اقتصاد الخير يضخ المليارات وينعش الأسواق في رمضان
قلت في دردشة جمعتني مع أحد الزملاء الإعلاميين معلقاً على كثرة أسراب المتسولين في شوارعنا: بأنها ظاهرة تؤشر في أكثر من اتجاه، بيد أن أبرزها اتجاهان؛ كثرة الممتهنين للتسول كسلاً أو عجزاً أو طمعاً، وغياب ملحوظ للأيدي المناحة، التي يعول عليها على الأقل في التخفيف من أعداد المحتاجين الفعليين، الذين ألجأتهم الحاجة للتسول، بعد أن سدت أبواب الكسب الشريف في وجوههم، لكن زميلنا (ابن حمص) كان أكثر تركيزاً على الاتجاه الثاني، مؤكداً أنهم كانوا قبل الأزمة يتندرون بقلة المتسولين هناك، وأنهم كانوا (قاب قوسين أو أدنى) من إعلان حمص مدينة (خالية) من المتسولين نتيجة كثرة الجمعيات الخيرية وفاعليتها وتعاون المتبرعين..!
تعوق ظاهرة الفقر وضعف القوة الشرائية تحقيق نمو اقتصادي جيد؛ لأن تفشي هذه الظاهرة من شأنه أن يجهض خطط التنمية، ويحرم البلاد من الطاقات البشرية المبدعة، كما يسهم في إضعاف الأسواق، وتدني تصريف السلع والخدمات، ومن ثم الركود الاقتصادي الذي يترك ظلالاً قاتمة على الاستثمارات، أما حكومياً فيضغط الفقر على الإنفاق الحكومي، لأنه يرفع أعداد طالبي الخدمات التي تقدمها الحكومة (أي حكومة)، ولاسيما التعليم والطبابة والبنى التحتية والخدمات الأخرى لهم.
تعاطٍ شعبي..
وفي موازاة الجهود الحكومية لمساعدة من هم دون خط الفقر، تبرز أهمية التعاطي الشعبي مع مسألة الفقر لتخفف الضغوط الهائلة، التي قد تتعرض لها خزينة الدولة كلما تزايد عدد هؤلاء في المجتمع، وتسهم الجمعيات الخيرية والجهات التي تقدم الصدقات والزكاة وغيرها بدور إيجابي في هذا الإطار، عبر ما تقوم به من تقديم المساعدات للمحتاجين والفقراء خاصة في شهر رمضان، وعبر تفتيت كتلة الفقر، وذلك عندما تتجاوز تأمين الاحتياجات الأساسية لهؤلاء والمتمثلة بالغذاء والكساء والدواء، إلى الإنفاق على التعليم والسكن والطبابة وغيرها.
تحفيز..
وتنشط بعض الجمعيات على مدار العام بتحفيز الفقير والمحتاج ليعتمد على نفسه لا أن يبقى متلقياً سلبياً للمساعدات، حيث قامت إحدى هذه الجمعيات بتقديم مكافآت تشجيعية لكل طالب يستطيع أن يحصل على معدل دراسي فوق 70 بالمئة، والنتيجة كانت تميز بعض الطلاب، فيما تساعد جمعية أخرى من هم في سن العمل على اتباع دورات تدريبية مختصة في النسيج والخياطة والكمبيوتر والحلاقة وغيرها، بهدف تشجيعهم لدخول سوق العمل، وأخذ زمام المبادرة في تأمين دخل دائم.
ارتباط متصاعد..
تؤكد الأوساط التجارية بأن هناك ارتباطاً مهماً بين إخراج صدقة الفطر وتحسن حركة الأسواق، وهو ارتباط يتصاعد في العشر الأواخر من الشهر، وكلما اقترب عيد الفطر، مع تسارع الناس لإخراجها، ويقدر باعة ألبسة وجلديات في سوقي الحميدية والبزورية، ممن استطلعنا آراءهم، أن نحو 40-50 بالمئة من مبيعات الشهر تسجل خلال الثلث الأخير منه، في وقت يتراجع فيه الطلب على الأطعمة لصالح كسوة وحلويات العيد.
اقرأ أيضا: انخفاض يطال أسعار الخضار والفواكه بنسبة 50 % في أسواق دمشق
مؤشرات اقتصاد الخير..
ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد قوة وسلامة اقتصاد الخير، وهذه المؤشرات لا تنبع من جانب قيمي وحسب، بل من جانب كمي أيضاً، وذلك بالنظر لضخامة الشريحة التي تتعامل بهذا الاقتصاد، وإذا كان من المتعذر قياس أثر الزكاة الاقتصادي جراء عديد الصعوبات المتعلقة بمعرفة حجم الأموال الواجبة الزكاة، ومدى التزام الأغنياء بإخراجها وفق النصاب الشرعي، فإن الأمر ليس بهذه الصعوبة عند الحديث عن زكاة الفطر المعلومة القيمة (600) ليرة سورية عن كل شخص، والتوقيت (رمضان حصراً).
وباحتساب عدد الأفراد المخرجة عنهم صدقات الفطر على أساس 18 مليون نسمة، فإن إجمالي الصدقات خلال رمضان سيصل إلى 10.8 مليارات ليرة، وبقسمة عدد هؤلاء على خمسة (متوسط عدد أفراد الأسرة السورية)، فإن هناك 3.6 ملايين أسرة مستفيدة، وإن نصيب كل أسرة سيكون 3000 ليرة، ما يعني رصيداً يضاف إلى القوة الشرائية لهذه الأسرة خلال رمضان، وذلك دون احتساب الإنفاق المتعلق بالزكاة، لأنه إنفاق يتم طوال العام، ما قد يعني على أقل تقدير مضاعفة الرقم السابق.
للمصارف دور..
المصارف الإسلامية هي الأقرب بحكم اختصاصها للتعاطي مع موضوع الزكاة والصدقات، وتحرص على إبقاء هذا النوع من التعاملات في النور وبعيداً عن الشبهات، ولاسيما أنه -في الأدبيات الاقتصادية- ينظر إلى تقديم المساعدة للمحتاجين والفقراء، وبصرف النظر عن المانحين والمستفيدين، على أنها جهد اقتصادي تنموي يحسن مؤشرات الأداء الاقتصادي بشكل عام؛ لأنه يزيد معدلات الاستهلاك اللازمة لتحقيق النمو، ما يسهم في تصريف فوائض الإنتاج، وتحقيق أقصى درجات التشغيل والعمالة.. ويشرح مدير غرفة تجارة دمشق الدكتور عامر خربوطلي ما يعرف بـ(أثر بيجو) بأنه إعادة توزيع الثروة من الأغنياء إلى الفقراء، دون أية زيادة في الدخل؛ لأنها ستؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي لدى شريحة الفقراء، بالرغم من ثبات الدخل، وهو ما تؤديه أنشطة الزكاة والتبرعات والصدقات، فهي تضخ المزيد من الأموال في أيدي هؤلاء، قبل أن تجد طريقها إلى الأسواق رافعة الطلب على السلع والخدمات؛ ما يسهم في تحفيز الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد، وهو تماماً ما تحتاجه البلاد لكسر الركود التضخمي، وضمان التشغيل الكامل خلال مرحلة الإعمار.
مستشفى المواساة مبادرة خيرية..!
قد لا يعرف كثير من الناشئة أن مستشفى المواساة، الذي يعد من أكبر مستشفيات البلاد، هو حاصل جهود خيرية تطوعية قامت بها جمعية المواساة، التي أطلقتها مجموعة من رجال الأعمال عام 1944، في سياق المسؤولية الاجتماعية لرأس المال، في وقت كان تداول مثل هذا المفهوم ما زال ضعيفاً إقليمياً وحتى عالمياً، ثم كيف استطاع هذا الصرح الطبي الوطني تخديم شرائح واسعة من السوريين طوال عقود خلت، فضلاً عن تخريج خيرة الكوادر الطبية، التي أسهمت في تعزيز مكانة القطاع الطبي محلياً وخارجياً.
وكذلك مياه الفيجة..
في عام 1908 تمت إسالة جزء من مياه الفيجة إلى دمشق بأنابيب محكمة وتوزيعها على مناهل منتشرة في أنحاء المدينة بوساطة أنبوب من الفونت، حيث نفذ المشروع بالتعاون مع عدد من تجار دمشق، ليتم قطع الطريق على كل المحاولات التي عمدت إليها الشركات الفرنسية لتنفيذ هذا المشروع، الذي أبصر النور عام 1932 كمعمل وطني ضخم، بعد أن كانت المدينة تشرب من مياه السبلان، وتستخدم مياه الأنهار للأغراض المنزلية، واللطيف في الموضوع أن التجار تحملوا نفقات إيصال المياه إلى بيوت الفقراء، دون أن تترتب على هؤلاء أية تكاليف.
المصدر : البعث