هل هناك أبعاد أخرى غير التي نعرفها؟ 4 من أكثر ألغاز الفيزياء غموضًا
ظل أينشتاين خلال 30 سنة الأخيرة من حياته يبحث دون كلل عن ما يطلق عليه «نظرية المجال الموحد»، النظرية القادرة على وصف قوى الطبيعة في إطار شامل مترابط. لكن أينشتاين لم يكن مدفوعًا بأشياء ترتبط غالبًا بالمسلك العلمي، مثل محاولة تفسير هذه أو تلك من البيانات التجريبية، لكنه كان مدفوعًا باعتقاد حماسي أن الفهم العميق للكون قد يكشف عن أكثر عجائبه مصداقية، وأراد أن يلقي الضوء على أحداث الكون بوضوح لم يصل إليه أحد من قبل، ما يجعلنا نقف خاشعين أمام أناقة الكون وروعته.
ومع أن أينشتاين لم يتوصل أبدًا لتحقيق هذا الحلم، لوجود العديد من المعوقات التي وقفت عثرة في سبيل تحقيق ذلك، استطاع الفيزيائيون خلال النصف قرن الأخير، الوصول إلى فهم أعمق عن كيفية عمل الكون، بعد جهود مضنية وتجارب عديدة، كللتها نجاحات وإخفاقات، وبناء على اكتشافات من سبقوهم بالطبع. مع ذلك، العديد من الأمور تظل ألغازًا محيرة لا تفسير لها، نتناول في السطور التالية بعضًا منها.
ماذا نعرف عن المادة المظلمة؟
البروتونات وأنوية الذرات العادية هي أساس كل أشكال المادة الساطعة، التي تظهر في جميع مشاهداتنا الفلكية. ومع ذلك، فإن حركة المجرات الحلزونية مثلًا، تبيِّن أن المادة الساطعة المرصودة لا تُفسِّر وحدها قوة الجذب المؤثرة في هذه المجرات.
هناك مادة موجودة في الكون، لكنها ليست ساطعة، بل يجري استشعارها من واقع جاذبيتها التي تسحب النجوم والمجرات، ويبدو أن أغلب هذه المادة المظلمة مكوَّن من مادة عجيبة لم نكتشف هويتها بعد. إن أكثر من 90% من المادة لم يُرصَد بعد، ويبدو الكون الذي نراه بواسطة إشعاعاته الكهرومغناطيسية أقل بكثير في الحجم من تلك المادة المظلمة الغامضة، التي لا تظهر مطلقًا على أي طول موجي في تلسكوباتنا.
ومن الأفكار المحتملة المثيرة للاهتمام، فكرة أن المادة المظلمة قد تتكوَّن من كميات هائلة من الجسيمات دون الذرية، التي لا تتفاعل تفاعلًا كهرومغناطيسيًّا، وإلا لكنَّا رصدنا الإشعاع الكهرومغناطيسي الصادر عنها. وأحد الجسيمات المرشحة بقوة هو النيوترينو، الذي يمكن أن تتسبَّب كتلته الطفيفة، لكن غير الصفرية، في جَعْل سحب ضخمة من هذا الجسيم يجذب بعضُها بعضًا، وتساعد على البدء في تكوين المجرات.
في الحقبة المبكرة من عمر الكون، كان من شأن هذه النيوترينوات أن تتحرك بنشاط فائق، بحيث تضاهي سرعتُها سرعةَ الضوء. ووفق المصطلحات المتخصصة تُوصَف هذه الكيانات الطائرة بصفة «الحارة»، وتُظهر عمليات المحاكاة الحاسوبية لتطور المجرات في كون مليء بهذه «المادة السوداء الحارة»، أن المجرات تتكون في عناقيد كثيفة ذات فراغات كبيرة فيما بينها، ومع ذلك لا تبدو النماذج الحاسوبية للكون مشابهةً لما يرصده الفلكيون في الواقع.
كان تطور المجرات سيسير على نحو مختلف تمامًا لو أن هذه المادة السوداء تكوَّنت من جسيمات ضخمة بطيئة الحركة، ومن ثَمَّ «باردة». لكن مشكلة هذا الطرح هي أنه لا وجود لمثل هذه الكيانات في النموذج المعياري؛ لذا إذا كان هذا هو حل مشكلة المادة المظلمة، فمن شأنه أن يستدعي سؤالًا آخر: ما هي هذه الجسيمات؟
يأخذنا هذا إلى الأفكار الحالية بشأن ما يكمن خلف النموذج المعياري. تطرح إحدى النظريات المفضلة فكرةَ وجود جسيمات «فائقة التناظر»، وأخف هذه الجسيمات يتضمن أشكالًا لا تستجيب للقوة الكهرومغناطيسية أو القوة الشديدة، لكن يمكن أن تكون أثقل بمئات المرات من البروتونات.
قد تملك التصادمات التي تحدث في أعلى معجلات الجسيمات طاقةً، وتحديدًا المعجل تيفاترون -قبل إغلاقه- في مختبر فيرميلاب، ومصادم الهادرونات الكبير في سيرن (المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية)، الطاقةَ الكافية لإنتاج هذه الجسيمات، وإذا جرى العثور على مثل هذه الجسيمات، فسيكون التحدي هو دراسة خصائصها تفصيلًا، وتحديدًا معرفة ما إذا كان بإمكانها أن تكون عناقيد كبيرة الحجم من المادة المظلمة في الحقبة المبكرة من عمر الكون.
النيوترينوات.. أشباح الطبيعة
في النموذج المعياري للجسيمات، يُفترض أن تكون النيوترينوات عديمة الكتلة، وسبب هذا الافتراض هو أنه لم يتمكن أي شخص من أن يقيس قيمة محدَّدة لأي كتلة قد تحملها هذه النيوترينوات، فمقدار كتلتها ضئيل للغاية لدرجة أنه من الممكن أن تساوي صفرًا. ومع ذلك، لا يوجد مبدأ أساسي نعلمه ينصُّ على أن تكون النيوترينوات عديمة الكتلة، بل في واقع الأمر، بتنا نعرف الآن أن النيوترينوات لها كتلة، كتلة ضئيلة للغاية مقارنةً حتى بكتلة الإلكترون، لكنها رغم هذا ليست صفرية.
توجد ثلاثة أنواع معروفة من النيوترينوات: النيوترينوات الإلكترونية، والنيوترينوات الميوونية، والنيوترينوات التاوونية، وهي تحمل هذه الأسماء نظرًا إلى أنها تُنتَج برفقة هذه الجسيمات ذات الشحنة الكهربية التي تتقاسم معها اسمها. وتُطلق التفاعلات الاندماجية، التي تجري داخل الشمس نيوترينوات من النوع الأول.
وفي ميكانيكا الكم، للجسيمات خصائص شبه موجية، ومثلما تتخذ تذبذبات المجال الكهرومغناطيسي سمات شبه جسيمية «الفوتونات»، تتخذ أيضًا جسيماتٌ كالنيوترينوات تذبذباتٍ شبه موجية بينما تنتقل عبر الفضاء؛ ومن ثَمَّ فهي تكون موجة ذات احتمالية متغيرة. والنيوترينو الذي بدأ رحلته بوصفه نيوترينوًا إلكترونيًّا قد تتغير احتماليته مع تحركه، بحيث يتحوَّل من نيوترينو إلكتروني إلى نيوترينو ميووني، أو نيوترينو تاووني، بينما يبتعد عن المصدر الذي انطلق منه.
لكن كي يحدث هذا الأمر، على النيوترينوات أن تمتلك كتلًا متباينة، وهو ما يعني ضمنًا أنه ليس من الممكن أن تكون جميعها عديمة الكتلة. وعلى امتداد عدة عقود، قِيست شدة النيوترينوات الإلكترونية الآتية من الشمس، وفي ضوء معرفتنا بالطريقة التي تعمل بها الشمس، أمكن حساب عدد النيوترينوات الإلكترونية التي أنتِجت، ومن ثَمَّ حساب شدتها حين وصلت إلى الأرض. لكن حين أجُرِيت الحسابات، وجدنا أن شدة النيوترينوات الإلكترونية الآتية إلى الأرض أقل بمعامل قدره اثنان أو ثلاثة عن المتوقع.
كانت هذه أول بادرة تدل على أن للنيوترينوات الإلكترونية كتلة، وأنها تتغير إلى أنواع أخرى وهي في الطريق. رُصِدت مواطن شذوذ أخرى مشابهة في خليط النيوترينوات الإلكترونية والنيوترينوات الميوونية المنتجة حين تصطدم الأشعة الكونية بطبقة الغلاف الجوي العليا، وقد أكدت سلسلة من التجارب المكرَّسة لهذا الغرض أجُرِيت في نهاية القرن العشرين أن النيوترينوات لها بالفعل كتلة، وأنها تتأرجح من شكل إلى آخر أثناء حركتها.
وقد تمكنت تجربة أجُرِيت في مرصد ساندبري للنيوترينوات (أونتاريو) من رصد النيوترينوات الإلكترونية الآتية من الشمس، وليس هذا فحسب، بل تمكنت أن تحصي أيضًا العدد الإجمالي لكل الأنواع، وهو ما أكَّد أن العدد الإجمالي كان مماثلًا لذلك الذي جرى التنبؤ به.
أوضح هذا الكشف أن النيوترينوات الإلكترونية تغيَّرَتْ بالفعل، بيد أنه لم يوضِّح النوع الذي فضَّلت النيوترينوات أن تتغيَّر إليه. ثم بدأنا في تجارب «الخط القاعدي الطويل»؛ إذ يجري في مختبرات على غرار سيرن، وفيرميلاب، وكيه إي كيه (KEK) في اليابان، إنتاج حزم من النيوترينوات تحت السيطرة، وقياس طاقة النيوترينوات وشدتها وتركيبتها (النيوترينوات الميوونية بالأساس) عند المصدر، ثم تُوجَّه عبر الأرض كي يجري رصدها على بُعْدِ عدة مئات من الكيلومترات في مختبر بعيد تحت الأرض.
وعن طريق مقارنة تركيبة الحزمة عند وصولها بتركيبتها لدى انطلاقها، يصير من الممكن تحديد أي النكهات تحولت إلى نكهات أخرى، ومدى السرعة التي يجري بها هذا الأمر، وانطلاقًا من ذلك يكون من الممكن أن نحسب الكتل النسبية لكل نوع.
وخلال العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، من المنتظر أن نحصل على ثروة من المعلومات بشأن النيوترينوات الغامضة بفضل هذه التجارب. وسيمدنا تحديد نمطِ كُتَل النيوترينوات ببعض المؤشرات المفقودة بالنموذج المعياري، فنحن لا نعلم السبب الذي يجعل الكواركات واللبتونات المشحونة تمتلك كتلًا بهذه المقادير تحديدًا، وإن امتلاك هذه الجسيمات لتلك القيم لأمر محوري للغاية بالنسبة لوجودنا؛ ولذا فإن فهم هذا الأمر من شأنه أن يمثِّل طفرة علمية كبيرة. ويمكن لتحديد كتل النيوترينوات أن يمدنا بأدلة حاسمة تساعدنا في كشف النقاب عن هذه الأحجية.
يمكن أيضًا أن يكون لكتل النيوترينوات تأثير في علم الكونيات. فالنيوترينوات الضخمة من الممكن أن تكون قد لعبت دورًا في تكوين البذور الأولى للمجرات، ويمكنها أن تلعب دورًا ما في تفسير طبيعة المادة المظلمة المنتشرة في كل مكان بالكون، وقد تؤدي الدراسة المتزايدة لخصائصها إلى اكتشافات غير متوقَّعة.
لغز المادة المضادة
تحيط بـالمادة المضادة هالة من الغموض، تلك المادة التي يُفترض أن تكون نسخةً مطابقة من المادة المألوفة لدينا، لكن اليمين يكون فيها يسارًا، والشمال جنوبًا، ويسير الزمن فيها على نحو معكوس. وأكثر خصائص هذه المادة شهرةً هي قدرتها على تدمير المادة في غمضة عين، بحيث تحوِّل المادة التي تتألف منها أجسامنا إلى طاقة صافية.
في الخيال العلمي، تغري الكواكب المكوَّنَة من المادة المضادة المسافرين جاذبةً إياهم نحو هلاكهم، لكن في الواقع الفعلي، ووفق كل ما توصلنا إليه بعد عقود من الأبحاث الفيزيائية التجريبية، فإن الكون الوليد كان كأتون متقد من الطاقة، توازنت فيه مقادير المادة والمادة المضادة. وهذا يستدعي السؤال: لماذا لم تفنَ المادة والمادة المضادة في رقصة محمومة من الإفناء المتبادل؟ وما السبب وراء وجود أي شيء في كوننا اليوم، بعد مرور نحو 14 ألف مليون عام على مولده؟
يمس هذا اللغز حقيقة وجودنا ذاته؛ فأجسامنا تتألف من المادة، شأنها شأن كل شيء آخر نعرفه في الكون، وليس هناك مناجم للمادة المضادة على الأرض، وهذا أمر مفهوم لأنها ستُدمَّر على الفور من قِبَل المادة المحيطة بها مُحدِثةً نتائج كارثية.
بعد الانفجار العظيم بنحو 300 ألف عام، انخفضت حرارة الكون الإجمالية لما دون 10 آلاف درجة، وهذا مقارب لحرارة النطاقات الخارجية للشمس اليوم، أو أقل بقليل. في هذه الطاقات، صارت الإلكترونات السالبة الشحنة الكهربية قادرة أخيرًا على الخضوع لقوة الجذب الكهربي لأنوية الذرات الموجبة الشحنة، ومن ثَمَّ فقد اتَّحَدت معها مكوِّنة الذرات المتعادلة الشحنة. وتحرَّرَ الإشعاع الكهرومغناطيسي وصار الكون شفَّافًا، بينما انطلق الضوء دون عائق في أرجاء الفضاء.
إلى الآن، تمدَّد الكون وبردت حرارته لنحو 10 إلى 15 مليار عام، والإشعاع الكهرومغناطيسي الذي كان في ما مضى حارًا صار يُكَوِّن الآن طيفَ جسم أسود ذا درجة حرارة قدرها نحو ثلاث درجات فوق الصفر المطلق. ويُعَدُّ هذا الاكتشاف الذي قام به كلٌّ من بنزياس وويلسون منذ نحو نصف القرن أحدَ أعظم الاكتشافات التي تدعم نظرية الانفجار العظيم، واليوم تكشف قياسات الدقة التي تجرى على هذا الطيف بواسطة الأدوات المحمولة على أقمار صناعية، عن تفاوتات طفيفة في الإشعاع الميكروني الكوني، وهذه التفاوتات تشير إلى أوائل المجرات التي تكوَّنت في الحقبة المبكرة من عمر الكون.
وهكذا يكون لدينا فهم كمي، بل نوعي أيضًا، للكيفية التي انتهت بها بذور المادة الأساسية داخل أجسادنا، لكن يظل هناك لغز يكتنف ظهورها بصحبة المادة المضادة في ذلك الانفجار العظيم، وهو: أين ذهبت المادة المضادة كلها؟ في مطلع القرن الحادي والعشرين، لا يزال هذا أحد الأسئلة التي ننتظر لها جوابًا.
هل هناك أبعاد أخرى أكثر من تلك التي نعرفها؟
وفق أحدث النظريات، ما الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمني إلا جزء من كون أعمق من ذلك، فهناك أبعاد تقع خارج نطاق إدراك حواسنا المعتادة، لكن من الممكن الكشف عنها في التجارب المستقبلية العالية الطاقة التي ستُجرَى في مختبر سيرن.
ولاستيعاب هذه الصورة، تخيَّلْ كونَنا وقد أدركته مخلوقات مسطحة لا تعي سوى بُعْدين فحسب، أما نحن بفضل وعينا الأفضل منهم فنعي وجود البُعْد الثالث، وبهذا يمكننا أن نتخيل لوحين مستويين يفصل بينهما مليمتر واحد على سبيل المثال. ومن الممكن أن تتسرب تأثيرات القوى الواقعة على أحد اللوحين إلى الفجوة، بَيْدَ أن الكائنات المسطحة لن يسعها إدراك ذلك، سيكون بوسعها إدراك التأثيرات اللاحقة، التي ستكون واهنةً مقارَنةً بالتأثيرات المنحصرة داخل كون اللوح المسطح الذي تعيش فيه وتستشعره.
اقرأ أيضا: لم يعتبر العدد 137 أحد أعظم الألغاز في الفيزياء؟
الآن تخيَّل أننا نحن تلك الكائنات المسطحة، وأننا نقطن كونًا ذا أبعاد أعلى. الفكرة هنا هي أن قوة الجاذبية تبدو لنا ضعيفة لأنها تأثير لقوى أخرى تتسرب بعيدًا نحو الأبعاد الأعلى لكوننا؛ ولهذا حين نستشعر قوة الجاذبية، إنما نحن نستشعر تأثير القوى الموحدة الأخرى التي تسرَّبت بعيدًا إلى الأبعاد الأعلى، تاركةً أثرًا بسيطًا ليؤدي عمله. بل يمكننا أيضًا تخيُّل أحد الجسيمات وهو ينتقل من أبعادنا المسطحة إلى أبعاد أخرى أعلى، ومن ثَمَّ فإنه يختفي فعليًّا من كوننا كما نعرفه.
وهكذا في التجارب الجديدة التي ستُجرَى في مصادم الهادرونات الكبير في سيرن، سيترقَّب الفيزيائيون العلامات الدالة على ظهور الجسيمات أو اختفائها تلقائيًّا. وإذا حدث أن رُصدَت مثل هذه الظاهرة على نحو منتظم، فسيمكنها أن تقدِّم لنا الدليل على أن هناك أبعادًا أخرى في الطبيعة غير الأبعاد المكانية الثلاثة، والبُعْد الزمني، لكننا لا نعيها في الوقت الحالي.
ساسة بوست