من الصين إلى تركيا.. سورية الرقم الصعب
محمد نادر العمري
ثلاث أحداث خلال أقل من عشرة أيام شهدتها الميادين الدبلوماسية والعسكرية والسياسية كان لسورية دوراً أساسياً وتأثيرياً في مفاصيلها بشكل مباشر وغير مباشر، الأول تمثل بزيارة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية وليد المعلم إلى الصين، والثاني بروز تراجع القدرة العسكرية للولايات المتحدة الأميركية أمام قدرات محور المقاومة، والثالثة عبر الصفعة المؤلمة التي تلاقها رئيس النظام التركي رجب أردوغان وحزبه في نتائج إعادة انتخاب رئيس بلدية إسطنبول.
هذه الأحداث الثلاثة قد تبدو لبعض المتابعين أنها سلسلة من الاستحقاقات المتناثرة والمترامية، ولكن من حيث طبيعة الصراع الدائر على مستوى النظام الدولي والمنطقة ضمن الفاعلين السياسيين على مختلف مستوى حجمهم الهرمي، نجد أنها مترابطة ولا يمكن فصلها وهي تعبير عن نتائج صمود سورية بعيداً عن أي مشاعر أو رغبات.
فالزيارات الدبلوماسية بين أي دولتين هي تعبير عن الحالة الصحية للعلاقة بينهما وتطوير هذه العلاقة، ولكن رغم أن العلاقة السورية الصينية يمكن تصنيفها بأنها إستراتيجية وبخاصة في ظل المواقف الثابتة التي أبدتها الأخيرة تجاه سورية وشعبها في محاربة الإرهاب وصيانة الشأن الداخلي، إلا أن اللافت خلال هذه الزيارة هو تصريح المعلم من بكين «بأن سورية لا تريد حرباً مع تركيا»، وهذا ما يضعنا أمام سؤال بغاية الأهمية من حيث المضمون والتوقيت، هل تقصد المعلم ذكر ذلك من الصين؟ وأي دور يمكن أن تؤديه الصين في سبيل ذلك؟
انطلاقاً من الواقعية السياسية التي تضعنا أمام حقيقة حساب التصريحات التي تبديها الدبلوماسية السورية منذ عقود، فإن مثل هذا التصريح لم يأت من فراغ، بل ربما في إشارة من رئيس هرم الدبلوماسية السورية على موافقة دمشق على أي مبادرة صينية لضبط السلوك التركي وإيجاد ظروف مواتية لإجراء مصالحة بين الدولتين، نظراً لأهمية وفوائد ذلك حتى المتصلة بالمصالح الصينية بمختلف جوانبها الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية، وهذه المصالح تتمثل بما يلي:
– الخشية والحذر الصيني من عودة المقاتلين الإيغور الذين يتراوح عددهم وفق التقديرات مع عوائلهم بين 5 إلى 7 آلاف شخص، إلى الصين، والخطورة الأمنية التي يمكن يشكلها هؤلاء في حال عودتهم أو توظيفهم من واشنطن.
– الرغبة الصينية في التوجه نحو استثمار اتساع فجوة الخلافات الأميركية التركية، والحصار الاقتصادي الذي تتعرض له الأخيرة لاستقطابها نحو التعاون باتجاه الشرق وبما يكفل ضمان نجاح إحياء مشروع خط الحرير.
– ضمان الصين من توسيع نفوذها نحو المياه الدافئة، أي نحو المتوسط، وهذا يعني امتداد رأس هذا التنين باتجاه المناطق التي سعت واشنطن لتكريس نفوذها عليها، والصين تمتلك المقومات وعناصر فاعلة لتحقيق ذلك وبخاصة عبر الدخول إلى البوابة السورية من خلال السياسة الناعمة على اعتبار:
1- رغم المواقف السياسية للصين في مجلس الأمن وبالاستحقاقات الدولية بدعم الدولة السورية في محاربة الإرهاب، إلا أنها لم تتدخل في الجانب العسكري وهذه النقطة تحسب لها.
2- بكين حاولت التوازن والمحافظة على العلاقات مع جميع الأطراف السورية من حكومة ومعارضة بشقيها الخارجي والداخلي.
3- امتلاكها الخبرة والإمكانات اللازمة في مجال إعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
4- تعرض أستانا لحالة من الجمود ومن ثم يمكن للصين من خلال نقطة الالتقاء في المصلحة أن تدفع هذا الاستحقاق نحو العودة لمساره ولا سيما أنها تدخل في علاقات جيدة مع كل أطرافه.
5- استثمار تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية «الداخلية والخارجية» لتركيا لكبح جماح أطماعها ودفعها لتنفيذ التزاماتها، فضلاً عن تعرض الصين وتركيا في الوقت ذاته للإرهاب الاقتصادي الأميركي أيضاً.
على حين شكل إسقاط طائرة التجسس الأميركية، الأكثر تطوراً على الصعيد العالمي، في مضيق هرمز، صفعة مؤلمة للهيبة والمكانة الدولية لواشنطن، ووضعت حداً لعنجهية الرئيس الأميركي دونالد ترامب من خلال تكبيله بفكي كماشة كخيارين أحلاهما مُرَّ: الأول الغرق في مستنقع شن الحرب لا يعرف عقباها ونتائجها في ظل ما تمتلكه إيران ومحور المقاومة بما فيهم سورية، من عناصر ردعية مفاجأة، والثاني النزول عن الشجرة لاعتبارات تتعلق بحسابات الانتخابات الرئاسية القادمة.
في كلا الخيارين فإن رسالة الحزم الشديدة التي أبدتها إيران كانت تعبيراً عن جهوزية كامل جبهات المقاومة في خوض الحرب، الأمر الذي جعل كلاً من تل أبيب وواشنطن تدوران في دائرة حسابات معقدة من شأنها تقييد سلوكهما العسكري في المنطقة.
بينما مثل فوز أكرم إمام أوغلو مرشح الحزب الجمهوري التركي للمرة الثانية في انتخابات إسطنبول صفعة أكثر من مؤلمة وأقل من حاسمة لأردوغان، لتدفعه نحو خيارين، الأول: إعادة حساباته السياسية الداخلية والخارجية نظراً لما تمثله نتائج هذه الانتخابات من احتمالية أن يرث إمام أوغلو الرئاسة التركية، على غرار النهج الذي اتبعه أردوغان منذ 25 عاماً، أو التوجه نحو الخيار الثاني وهو الدفع نحو المزيد من اتباع سلوك التهور والعدوان وبخاصة في الملف السوري.
إذاً لماذا سورية هي الرقم الصعب في كل ما تشهده المنطقة بشكل خاص؟
الجواب عن ذلك يكمن في طيات هذه الأحداث الثلاث، على سبيل الذكر وليس الحصر، فلو استطاعت واشنطن إسقاط الدولة السورية أو تغير شكل الحكم بها، لكان الإرهاب انتقل للعمق الروسي والصيني والإيراني وحتى التركي، وصمود سورية دون أن نتحدث عن نصر كامل في ظل عدم وجود إرادة دولية وإقليمية للذهاب نحو حل سياسي، من شأنه:
أولاً: فيما يخص الصين فإنه يضمن تنفيذ مشروعها الجيو اقتصادي «الحزام والطريق» في منطقة الشرق الأوسط بعد القضاء على الإرهاب، ويدعم هذا المشروع بنافذة بحرية تطل نحو إفريقيا وأوروبا ويعزز المنافذ الأخرى الطرقية والسككية من جانب، ومن جانب آخر يزيد من الدور السياسي الفاعل للصين في حل الملفات الدولية ويقلص النفوذ الأميركي.
ثانياً: مكن الصمود السوري من تحسين التموضع السياسي والعسكري لمحور المقاومة عموماً، وبالعودة لاتفاق ٥+١ ما كان ليتم لولا صمود أحد أهم أضلاع المقاومة وتمسك دمشق بمحور المقاومة وعدم التنازل عنه.
ثالثاً: اللعنة السورية طالت نظام أردوغان بشكل مباشر فلولا الصمود السوري لكان المشروع الإخواني سيطر على أنظمة الحكم من تونس وصولاً لأنقرة مروراً بليبيا ومصر وغزة وسورية.
في الواقع إن أهم عناصر القوة السورية إلى جانب موقعها الجيوسياسي وصواب انتقاء حلفائها ووقفهم إلى جانبها وتضحيات شعبها هي إرادتها السياسية، وسورية التي كانوا يريدونها فريسة وصيد تسارعوا لانتهاشها، تشكل اليوم الرقم الصعب لا يمكن تجاوزه في المنطقة، وأي توازن لا يمكن أن يتحقق دون وجودها.
الوطن