النصف الآخر لوجه بوتين
غادة سعد
صورة القائد يتم غالباً بناؤها. لم يشذّ التاريخ عن هذه القاعدة. قديماً حفرت صوَر القادة على العملات وتم نحتها على الحجر لتبقى راسخة في الأذهان. في العصر الحديث، القضية أكثر تعقيداً. منذ تدرّج فلاديمير بوتين في سلّم القيادة، عمل على صناعة صورته. صناعة ساهم فيها الشعب الروسي التوّاق إلى زعيم يُعيد أمجاد بدّدها سقوط الاتحاد السوفياتي. بالمقابل كان الغرب يعمل على تكريس صورة أخرى لقيصر روسيا الجديد، تغلب عليها الشيطنة والشرّ والاستبدادية. في عصر صناعة الصوَر، أي من الصورتين ربحت المعركة؟
يدرك بوتين أهمية الصورة للتقرّب من شعبه ودخول كل بيت روسي
رجل كل المهمات. هكذا هو بوتين عندما تقلّب أرشيف الصوَر الذي يختزنه غوغل، أو صوَر المجلات والمواقع التي ظهر فيها. يُجيد رجل الاستخبارات السابق مهارات عدّة. يُلاعب الدببة، ويصطاد النمور. يجوب السماء مع طيور اللقلاق مُستخدماً أجنحة صناعية. يغوص مع الدلافين، ويركض في الغابة عاري الصدر. يفعل كل شيء تقريباً. قوّة ولياقة لاعب الجودو السابق لا تقلل من وزن ذكائه. هو في الوقت الذي يُجيد فيه امتطاء الخيول كفارس روسي أصيل، يلعب الشطرنج بحذاقة استراتيجي متّقد الذكاء. رئيس روسيا الذي يحمل كل هذه المزايا هو أقرب إلى “جيمس بوند” الذي لا يتوانى عن ملء خزان سيارته روسية الصنع “لادا” بنفسه. هذه الصفات تقود تلقائياً إلى تكوين صورة القائد، التي يسعى إلى بنائها وتتلاقى مع رغبة جماهيرية عند الروس التوّاقة إلى هذه الصورة.
يُدرك بوتين أهمية الصورة للتقرّب من شعبه ودخول كل بيت أسوة بمعظم الزعماء. لذا اعتمد على الإعلام وسيلةً لمشاركة نشاطاته الرياضية بعيداً عن لقاءاته السياسية. كما أنّ بناء هذه الصورة لا يمكن فصلها عن الظروف السياسية التي رافقت وصول بوتين إلى الحُكم.
عند تسلّمه الحُكم بدأت روسيا تشهد تحوّلات تدريجية. شعور الانكسار والضعف الذي استوطن المواطن الروسي في عهد بوريس يلتسين بدأ ينحسر مع خَلَفه بوتين. منذ تسلّمه الحُكم، اضطلع بوتين بمهمة إعادة روسيا إلى موقعها ومجدها بعد سنوات من الضعف عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. في تلك الفترة عمّت الفوضى البلاد وعانى الروس اقتصادياً بعد التحوّل المُفاجئ من أكبر اقتصاد اشتراكي في العالم إلى اقتصاد السوق، الأمر الذي انعكس انخفاضاً في الدخل والمستوى المعيشي.
في عهد بوتين، بدأت الأجواء تتبّدل. خلال كلمته السنوية أمام البرلمان الروسي أخيراً وعد الأخير بأنّ “العهد المقبل سيكون مرحلة انتصاراتنا الساطِعة ونجاحاتنا المشتركة، وأنا واثق من أن ذلك سيحصل”. تردّدت على لسانه عبارة “روسيا المستقبل” التي يطمح إليها، عارضاً ما تم إنجازه منذ تولّيه الحُكم عام 2000 حتى اليوم. تعهّد بوتين بخفض مستوى الفقر بمعدل النصف خلال السنوات الست المقبلة، مشيراً إلى أنه خلال عام 2000، كان عدد السكان الذين يعيشون دون خط الفقر 42 مليوناً، أي ما يعادل 30%، وبحلول عام 2012، جرى تقليص النسبة إلى 10%.
هذه الأرقام توضح أكثر كيف أعاد رجل الاستخبارات السابق إلى شعبه الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني والاستقرار، وهي أمور تدخل في تكوين سيكولوجية الشعب الروسي.
في دراسة بعنوان “مُقاربة لفهم الثقافة السياسية الروسية” أُجريت عام 2016، تشير إلى أنّ بوتين واجه مهمة خلق هوية روسية جديدة على أنقاض الاتحاد السوفياتي، وتجنّب الخطأ المُتأصّل الذي قاد إلى انهياره، وهو غياب القومية.
تقوم الثقافة السياسية الروسية على عدّة دعامات، وفقاً للدراسة التي لخّصتها في ثلاثة أمور. أولاً، الهوية، وهي دعامة أساسية لم تتبلور بعد على الرغم من محاولات دؤوبة؛ لتثبيت مكوّناتها تثبيتا نهائياً على يد القادة المُعاصرين. ثانياً، دور القوّة والتوسّع في الثقافة السياسية الروسية. ثالثاً، الثقافة السلطوية في الماضي والحاضر.
من ضمن مكوّنات الهوية الروسية الداخلية “عبادة الشخصية” التي تُعد الستالينية أبرز تجسيداتها، بحسب الدراسة.
في تحليل لشخصية الشعب الروسي، يصف الفيلسوف والروائي فيودور دوستويفسكي هذا الشعب في مذكّراته بكونه مستعداً للتضحية بكل ما يمتلك من أجل العيش في بلد أكثر قوّة وتهديداً.
في سيكولوجية الشعب الروسي خصوصية تجاه قائدهم. يحبّون الزعيم القوي والصلب الذي يحفظ كبرياءهم.
استراتيجية بوتين في التقرّب من الناس والإصلاحات، لاقت نتائج ملموسة داخلياً وخارحياً. أعيد لروسيا جزء من موقعها العالمي السابق من جهة، وازدادت ثقة الناس وتأييدهم لزعيمهم.
دراسة قام بها مركز أبحاث الرأي العام الروسي “ليفادا” في آب/ أغسطس عام 2017، تظهر أنّ 83% من الشعب الروسي يؤيّدون بوتين. كما أن 58% من المواطنين يثقون به، ليكون بذلك حاصلاً على أعلى نسبة ثقة مُقارنة بمسؤولين سياسيين آخرين.
وفي دراسة أخرى للمركز نفسه حول الصفات التي يحبّها الناس لدى بوتين، وصفه الأغلبية بالرجل الحاسِم والصلب والهادئ والشجاع والواثق من نفسه، والقائد.
بوتين يريدك خائفاً!
يلقى بوتين اهتماماً كبيراً لدى الإعلام الغربي. في شخصية رجل الاستخبارات السابق سرٌ لتكتب عنه كبريات وسائل الإعلام الأميركية. مهما كانت الصيغة، بصيغة المُحِب أو الناقِد، إلاّ أنّ بوتين نجح في تصويب العدسات نحوه.
الإعلام الغربي يرى أنّ الشعب الروسي يمتلك دوافع عدّة لكراهية بوتين. بنظره روسيا تعاني من تراجع اقتصادي مردّه العقوبات الغربية عليها، فقد افتعل بوتين حرباً في أوكرانيا، واجتاح القرم، وتسبّب بقتل مدنيين أوكرانيين.
أخيراً، نشر توماس فريدمان مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، تهجّم فيها على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، متّهماً إياه بإخفاء شيء ما حيال التحقيق في التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية.
فريدمان اعتبر أنّ بوتين “استغلّ الحرب السيبرانية لتسميم السياسة الأميركية ونشر الأخبار الوهمية، للمساعدة في انتخاب مُرشّح فوضوي، كل ذلك من أجل إضعاف ديمقراطيتنا”.
البروباغندا الغربية ذهبت إلى تحليل شخصية بوتين. بحسب موقع شكبة MSNBC الأميركية، يفتخر الأخير بمهارتين اكتسبهما منذ أيام عمله في الاستخبارات. تعلّم حينها التواصل مع الناس والتعامل مع المعلومة.
في تلك المرحلة، تعلّم بوتين كيفية تحديد وتشغيل عُملاء واكتساب الصبر. وكزعيم لروسيا، استخدم هذه المهارات للتعامُل مع كل مَن يقف في طريقه، بحسب الموقع الأميركي.
ويشير الموقع إلى أنّ زعيم روسيا يتجنّب الخطابات الطويلة، يجاوب على أسئلة خصم سياسي خلال سجال مباشر على الهواء. منذ عام 2000، أصبح “خبيراً في التواصل ” مع المواطنين الروس ووسائل الإعلام والصحافيين.
أحد كتّاب موقع “يو أس نيوز” يصف الرئيس الروسي بكونه “يُجسّد القوّة”. على الأقل هو الأمر الذي يريده مروّجو “البروباغندا الروسية أن نصدقه حول بوتين، على حد تعبير كاتب المقال برت بروين.
يرى بروين أنّ الشخصية القوية لبوتين هي التي تقف وراء تأثير روسيا حول العالم.
يقارن بين الأخير والرئيس الحالي لأميركا دونالد ترامب، قائلاً “بوتين يعرف جيداً كيف يلعب دور الرجل السيئ لمصلحته، فيما ترامب يغضب الناس. بوتين يلعب على مخاوف الناس”. “بوتين يريدك أن تكون خائفاً” يضيف بروين.
أحد الدروس التي تعلّمها كاتب المقال، خلال دراسته “البروباغندا الروسية” في البيت الأبيض، هو أنّ المسؤولين الروس لا يحاولون إثبات أنهم على حق، “يريدونك ألا تصدّق شيئاَ وأن تخاف كل شيء وقبل كل شيء أن تخاف زعيمهم”.
“في الواقع، إنّ الرسائل الروسية مبنية اليوم حول شخص واحد. هو فلاديمير بوتين، نراه في كل مكان يفعل كل شيء” يرى بروين.
هذه الشخصية المُلفتة، اختارتها مجلة “تايم” الأميركية عام 2007، لتكون “شخصية العام” على غلاف صفحتها، نظراً لاعتباره من القوى التي تشكّل العالم.
“تايم” عنونت مادتها “ولادة قيصر”. تذكر ألاّ أحد قد ولد مع نظرات كتلك التي لدى بوتين، العينان الزرقاوان الباهتتان، خالية من المشاعر، إنها إيماءات شخص يدرك أنّ السلطة يمكن أن تتحقق بقمع الاحتياجات العادية. نظراته تقول “أنا المسؤول”.
كاتب المقال لدى المجلة الأميركية أدي إغناثيوس، الذي أجرى المقابلة مع بوتين، يرى في الأخير أنه “مالك للسلطة” كانطباع أول كوّنه.
هذه النظرات السلطوية التي تعطي انطباعاً بأن زعيم روسيا هو أقوى رجل، يحاول موقع شبكة “سي ن ن” تفسيره، من خلال مقال بعنوان “لماذا بوتين هو أقوى رجل؟”.
تجيب أنه من أجل فهم بوتين، يجب أن تفهم روسيا. شهدت المئة سنة الأخيرة سقوط النظام الملكي، وانهيار الديمقراطية، الكساد الكبير، والحرب العالمية الثانية مُخلّفة عشرات الملايين من القتلى الروس، وتوتاليتارية ستالين، وانهيار الشيوعية، وتفكّك الاتحاد السوفياتي، وعهد يلتسن الشاهِد على الفوضى والفساد. ومن بعد كل ذلك، أتى بوتين، مبشراً بالاستقرار، ورافعاً مستويات المعيشة، وقد زاد احترام وأهمية روسيا في العالم، على حد تعبير”سي ن ن”.
وتضيف الأخيرة أنّ بوتين يفهم روسيا “ولكنه، يفهم العالم أيضاً. ليس أحمق لمهاجمة أوروبا وأميركا. يدرك أيضاً ضعف “المجتمعات الحرّة”، وبكلمات أخرى بوتين “يفهمنا جيّداً”.
الميادين