المؤامرة الكبرى: وصفها، أطرافها، وكيف نسقطها.
سمير الفزاع
مئة عام من سايكس-بيكو استنفذت كل امكانات هذه الاتفاقية وملاحقها وتجلياتها… ليجد صناع الخريطة والكيانات أنفسهم أمام خطر داهم، ظهر ردّ فعلهم عليه عبر محطات قريبة مثل، (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة… انقلاب صدام على محاولة الوحدة الاندماجية بين سورية والعراق…) وحديثاً نجده بتصريحات لمسئولين دوليين عاصرناهم جميعاً من كلا المعسكرين، تحمل في طياتها الكثير من المعاني التاريخية-الاستراتيجية الخطيرة جداً جداً مثل جون ماكين هيلاري كلنتون ولافروف وبوتين والرئيس الاسد… هذه التصريحات وغيرها تشير بوضوح الى أننا أمام تغير جذري في موازين القوى الدولية وخرائط العالم السياسية كما عهدناها منذ ثلاثين عاما تقريباً.
*سايكس-بيكو يترنح، لماذا؟.
بداية، هذه السايكس-بيكو استنفذت أغراضها لأسباب موضوعية سأذكر بثلاثة منها:
1-وجدت الوصفات الامريكية والغربية عموما طريقاً مفتوحاً جنوب وشرق الكيان بعد إغتيال عبد الناصر فكانت كامب ديفيد وأوسلو ثم وادي عربه بعكس الجبهة الشمالية والشمالية-الشرقية حيث سورية ولبنان، وتعذر إكمال طوق التسويات فتح على الكيان باباً واسعاً من التحديات.
2-تمكن الفلسطينيون بقواهم الذاتية وبمساعدة دول وقوى محلية وإقليمية من إقامة بؤرة لوجود مسلح مقاوم داخل فلسطين المحتلة، وهذا متغير هائل الخطورة والدلالة في آن، وأحد دلالاته المباشرة ضعف قدرة الكيان على خوض حروب واسعة وممتدة حتى داخل حدود فلسطين المحتلة ضد فصائل مقاومة تتسلح بإمكانات متواضعة جداً، فكيف بها وقد راكمت هذه المقاومة الامكانات حتى أصبحت قادرة على قصف مدن وعاصمة الكيان بعشرات الصواريخ الثقيلة والدقيقة؟!.
3-بعد انحياز السادات للمعسكر الصهيو-أمريكي سعت سورية وروسيا -كلاً حسب إمكانياته وعلاقاته في الاقليم والعالم- الى إجتراح ردّ إستراتيجي فعال وفعلي لإسقاط هذه الاتفاقية ودفنها في مهدها عبر خطوات تنتهي برسم تحالف يغير موازين القوى في المنطقة برمتها، ويستعيد المبادرة من يد واشنطن والكيان الصهيوني وعملائهما في المنطقة: بدأت هذه الخطوات في دعم الحكم المناهض لواشنطن في افغانستان، ودعم الثورة الاسلامية في إيران، واتفاقية وحدة مع العراق، وصولاً الى دعم المقاومة الفلسطينية في لبنان وإنشاء طلائع المقاومة الاسلامية في لبنان عبر تفاهم الرئيس حافظ الاسد مع الامام موسى الصدر… أي جدار صد وعزل ومقاومة ممتد من كابول حتى بيروت… ولكن انقلاب صدام حسين كسر هذا التحالف في حلقته العراقية، والتي تكفلت لاحقاً بمهاجمة حلقته الإيرانية، وتغذية الهجوم الاخواني في سورية، والانفصالي في لبنان.
4-في مؤتمر للإيباك لخصت هيلاري كلنتون الأخطار التي تهدد كيان الصهيوني بثلاثة عناوين رئيسية: الديموغرافيا، التكنولوجيا، الإيدولوجيا. وأما الوزير المحنك لافروف فقد كثّف مشهد الحرب على سورية منذ العام 2013، بأن شكل العالم في الغد يتوقف على الشكل الذي تنتهي عليه الحرب في سورية. وأما الرئيس بشار حافظ الاسد فقد كان الأكثر شفافية وجرأة في إختزال القيمة التاريخية للحرب على سورية بكلمات معدودات قالها إبان زيارته للغوطة خلال عملية تحريرها العام 2018:”كل رصاصة أطلقتموها لقتل إرهابي، كنتم تغيرون بها ميزان العالم.. وكل سائق دبابة كان يتقدم متراً للأمام كان يغير الخريطة السياسية للعالم”.
يظهر بعض مأزق خرائط سايكس-بيكو وخصوصا في الكيان الصهيوني، الشريط الساحلي الضيق في ثلاث عناوين رئيسية: الديموغرافيا، حيث نسبة تزايد السكان الفلسطينيون داخل الكيان تهدد بابتلاع هذا الكيان خلال سنوات قليلة خصوصا مع نضوب مصادر الهجرة اليهودية الى الكيان، وتزايد الهجرات المعاكسة منه عند كل مطب أمني أو عسكري. التكنولوجيا: ويقصد هنا صواريخ أرض-أرض بالدرجة الاولى ودقتها وقدراتها التدميرية الواسعة الآخذة بالصعود يوما بعد يوم، وتزود الفصائل المقاومة بصواريخ مضادة للدروع، وتكنولوجيا الطائرات المسيرة، وتزود سورية بمنظومات دفاع جوي فاعلة قادرة على شن ذراع العدو الطولى، سلاح الجو، ليس فوق سورية فقط ولكن فوق لبنان أيضاً ما يشكل حماية لمقاومتها، هكذا يمكن فهم المعارضة المستميتة للكيان الصهيوني وأمريكا وآخرون لصفقة صواريخ أس-300 لسورية… . الجغرافيا، أن الكيان الصهيوني مكون من شريط ضيق يمكن ضرب عمقه، واستهداف كل مقدراته في هذا العمق بيسر عند توفر الوسائل والقرار.
*صفقة القرن، وصفة إنقاذ “إسرائيل”، كيف؟.
سأركز هنا على إبراز بعض الجوانب الميدانيّة المباشرة أكثر من الأبعاد السياسية والإقتصادية والثقافية والأمنية… لخلفيات وأهداف الصفقة. بدأ العمل منذ عقدين على الأقل، على خطين أساسيين لتنفيذ إستراتيجية انقاذ الكيان الصهيوني: أولاً:ضرب واستنزاف وتفتيت القوى المقاومة ومنعها من مراكمة قواها المهددة للكيان، وضرب الحلقة الأهم في دعم وتيسير دعم هذه المقاومات، سورية. ثانياً: إطلاق مشروع/مشاريع سياسي يخلص الكيان من الثقل السكاني الفلسطيني للخروج من مأزق الديموغرافيا، ويمنح الكيان بعداً وعمقاً دفاعياً جديداً يمتد لمئات الكيلومترات لانقاذه من مأزق الجغرافياً أولاً، وليكون عاملاً مساعداً حاسماً في تجاوز معضلة التكنولوجيا عندما يرتبط هذا الكيان بأحلاف ومعاهدات عسكرية-أمنية… فكانت صفقة القرن، المشروع الذي سيبدأ بفلسطين ولن ينتهي عند حدودها. كيف ستنقذ صفقة القرن الكيان الصهيوني؟.
تحدثت عن بعض عناصر هذه الإستراتيجية في مقال سابق بعنوان “هل يجرؤ؟” في 11/2/2019، وأكمل كما يلي:
1-بناء، وتظهير بناء جدار من محطات الانذار المبكر والدفاع الجوي والقواعد العسكرية الممتدة من الإمارات الى البحرين وقطر وحفر الباطن في مملكة آل سعود الى بلدة عرعر الحدودية مع العراق، امتداداً للصحراء الأردنية-العراقية، وصولاً الى طريبيل والرطبة وحتى قاعدة عين الأسد في البغدادي، وقاعدة التنف على المثلث الحدودي العراقي-السوري-الأردني، حتى الجولان السوري المحتل والحدود مع لبنان، وبتمويل سعودي-إمارتي. هنا ألفت لأمرين أساسيين: أولاً:هكذا نعثر على أهم خلفيات قرار ترامب بضم الكيان الصهيوني للجولان العربي السوري المحتل. ثانياً:سبب الزج باسم الأردن إلى جانب السعودية والإمارات في صفقة سلاح مع واشنطن بقيمة 8.1 مليار دولار.
2-سعي حثيث لنزع أي فتيل قد يشعل حرباً بين الكيان وحزب الله، و”تقييد” الحزب بمفاوضات لبنانية-صهيونية بواسطة أمريكية، ونقطة البداية ترسيم الحدود البحرية. حيث يمكن للمفاوضات وخلق منجز إقتصادي بالاستثمار في حقول النفط والغاز في المياه اللبنانية، أن تجبر حزب الله على “الإنكفاء” في الشأنين السوري والإقليمي خوفاً من تبخر أو التسبب بتبخر هذا “الأمل” اللبناني المنتظر إذا ما ردّ على اعتداء صهيوني، أو دخل في صراع معه استناداً الى تحالفاته ضمن محور المقاومة… أمام جمهوره وأمام اللبنانيين جميعاً.
3-كما بدأت واشنطن بإيجاد طرق إمداد لهذه القواعد تكون بعيدة نوعا ما عن ساحات القتال والممرات المائية التي قد تغلق خلال المواجهة، مثل هرمز والمندب والسويس… فدشنت خطاً بحريّاً-جوياً-بريّاً كان “مُستتراً” نوعاً ما، ليصبح اكثر وضوحاً وكثافة وخطورة مع مرور الوقت: الموانئ والمطارات الصهيونية-الأردن-جنوب وغرب العراق وحتى كامل هذا الجدار… وهذا يفسر بعض من “الأريحيّة” الصهيو-أمريكية في توتير أجواء مضيق هرمز وبحر العرب.
4-رفع منسوب التهديد بوجه إيران لمنعها من معارضة صفقة القرن، ودعم القوى المقاومة المناهضة لها، وكبحها عن التدخل في التطورات المرتقبة في سورية، وتأليب الشارع الإيراني على حكومته ونظامه ونهجهما في مقارعة واشنطن ودعم الخط المقاوم.
5-القفز فوق عناصر ديمومة الصراع العربي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني من حقوق مغتصبة ومقدسات مدنسة ولاجئين هُجروا الى مشارق الأرض ومغاربها… بالالتفاف عليها، مثل: طرح خطط توطين اللاجئين حيث هم، وتبادل الأراضي حسب مقتضيات الأمن وقوة الأمر الواقع الصهيونيين، واعلان القدس والجولان أراض تابعة للكيان… وصولاً إلى تمييع هذه العناصر بإجراءات اقتصادية وسياسية وأمنية… تجعل من سورية وايران وكل محور المقاومة عناصر غريبة عن نسيج المنطقة وتزعزع استقرار المنطقة وسلامتها، وتجعل من الكيان الصهيوني حليف وصديق ومكون أصيل من مكونات المنطقة.
*ختاماً، في هذه الإستراتيجية، ومن بوابة هذا “الممر”، يتجلى الخطر الواضح على فلسطين والأردن والعراق وسورية وعموم المنطقة، كل من موقعه ولأسبابه… حيث يُظهر افتتاحه النوايا المبيتة لدى واشنطن وحلفائها: تقسيم العراق، تهديد جدّي بحرب قريبة على سورية، دمج مصر والأردن والجزيرة العربية والكيان الصهيوني في بناء عسكري-أمني واحد كخطوة أولى في النيتو الشرق أوسطي، تشغيل وتعزيز خطوط الطاقة من الجزيرة العربية والعراق إلى الأردن ثم فلسطين المحتلة ومن الجزيرة العربية إلى مصر، ومن هناك إلى أوروبا عبر قبرص، لتحجيم عقدة الطاقة التركية، وتصفير الحصة الروسية الضخمة الى سوق الطاقة الأوروبية… وبالتالي إضعاف موسكو اقتصادياً وجيوسياسياً، وحصار إيران، وتصفية القضية الفلسطينية، ودرء الخطر الوجودي عن كيان العدو الصهيوني… لكن نجاح هذا المخطط بمجمله يتوقف على أمرين حاسمين على الأقل: موقف الشعب العربي عموما والشعب الفلسطيني بشكل خاص، وعلى موقف محور المقاومة وسورية بشكل خاص بالرغم من تعبها وجراحها… فما لديها ليس لدى أحد غيرها.