عبد الباري عطوان: لماذا يفرُك القذافي يديه فرحًا وهو في قبره هذه الأيّام؟
عبد الباري عطوان
لا بُد أنّ العقيد معمر القذافي الزعيم الليبي الراحل يفرك يديه فرحًا في قبره، وهو يرى أحد أكبر طُموحاته السياسيّة تتحقّق عمليًّا، من خلال إعلان 15 دولة في غرب أفريقيا الاتّفاق على اعتماد العملة المحليّة المُشتركة “ايكو” في كُل مُعاملاتها التجاريّة، وفك ارتباطها كُلِّيًّا بالبنك المركزيّ الفرنسيّ و”اليورو”.
مجموعة دول غرب أفريقيا التي تضم بنين، بوركينا فاسو، غامبيا، غانا، غينيا بيساو، كوت ديفوار، الرأس الأخضر، ليبيريا، مالي، نيجيريا، السنغال، سيراليون، وتوغو، اجتمعت قبل يومين في قمّة أبوجا (نيجيريا) وقرّرت اعتماد عُملة موحّدة أطلقت عليها اسم “ايكو” يبدأ التعامل بها، في جميع المعاملات التجاريّة ابتداءً من أوّل العام المُقبل 2020.
ثمانية من هذه الدول التي تمثّل مُستعمرات فرنسيّة سابقة كانت تتعامل بـ”الفرنك” المُرتبط باليورو، وسبع دول أخرى بعملاتها المحليّة، وترى هذه الدول مجتمعة أنّ اعتماد العملة الجديدة المُشتركة “ايكو” خطوة كبرى على طريق تحرير اقتصادها من هيمنة فرنسا ومصرفها المركزي الذي يُحتّم على الدول الثماني التي تتعامل بالفرنك أن تُودِع 50 بالمئة من احتياطاتها من العُملات الأجنبيّة في الخزينة الفرنسيّة، وبفوائد تقل عن 1 بالمِئة.
***
العقيد معمر القذافي الذي كان وراء قيام الاتحاد الأفريقي، كخطوة أولى لتوحيد القارّة الأفريقيّة في دولة واحدة، من عدّة ولايات مِثل أمريكا، كان يُخطّط لصك عملة أفريقيّة مُوحّدة، ورصد مئات المليارات من الذهب لتغطيتها، ولكن هذا الحلم لم يتحقّق، أو كان ممنوعًا من التّحقيق من قبل فرنسا، التي كان يتزعّمها نيكولاي ساركوزي، لأنّه سيُنهي هيمنتها الماليّة والاقتصاديّة على القارة الأفريقيّة، وخاصّةً مُستعمراتها الفرنسيّة السابقة، ولهذا جرى “فبركة” الثورة الليبيّة، وتدخّل حلف “الناتو” عسكريًّا في البلد، ولم يكُن من قبيل الصّدفة أن تقوم طائرات حربيّة فرنسيّة بقصف موكب القذافي وإصابته، وقيام خليّة فرنسيّة أرضيّة بتسليمه إلى “الثوّار” الليبيين لقتله والتمثيل بجثّته بطريقة بشعة، وإقدام المخابرات الفرنسيّة على اغتيال دومنيك شتراوس، رئيس البنك الدولي الأسبق، الذي كان من أبرز الداعمين لمشروع القذافي هذا.
الزعيم الليبي الراحل ارتكب أخطاء، ولم يكُن ديمقراطيًّا على الطريقة الغربيّة، ولكنّه كان صاحب رؤية تحرّريّة ثاقبة من الاستعمار الغربي وأدرانه، والنّهوض بالقارة الأفريقيّة اقتصاديًّا وسياسيًّا، بعد أن يأس من القادة العرب الخاضعين باستمتاع للهيمنة الأمريكيّة، وكادت أن تتحقّق طُموحاته هذه في حياته، لولا المُؤامرات الفرنسيّة والبريطانيّة التي أطاحت به مُستخدمةً أدوات محليّة ليبيّة وبغطاء من الجامعة العربيّة، وأمينها العام في حينها عمرو موسى.
وما يُثلج الصدر، صدرنا على الأقل، أنّ هُناك توجّهًا عالميًّا تقوده الصين وروسيا هذه الأيام لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي من خلال الدولار، وجسّدت قمّة سان بطرسبرغ التي انعقدت الشهر الماضي التي شارك فيها الزعيم الصيني شي جين بينغ، جنبًا إلى جنب مع الرئيس فلاديمير بوتين، استراتيجيّةً واضحةَ المعالم في هذا الإطار من حيثُ عدم استخدام الدولار في التّعاملات التجاريّة بين البلدين التي يبلُغ قيمتها 108 مليار دولار سنويًّا (70 منها بالدولار).
إنهاء التعامل بالدولار الأمريكي، الذي تتسارع خطواته، يعني تقويض أهميّة، وفاعليّة العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة المفروضة حاليًّا على عدّة دول مثل روسيا وإيران والاتحاد الأوروبي، وقريبًا تركيا والهند والصين، ويجد هذا التحرّك تأييدًا من هذه الدول وعدد كبير من الدول الأفريقيّة والآسيويّة والأمريكيّة الجنوبيّة، وحتى الأوروبيّة أيضًا.
المنطقة الوحيدة في العالم التي تصر على الخضوع للهيمنة الاقتصاديّة الأمريكيُة، وتستسلم لابتزاز دونالد ترامب المالي وإملاءاته السياسيّة والعسكريّة هي المِنطقة العربيّة للأسف، التي تتلذّذ بهذا الخُضوع السّادي الطابع ، وما زالت تتعاطى بعنصريّة واستعلاء مع الدول الأفريقيّة، باعتبارها مُتخلّفةً في رأي زعمائها.
مجموع سكان الدول الأفريقيّة التي أصدرت العملة المُوحّدة، يزيد عن 400 مليون نسمة، أيّ نفس تعداد الأمّة العربيّة تقريبًا، ولكن الفارق شاسع للغاية سياسيًّا وأخلاقيًّا واقتصاديًّا، فهذه الدول تملك عُقولًا وخطط استراتيجيّة وفيها أنظمة حكم ديمقراطيّة تسودها المُحاسبة، وقيم العدالة، والمُساواة، ومُحاربة الفساد، وإعطاء الأولويّة للنمو الاقتصاديّ، ورخاء شعوبها.
المُقارنة بين ليبيا وأوضاعها الحاليّة التي وعدنا ساركوزي ورهطه بأنّها ستكون عُنوانًا للديمقراطيّة والازدهار والاستقرار، وحال هذه الدول الأفريقيّة النّاشئة، المُتعاونة الحَريصة على مُستقبلها وأجيالها تُلخّص ما نريد قوله في هذه المقالة، وتفتح أعين المخدوعين الذين صفّقوا لتدخّل حلف “الناتو” وطائراته، وقدّموا له الغِطاء لتدمير بلادهم، ولا نُريد أن نقول أكثر من ذلك.
رَحِمَ الله العقيد معمر القذافي، والشّكر كُل الشّكر للأشقّاء الأفارقة الذين يُقدّمون لنا مثلًا في التحرّر الاقتصادي، وفَك كُل الروابط مع الاستعمارين الجديد والقديم، والاعتماد على النّفس، وتحقيق السّيادة، والاستِقلال الكاملين.
رأي اليوم