد والطرق التجارية حيث يقدّر خبراء أن احتمالات الصراع هناك شبه محتومة. صراع بدأت تباشيره تظهر منذ سنوات وتجلى أخيراً في التصريحات الصادرة من الاجتماع الوزاري لـ”مجلس القطب الشمالي” الذي انعقد في فنلندا في السابع من أيار/مايو الحالي.
المنطقة التي كانت نائية.. أميركا قلقة
للمرة الأولى يخفق الاجتماع الوزاري الدوري لمجلس القطب الشمالي في صياغة إعلان مشترك معتاد بما يؤشر إلى تجذر الخلافات بين أعضائه. غياب الإعلان عن الاجتماع الـ11 للمجلس حلّت مكانه تصريحات محمومة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. يضمّ مجلس القطب الشمالي ثماني دول لها أقاليم في الدائرة القطبية الشمالية، هي روسيا والولايات المتحدة، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، وآيسلندا، والنرويج، والسويد.
تمّ تأسيس المجلس عام 1996 من أجل إدارة الخلافات وتنظيم السباق حول الدائرة القطبية. حاول بومبيو تأليب الدول المشاركة في الاجتماع الأخير ضد ما اعتبره أطماعاً للصين وروسيا. قال إن منطقة القطب غدت ساحة للقوة وللمنافسة. حذّر الصين وروسيا من أن أميركا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام “التحركات العدائية” في المنطقة. وأكّد أن بلاده ستنافس على النفوذ في القطب الشمالي وستواجه محاولات تحويلها لمحمية استراتيجية لأي من الدولتين.
بقي بومبيو وحده خارج الإجماع على أن تغيّر المناخ يشكّل تحدياً أساسياً يواجه القطب الشمالي. في موقف لافت امتدح تأثيرات الاحتباس الحراري لأنها قلّصت برأيه الوقت اللازم للتجارة بين آسيا والغرب. موقف استدعى تعليقاً من مدير مركز القطب الشمالي بجامعة لابلاند الذي قال لمحطة الإذاعة الوطنية الفنلندية إن الولايات المتحدة بقيت وحيدة في الاجتماع في ظل معارضتها لمفهوم تغير المناخ.
وكانت الولايات المتحدة انسحبت من اتفاق باريس للمناخ بعد عام ونصف على إقراره من المجتمع الدولي أواخر عام 2015. وتشغل الصين مركز مراقب في مجلس القطب الشمالي، لكنها ليست دولة في القطب الشمالي. ومع ذلك، فإنها تقوم بتشييد مشروعات للبنية الأساسية في المنطقة الممتدة من كندا إلى سيبيريا وتخطط لتعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي.
وتستخدم الصين طريق القطب الشمالي كجزء من مبادراتها التي أطلقتها تحت اسم “حزام واحد، طريق واحد” لبناء طرق تجارية تربط آسيا بأوروبا. وأرسلت شركة كوسكو الصينية الحكومية للشحن سفينة نقل متعددة الاستخدامات إلى الموانئ الروسية خريف عام 2017 لأول مرة عبر هذا الطريق لإيصال معدات لأجل بناء نفق ومعمل أسمدة.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طرح في نيسان/أبريل الماضي برنامجاً طموحاً لتأمين موطئ قدم لروسيا في القطب الشمالي، بما في ذلك الجهود المبذولة لبناء موانئ جديدة ومرافق أخرى للبنية التحتية وتوسيع أسطول كاسحات الجليد. وقال بوتين في حديثه أمام منتدى القطب الشمالي في سان بطرسبرغ حضره زعماء فنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد، إن روسيا تعتزم زيادة شحنات البضائع بشكل كبير عبر البحر في القطب الشمالي.
وأضاف أن كمية البضائع المنقولة عبر خط الشحن ستزيد من 20 مليون طن متري في العام الماضي إلى 80 مليون طن عام 2025. وأشار إلى أن روسيا، الدولة الوحيدة التي لديها أسطول كاسحات نووية، تتحرك لتوسيعه.
وحالياً تمتلك روسيا أربعة كاسحات نووية، وقال بوتين إن ثلاث سفن جديدة من هذا النوع قيد الإنشاء حالياً. وقال إنه بحلول عام 2035، سيكون لدى روسيا أسطول يتكون من 13 كاسحة ثقيلة، بما في ذلك تسعة تعمل بالطاقة النووية. وحديثاً غطت روسيا المنطقة القطبية الشمالية بقبة إلكترونية من شأنها السيطرة على امتداد طريق البحر الشمالي.
وأفاد موقع “سبوتنيك” أن هذه المنظومة تستطيع التشويش على أنظمة الاتصالات والملاحة والتحكم بالسفن والغواصات والطائرات التي تعبر الحدود بشكل غير مشروع. وبذلك سيكون من الممكن اعتراض أي متسلل دون استخدام الأسلحة.
وبحسب قائد سلاح البحرية الروسي فإن “لمسرح العمليات الحربية في منطقة القطب الشمالي أهمية جغرافية، وعسكرية استراتيجية، إذ تلعب قوات وسفن الأسطول الشمالي والهادي، وقوات الدفاع الجوي دوراً رئيسياً في ضمان الأمن العسكري لروسيا”.
الأرض التي لا يملكها أحد
يعد القطب الشماليّ أعلى نقطة على الكرة الأرضيّة، ويقع في المحيط المتجمّد الشماليّ. في العقود الثلاثة الماضية فَقَد المحيط بالحد الأدنى أكثر من نصف مساحته المغطّاة بالجليد. فشلت معظم محاولات الكشف عمّا يخترنه من قبل شركات النفط العالميّة حتى أتت التغيّرات المناخيّة والبيئيّة لتجعل هذا الأمر متاحاً.
وتشير تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية أنّ نحو 13% من النفط المتبقي على الأرض، و30% من الغاز الطبيعي، و20% من الغاز الطبيعي المسال مازالت مخزّنة في المنطقة، التي تضمّ أطراف أوروبا وآسيا وأميركا الشماليّة، وتقريباً المحيط المتجمد الشماليّ كلّه، وتبلغ مساحتها 27 مليون كيلومتر مربع.
الرحلات عبر ممرات القطب صعبة حالياً ومكلفة. تكاد تقتصر على فصل الصيف الذي تذوب فيه قطع الجليد، بينما يحتاج خلاف ذلك إلى كاسحات جليدية عملاقة تمتلك روسيا حالياً الأسطول الأكبر بينها.
المرور عبر القطب الشمالي يتيح للشحنات البحرية بتقيلص المدة الزمنية للرحلة نحو أسبوعين في بعض الوجهات مقارنة مع الطرق التقليدية التي تمر عبر قناة السويس. هذا الأمر من شأنه أن يسمح بخفض نفقات المحروقات ورسوم عبور القناة إضافة إلى تجنب مخاطر القرصنة في المحيط الهندي.
إلا أن التعقيدات التي تحيط هذا المسار وتحول دون الاتفاق عليه كثيرة ومتعددة. فمن الناحية القانونية لا أحد يملك القطب الشمالي وهو أرض غير تابعة لأي دولة. المرجع الذي يرعى العلاقة بين البلدان الخمسة المتشاطئة والتي تشمل روسيا، والولايات المتّحدة، وكندا، والدانمارك والنروج، هو اتفاقيّة عام 1958 بخصوص الجرف القاري في القطب الشماليّ التي وقعت عليها الدول الخمس.
أما قانونُ البحار المتمثّل باتفاقيّة حقوق الملكيّة في الجرف القاري، الصادرة عن الأمم المتّحدة عام 1982 فلم توقع عليها أميركا بعد. وينص القانون المذكور على أن الحدود الدولية البحرية تمتدّ لمسافة 200 ميل بحري. هذه المسافة تثير نزاعات بين روسيا وكندا والدنمارك بالحد الأدنى. أمّا ما يتعدى هذه المسافة فهو يثير نزاعات أكثر تعقيداً وبين أطراف دولية كثيرة تتجاوز حدود الدائرة القطبية وهي مرشّحة للتصعيد.
سباق الوصول
تتفرع التعقيدات ولا تنتهي في السؤال حول السبل التي من المتوقع أن تلجأ إليها الولايات المتحدة في الصراع على القطب. فالنزاع لا ينحصر بين أميركا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى كما في الملف السوري أو الملف الإيراني. هناك خلاف بيّن بين واشنطن من جهة وبين كندا من جهة أخرى أبرز ملامحه الخلاف على الممرّ الشمالي الغربي الذي يتخلّل جزر كندا ويربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ، والذي تعتبره كندا جزءاً من مياهها الإقليمية، في حين تَعتبرُه واشنطن مياهاً دولية.
هناك خلافات أخرى دفعت النروج، والدنمارك، وإيسلندا، والسويد، وفنلندا إلى تكوين اتحاد NORDEFCO الذي رفع شعار التعاون الدفاعي في القطب الشماليّ.
البارز على هذا الصعيد أن خمساً من الدول المشاركة في مجلس القطب الشماليّ تنتمي إلى حلف الناتو الذي تتزعمه أميركا، وهي كندا، والدانمارك، النروج، والولايات المتّحدة وإيسلندا.
وبينما تبدو الخلافات جليّة بين أميركا وبين حلفائها في الحلف وزملائها في المجلس، لا يعرف بعد كيف ستتصرف واشنطن وما هي استراتيجتها في ظل حاجة البلدان الأخرى إليها عسكرياً لمواجهة طموحات روسيا، الدولة المتسلحة بترسانة عسكرية تفوق سائر جيرانها والتي تتمتع بأطول ساحل على القطب الشمالي.
خلال حقبة الحرب الباردة كان القطب الشمالي داخل دائرة المنافسة والصراع بين روسيا وأميركا. ومنذ العام 2007 تصاعدت حدّة التدخلات العسكريّة في المنطقة بعد أن عمدت روسيا الطامحة إلى دور قيادي في النظام الدولي إلى رفع علمها في إحدى مناطق الدائرة القطبية.
دفعت هذه الخطوة الدول المطلة على المحيط إلى تعزيز قوتها البحرية. كندا التي تعتبر الدولة الثانية بعد روسيا من حيث امتداد شواطئها على المحيط المتجمّد عمد رئيس وزرائها آنذاك إلى زيارة المنطقة لثلاثة أيام رداً على ما اعتبره استفزازاً روسياً. وفي عام 2014، انتهت كندا من مشروع بلغت تكلفته 3.4 مليار دولار لتسيير خمس سفنٍ كدوريّة بحريّة فى القطب الشماليّ، مع المضيّ في عدد من المشاريع لتحسين القدرات العسكريّة شمال البلاد.
بالمقابل كشف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي كان أول رئيس أميركي يزور الدائرة القطبية الشمالية عن استراتيجيّة بلاده الجديدة بشأن المنطقة. الاستراتيجية التي أطلقت عام 2014، أكدت أن أميركا لن تترك الباب مفتوحاً للدول الأخرى، مثل روسيا والصين وكندا والنروج، لرسم خطط بدء عمليات التنقيب عن الغاز والنفط أو لإجراء تدريبات عسكريّة في القطب.
وتعود أهميّة القطب الشماليّ لأميركا إلى العام 1867 حينما اشترت ألاسكا من روسيا لتصبح بعدها دولة قطبيّة.
الميادين